مع حلول عطلة رأس السنة القمرية الجديدة في 25 كانون الثاني/يناير، تزايدت المخاوف مع إعلان الخبراء أن التهاب الرئة الناجم عن فيروس كورونا الجديد لم يعد محصورًا في مدينة ووهان - الصين. ونظرًا للغموض الكبير الذي ما زال يكتنف هذا الفيروس، جاء رد فعل الجمهور الدولي كنوعٍ من الهستيريا الجماعية تجاه فكرة انتشاره. وعلى الرغم من أن معظم الذين أصيبوا بفيروس كورونا أو لاقوا حتفهم بسببه هم من الصين، فقد فرضت بلدان أخرى قيودًا على المسافرين من الصين أو حتى حظرًا تامًا على الرحلات القادمة منها.
وفى حين يراقب المسؤولون الصينيون ردود أفعال المجتمع الدولي، هناك العديد من الدلائل التي تشير الى أن الأزمة الأخيرة قد تساهم في تشكيل بعض جوانب السياسة الخارجية للصين. ومن ناحية أخرى، تتفهم الصين المنطق الكامن وراء قرارات الدول التي اختارت تعليق السفر، ولا تكن لها الضغينة - باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عصر ما بعد الماوية، يمكن وصف السياسة الخارجية الصينية عمومًا بأنها واقعية ومدفوعة بالمصلحة الوطنية.
ومع ذلك، استمر تأثير الكونفوشية في الحضارة الصينية منذ ألاف السنين، حيث ساهمت في تميز السياسة الخارجية الصينية. وعلى وجه الخصوص، يشكّل الاعتراف الدولي مصدرًا مهمًا للشرعية بالنسبة للحكومات الصينية المتعاقبة. وفي هذه الفترة الحساسة، فيما تشرع الحكومة الصينية بتعبئة مواطنيها ومواردها لمواجهة أزمة فيروس كورونا، يتطلع المسؤولون الصينيون أيضًا إلى الاعتراف والمديح الدوليين تجاه سياسة بلادهم لمكافحة الفيروسات، وذلك بغية إثبات شرعية سياستها لجمهورها المحلي.
جاءت استجابة الولايات المتحدة لانتشار فيروس كورونا في الصين، على عكس ما توقعته الصين من المجتمع الدولي، مما دفع وسائل الإعلام الصينية الى نشره وإدانته على نطاق واسع. وبحسب هوا تشون ينغ، المتحدثة باسم وزارة الخارجية في جمهورية الصين الشعبية، فإن الولايات المتحدة كانت "أول من قام بإجلاء الموظفين من قنصليتها في ووهان، وأول من اقترح الانسحاب الجزئي لموظفي سفارتها، وأول من فرض حظرَ سفرٍ على المسافرين الصينيين." وانتقدت هوا علنًا الولايات المتحدة بسبب "المبالغة في ردة الفعل" و"خلق موجة من الذعر وبثها"، ما يدل على امتعاض الحكومة الصينية من الولايات المتحدة لأنها دفعت دولاً أخرى إلى فرض قيود على السفر إلى الصين. وبشكل أكثر وضوحًا، يشعر المسؤولون الصينيون بالقلق إزاء المثال الذي وضعته الولايات المتحدة لدول أخرى حيث انه يتعارض مع آمالها في الحصول على الدعم الدولي خلال فترة الأزمة التي تمر بها البلد.
بالنسبة للصين، قد يكون الدعم المعنوي والاعتراف الدولي على قدر من الأهمية بما يوازي الإمدادات الطبية، وذلك في إطار العلاقات العامة. وكما أن الكونفوشيوسية تقدّر الثناء والاعتراف الدوليين، فإنها تعطي الأولوية لسياسة المعاملة بالمثل. فعلى مدار التاريخ الدبلوماسي لجمهورية الصين الشعبية، منحت هذه الأخيرة مبالغ كبيرة من المساعدات الخارجية إلى دول أخرى عربونًا عن الدعم المتبادل. ولعل أكثر الحالات شهرة في هذا المجال هو مدى المساعدات الخارجية الضخمة التي ما زالت تقدمها جمهورية الصين الشعبية إلى دول إفريقيا ردًا على تصويت تلك الدول لاستعادة جمهورية الصين الشعبية مقعدها في الأمم المتحدة في عام 1971.
