- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تضييق الخناق: ردع الميليشيات مع دعم الإصلاحيين في العراق
في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، كتبت مقالاً في منتدى فكرة بعنوان "المصالح الأمريكية والوضع الراهن غير المستدام في العراق"، حيث جادلت بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى تبني سياسة قصيرة الأجل وأكثر خطورة في العراق لكي تكون على الجانب الصحيح، والفائز، من التاريخ في العراق، إذ يحاول جيل جديد من المصلحين العراقيين إنقاذ البلاد من انهيار الدولة.
في ذلك المقال، حذَّرتُ من أنه سيتعيّن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للمجازفة باستبعادها من العراق لتبقى طرفًا سياسيًا فعّالاً هناك. وبإطلاق الضربات في التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر على خمس قواعد لـ"كتائب حزب الله" في العراق وسوريا ردًا على مقتل مقاول أمريكي في الثامن والعشرين من كانون الأول/ديسمبر، فإن الولايات المتحدة قد اتخذت تحديدًا هذا النوع من المخاطر. وعليه، ردت الميليشيات بحصار السفارة الأمريكية في بغداد، في حين أدان كبار قادة العراق الضربات الأمريكية (ولكن ليس مقتل المواطن الأمريكي).
مع هذه الديناميكية الجديدة، يجب الإجابة على سؤالين جديدين: ماذا سيحدث الآن في العلاقة الأمريكية - العراقية، وكيف يجب أن ترد الولايات المتّحدة إذا لجأت الميليشيات المدعومة من إيران إلى مزيد من الاستفزازات؟
لماذا شنّت الولايات المتحدة هجومًا على "كتائب حزب الله"؟
تصف الولايات المتحدة هجمات التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر بأنها "دفاعية" وتدعي عن حق أنه تم تحذير الحكومة العراقية صراحة (في 7 أيار/مايو 2019) من أن الولايات المتحدة سترد بشكل مباشر على المليشيات إذا ما قتلت المليشيات مواطنًا أمريكيًا في العراق. وجاء هذا التحذير المبكر على خلفية هجمات صاروخية سابقة شنتها الميليشيات على القواعد الأمريكية في العراق وأدّت إلى انخفاض مؤقت في مثل هذه الهجمات في الصيف. غير أنها استؤنفت طوال خريف عام 2019، مع وقوع 11 هجمة صاروخية على القواعد الأمريكية في العراق منذ أواخر تشرين الأول/أكتوبر.
أصبحت هذه الهجمات مكثّفة وأكثر خطورة: ففي 7 تشرين الثاني/نوفمبر، تم إطلاق سبعة عشر صاروخًا على الأقل - نسبتها المواد الاستخباراتية الأمريكية إلى ميليشيات عراقية - على القاعدة الأمريكية العراقية في مطار القيارة الغربي. وفي 9 و11 كانون الأول/ديسمبر، أُطلِقت صواريخ ثقيلة عيار 240 ملم على قاعدة القوات الخاصة الأمريكية العراقية في مطار بغداد، ما أدّى إلى إصابتها. وفي 28 كانون الأول/ديسمبر، سقط وابل من 30 صاروخاً على القاعدة الأمريكية العراقية المدمجة في كركوك، ما أسفر عن مقتل مقاول أمريكي وإصابة عدّة أمريكيّين وعراقيّين آخرين.
وكان هذا النمط واضحًا، وتمثّل في زيادة تدريجية في وتيرة الهجمات المدعومة من إيران وفي شدتها، ما أسفر في نهاية المطاف عن سقوط أول ضحية أمريكية على أيدي الميليشيات المدعومة من إيران منذ مقتل جندي أمريكي في 1 تشرين الأول/أكتوبر 2017 بالقرب من تكريت. فإن مصرع مواطن أمريكي هو ما جعل هذا الهجوم مختلفًا، وهو ما أدى إلى رد فعل مسلح من طرف الولايات المتحدة.
إنّ قدرة القوات الأمريكية على تحديد هوية مرتكبي الهجوم على وجه السرعة ليس بالأمر المفاجئ. فإذا قمت بزيارة القواعد الأمريكية في العراق وتحدثت مع ضبّاط المخابرات، ستدرك بسرعة أن الولايات المتحدة بارعة جدًا في اكتشاف بعض الأمور. ويشمل ذلك، ولأسباب غير مفاجئة، انتماء الأشخاص الذين يقتلون الأمريكيين. فالولايات المتحدة لا تفترض أن "كتائب حزب الله" تطلق كل الصواريخ الموجهة نحو القواعد الأمريكية. ففي منطقة التاجي أو مدينة بلد، غالبًا ما يكون مقاتلو "عصائب أهل الحق" المسؤولين، أمّا في بغداد فيمكن أن ينتمي الجناة إلى مجموعة واسعة من الميليشيات التي تعمل هناك.