سياسة المعاملة بالمثل في الشرق الأوسط: آثار الدعم الإماراتي والإيراني
قد يكون هذا الجانب من القوة الناعمة الصينية الآن مؤاتيا لمساعدتها في تشكيل سياستها الخاصة بالشرق الأوسط، خاصة في ضوء التفاعل الإيجابي من قبل بعض الدول الرئيسية في المنطقة ردا على تفشي فيروس كورونا. فقد أضحت الصين بالفعل أحد أكبر المستثمرين في الشرق الأوسط. فإن تعزيز صورتها في المنطقة من خلال مبادرة "الحزام والطريق" هو استراتيجية مفصليّة كبرى للصين اعتمدها الرئيس شي جين بينغ. وفيما قد تُعرقل الأزمة الصحية في الصين دورها الاقتصادي المتزايد في المنطقة، إلا أنها تراقب عن كثب استجابة كل بلد للمأساة - ومن المرجح أن تتأثر بفعلها المواقف الصينية تجاه البلدان في هذه المنطقة تأثرًا شديدًا على المديين القريب والبعيد.
لقد تلقّت الصين تبرعات أو أشكالًا أخرى من الدعم المادي من مختلف دول الشرق الأوسط مثل مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا، ولكن الموقف الذي لاقى التقدير الأكبر كردِّ فعلٍ من دول الشرق الأوسط على فيروس كورونا يتمثل على الأرجح بالدعم والمساعدة اللذين قدمتهما الإمارات العربية المتحدة وإيران.
وفي 26 كانون الثاني/يناير، أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وليّ عهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، في تصريح له، عن دعمه لجهود الصين في مكافحة وباء فيروس كورونا واستعداده لتقديم الدعم الطبي لها. وصرّح آل نهيان قائلا: "إننا نتابع عن كثب جهود الحكومة الصينية لاحتواء انتشار فيروس كورونا. ونحن واثقون من قدرتهم على التغلب على هذه الأزمة." وقد تم اقتباس هذه الجملة والإشادة بها في صحيفة "الشعب اليومية"، وهي وكالة الأنباء الرسمية لجمهورية الصين الشعبية.
بالإضافة إلى ذلك، في حين علّقت الإمارات العربية المتحدة معظم الرحلات من وإلى الصين، سمحت للرحلات القادمة من بكين بمواصلة عملها، تاركة نافذةً أمام التجار والسائحين الصينيين لدخول البلاد والخروج منها. هذا وقامت دولة الإمارات العربية المتحدة بمبادرة صداقة رمزية، حيث أضاءت مبنى شركة بترول أبو ظبي الوطنية في أبو ظبي بصورة العلم الوطني الصيني وشعارات داعمة باللغة الصينية. وسرعان ما اكتسحت صور لفتة الصداقة الودية هذه الإنترنت الصيني وحظيت بامتنان وسائل الإعلام الرسمية الصينية ومستخدمي الإنترنت المشتركين.
في هذا السياق، كانت إيران الدولة الشرق أوسطية الأخرى التي حظيت بأكبر قدر من الاهتمام والامتنان من الصين. وباعتبار أن البلدين يواجهان ضغوطًا مشتركة من الولايات المتحدة، ازداد التقارب ما بين إيران والصين خلال السنوات الأخيرة، وتم وضع معايير التعاون الاستراتيجي في السر بين الصين وروسيا وإيران. وعلى إثر اندلاع وباء فيروس كورونا، نشطت إيران في دعم الصين وتعزيز الشراكة الصينية-الإيرانية. هذا ويدرك الشعب الصيني جيدًا التوترات المتصاعدة في الآونة الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران، فضلاً عن الضائقة الاقتصادية التي تمر بها إيران نتيجة العقوبات الصارمة. ونظرًا لهذه الظروف بالتحديد، يقدّر الكثير من الصينيين مساعدة إيران السخية للصين في مثل هذا الوقت الحرج.
اتخذت استجابة إيران للازمة الصينية شكلا ماديا ومعنويا على حد سواء، فعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها إيران، إلا أنها تبرعت مؤخرًا بأكثر من مليون قناع وجه للصين من خلال جمعية الهلال الأحمر. كما أظهر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مهارات دبلوماسية رفيعة في تواصله مع الجانب الصيني، ويحاكي خطابه تمامًا النقاط التي يرغب الجانب الصيني سماعها من أي شريك أجنبي. ففي محادثته الهاتفية مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أشاد ظريف أولاً بالحكومة الصينية لأنها "بطريقة مسؤولة وشفافة، اتخذت إجراءات حازمة وفي الوقت المناسب لمحاربة الوباء".
وفي السياق نفسه، عمد أيضًا ظريف إلى نشر تغريدتين باللغة الصينية على حسابه على تويتر، حظيتا باهتمام إيجابي كبير على شبكة الإنترنت الصينية. الأولى تدّعي أن الإجراءات الصينية ضد فيروس كورونا "أكثر نجاحًا وأكثر مسؤولية" من الإجراءات الأمريكية ضد أنفلونزا الخنازير (H1N1) في العام 2009. والتغريدة الثانية ملفتة للانتباه بشكل خاص، إذ بادر ظريف إلى اقتباس قصيدة صينية قديمة حول موضوع الصداقة من مجموعة "كلاسيكيات الشعر" الشهيرة، وهي إحدى أهم أجزاء الخماسية الكلاسيكية الكونفوشيوسية التي يُزعم أن كونفوشيوس نفسه هو من حرّرها.