ولكن في المناطق النائية الأخرى من العراق مثل القيارة وكركوك والأنبار، فإن "كتائب حزب الله" هي التي تتمتع بسلطة محلية لمهاجمة القواعد الأمريكية، بعد أن تتشاور قيادتها مع قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. ومن المرجح أن يكون تحديد الولايات المتحدة السريع لـ"كتائب حزب الله" باعتبارها منفذة هجوم 28 كانون الأول/ديسمبر مبنيًا على مزيج من المعلومات الاستخباراتية الفنية والبشرية الحازمة، بدعم من مكونات الأسلحة والأجهزة الإلكترونية التي تم حجزها.
وكان الهدف من الضربات الانتقامية التي وقعت في 29 كانون الأول/ديسمبر هو استعادة الردع ضد أي هجمات أخرى تدعمها إيران قد تستهدف القواعد العراقية الأمريكية. والمنطق وراء هذه الضربات بسيط: طالما أن إيران وحلفاءها لا يدفعون ثمن مواصلة الهجمات، فمن المرجح أن يستمروا في شنّ المزيد من الضربات وبتواتر أكبر، وأن يقتلوا الأمريكيين بقدر الإمكان. وقد اختار الرد الأمريكي عددًا من قيادات "كتائب حزب الله" وقواعدها في الأنبار وسوريا التي بحسب تقديره كانت لتكون ذات قيمة عالية للحركة ودمّره، علمًا أنّ خسارة هؤلاء الزعماء قد تثني إيران وميليشياتها عن مواصلة هجماتها على الولايات المتحدة أو تصعيدها. وتجدر الإشارة إلى أن "كتائب حزب الله" لم تخسر من قبل، وطوال مدة وجودها، عددًا كبيرًا بهذا القدر من العملاء الناشطين في يوم واحد: إذ قُتِل 25 شخصًا وأصيب أكثر من خمسين آخرين.
وتحسبًا لأي هجومات أخرى قد تشنها الميليشيات، ستظل الولايات المتحدة مستعدة لضرب أهداف ذات أهمية وقيمة أكبر للميليشيات، بما في ذلك كبار القادة. فإنّ الحق في الدفاع عن النفس مكرس في القانون الأمريكي وهو أساسي للشراكة العسكرية بين الولايات المتحدة والعراق. وإلى أن يحمي العراق القوات الأمريكية أو يبعدها، ستواصل الولايات المتحدة الدفاع عن أفرادها في العراق.
تكاليف المجازفة باستبعاد الولايات المتحدة من العراق وفوائدها
في أعقاب الضربات الأمريكية، دعت القائمة الانتخابية لحركة "فتح" التي تدعمها إيران البرلمان العراقي على الفور إلى اتخاذ إجراءات قانونية لإقصاء القوات الأمريكية. وهذا هو حق من حقوق العراق في حال رغب عدد كافٍ من أعضاء البرلمان في اتخاذ مثل هذه الخطوة وإذا كان كل من مجلس الوزراء والرئيس يدعم هذا الإجراء، حتى في ظل الظروف المتقلقلة الحالية لحكومة تصريف الأعمال المفتوحة.
يمكن تعليق الدعم العسكري الأمريكي للعراق - وربما عمليات السفارة الأمريكية كلها - بسرعة كبيرة ويمكن أن يتلاشى الوجود الأمريكي من العراق إذا ما طُلب منا المغادرة أو تعرضنا لأخطار غير مقبولة. فهذا هو بالضبط ما استعدّت له الحكومة الأمريكية منذ أن حذّرت في أيار/مايو 2019 من وقوع المزيد من الهجمات الميليشياوية، مذكّرةً بالإغلاق الدائم للقنصلية الأمريكية في البصرة في وقت سابق من أيلول/سبتمبر 2018 نتيجة الهجمات الصاروخية التي أطلقتها الميليشيات. فالتحركات المروحية المختلفة بين مطار بغداد والسفارة في 31 كانون الأول/ديسمبر هي في الواقع خطوات تحضيرية وتمرين إعدادي لمثل هذا الحدث.