وبالنسبة للحكومة الصينية التي تواجه اتهامات من ساسة الولايات المتحدة ووسائل إعلامها بشأن سياستها في مكافحة الوباء، يأخذ اعتراف الدول الأجنبية بهذه السياسة منحى في غاية من الأهمية. وفي المكالمة الهاتفية عينها، أدان ظريف الغرب علنًا "لاستغلاله الوباء". وهذه إدانة يرغب على الأرجح المسؤولون الصينيون في قولها أنفسهم، لكنهم يمتنعون عن التعبير عنها بطريقة مباشرة.
مما لا شكّ فيه أن مكالمة ظريف الهاتفية كان لها تأثير كبير، إذ أشاد وانغ يي بظريف باعتباره "أول وزير خارجية يعرب عن دعمه العلني للصين". وادّعت هوا تشون ينغ أيضًا أن ذلك يعكس "الصداقة التقليدية والشراكة الصادقة بين الصين وإيران".
إن الاعتراف العلني للإمارات العربية المتحدة وإيران بتدابير الحكومة الصينية وعبارات التضامن بينهما قد تركت أثرًا بليغًا على الحكومة الصينية وعامة الشعب على حد سواء. وانطلاقًا من سياسة المعاملة بالمثل التي تعتمدها الصين، فإن هذه الاستجابة قد ترفع مستوى العلاقات الثنائية بين الصين وهذين البلدين إلى درجة غير مسبوقة.
وفي حين أن الخسارة الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن تعليق الأنشطة الاقتصادية الصينية قد تتسبب في توقّف الصين مؤقتًا عن منح المساعدات الخارجية من خلال إطار مبادرة "الحزام والطريق" في الربع أو النصف الأول من عام 2020، إلا أنه يمكن للاقتصاد الصيني التعافي سريعًا نسبيًا وذلك بمجرد استئناف الأنشطة الاقتصادية. ومن المحتمل جدًا أن توسّع الصين نطاق استثماراتها ومساعداتها للإمارات وإيران انطلاقًا من سياسة المعاملة بالمثل. أما في ما يخص إيران، فإن الصين ستعزز على الأرجح دعمها لها في الشؤون الدولية وسيزداد لحمةً التحالف الذي يربط الصين وروسيا وإيران.
وفى حين لا تحتاج الإمارات بالتأكيد إلى مساعدات مالية من الصين، فإن تشكيل شراكة قوية مع الصين ستفيد الإمارات من خلال إتاحة وصولها إلى التكنولوجيا، والخبراء الصينيين، ومشاريع البنية التحتية، وربما توفير نافذة سهلة للوصول إلى السوق المحلي الواسع في الصين. ونظرًا للتنبؤات الأخيرة المثيرة للقلق التي نشرها صندوق النقد الدولي بأن الثروة النفطية في الخليج لا يمكن الاعتماد عليها على المدى الطويل، أي بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، تتطلع الإمارات العربية المتحدة إلى تطوير اقتصاد متنوع ومصادر متنوعة للطاقة. ويمكن للصين أن تشارك في هذا الصدد من خلال توفير تكنولوجيا الطاقة النظيفة والمتجددة والخبراء لدولة الإمارات العربية المتحدة. كما أبدت الصين بالفعل اهتمامها بمشروعات البنية التحتية كشكل من أشكال القوة الناعمة المعروفة، وقد تكون الإمارات هي المستفيدة المستقبلية أيضًا، كما في حالة الاستثمار الصيني في ميناء خليفة الأول الذي يعتبر جزء من مبادرة "الحزام والطريق".
يبدو أن هذه السلالة المتطورة من فيروس كورونا ستعمل على إحداث تأثير عالمي، ليس فقط من حيث المصابين بالفيروس مباشرة، ولكن أيضًا في الطريقة التي ينظر بها الصينيون إلى ردود الأفعال الدولية حول محنتهم. ففي ظل التغطية العالمية الواسعة للازمة، يبحث المسؤولون الصينيون والجمهور على حد سواء عن الاعتراف بالمأساة وبعض الكلمات الداعمة. ومن المرجح أن تعزز رغبة إيران ودولة الإمارات العربية المتحدة في تلبية هذه الحاجة من حسن نية الصين تجاه هذه الدول. وفى حين تتسم السياسة الخارجية للصين تجاه منطقة الشرق الأوسط بطبيعتها المحدودة وذلك مقارنة بالقوى الكبرى الأخرى المتواجدة في المنطقة، فإن التطورات المستقبلية بين علاقات الصين مع هذين البلدين تستحق المتابعة بمجرد احتواء وباء فيروس كورونا.