وقد أعلنت الحكومة الأمريكية في الإحاطات الإعلامية التي قدّمتها في 30 كانون الأول/ديسمبر أنها لا تشعر بقلق بالغ إزاء احتمال صدور إشعار برلماني بالإخلاء، على الرغم من الإدانة الواسعة للضربات الأمريكية من شخصيات مختلفة مثل آية الله العظمى علي السيستاني ومقتدى الصدر وعمار الحكيم من حركة "الحكمة" والرئيس برهم صالح.
في الواقع، قد يكون أحد الأسباب هو أن الولايات المتحدة ما زالت مندهشة إيجابًا لأنها لم تواجه تحديًا كبيرًا بالإخلاء بعد أن أساء الرئيس ترامب إلى العراقيين مرتين في الأشهر الأولى من العام، أولاً من خلال الزيارة غير المعلنة، وثانيًا بالاعتراف بأن الولايات المتحدة موجودة في العراق "لمراقبة إيران"، أو حتى بعد أن باشرت إسرائيل بضرب قواعد الميليشيات في العراق. وعليه، إما أنه يصعب كثيرًا تشكيل الإجماع المطلوب لإقصاء القوات الأمريكية أو أن السياسيّين المدعومين من إيران يفضلون بقاء الولايات المتحدة في العراق، حيث لا تزال لديهم مصالح يحمونها وحيث تستمر الجهات الفاعلة الدولية الأخرى في تأدية دور داعم طالما أن واشنطن تفعل ذلك أيضًا.
هل كانت الولايات المتحدة راضية عندما خاطرت مرة أخرى بالإخلاء في كانون الأول/ديسمبر؟
بناءً على محادثاتي مع المسؤولين الأمريكيين، بوسعي أن أفيد بأن الضربات الأخيرة تشير إلى أن الحكومة الأمريكية باتت ترى الأمور بوضوح، أخيرًا. ولا جدوى من البقاء في "العراق" إذا كان ثمن القبول هو تجاهل مقتل الأمريكيين. وعلى نحو مماثل، لا ينبغي للحكومة العراقية أن تستخدم الوجود العسكري والدبلوماسي الأمريكي في العراق كورقة ضغط لمنع الولايات المتحدة من الإشارة إلى الانتهاكات الجسيمة الفعلية للسيادة العراقية من جانب إيران أو القتل الجماعي للمدنيين العراقيين على أيدي الميليشيات.
تأمين المصالح الأمريكية أو ضمان الوجود الأمريكي؟
وكما ذكرت في مقالي السابق، لا شكّ في أنه يتم خدمة المصالح الأمريكية من خلال المساعدة على صمود عراقٍ يتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية، وفقًا لما يحدده الدستور العراقي. ويتعين على الولايات المتحدة أن تساعد العراق دومًا على حماية هذه الصفات من أي هجوم قد يرتكبه أي عدو، سواء أكان متطرفًا على غرار تنظيم "الدولة الإسلامية" أو ينتمي إلى المليشيات المدعومة من الخارج.
ولكن ما تطور بدلاً من ذلك في المؤسسة الأمريكية على مدى السنوات القليلة الماضية هو "عقيدة الوجود"، التي كنت أنا شخصيًا مذنبًا بالدعوة إليها في مراحل معينة، حيث يُنظر إلى سيادة العراق واستقراره وصفاته الديمقراطية على أنها قابلة للتفاوض ما دامت النخبة العراقية تسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بقواتها في العراق.
وبوسعنا أن نقول إن ذلك كان يستحق العناء في مرحلة معينة، لا سيّما عندما كان تنظيم "الدولة الإسلامية" يمثّل تهديدًا كبيرًا وعندما بدت إعادة بناء قيادة عسكرية محترفة في العراق ممكنة. وربما تكون تلك اللحظة قد انقضت: فتنظيم "الدولة الإسلامية" على بعد سنوات من بدء التعافي الجاد، وتستنزف الميليشيات الضباط المحترفين من المؤسسة العسكرية بسرعة أكبر مما يمكننا تدريبهم، ونحن مستبعدون من العمليات المناهضة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، ومطوّقون في القواعد، وممنوعون عن التحرك، ومستبعدون من المجال الجوي مع فرض مناطق يحظر فيها الطيران.
يُعتبر الوجود العسكري الأمريكي وسيلة لتحقيق غاية، وليس غاية في حد ذاته. فلا يجوز أن يتواجد أي شخص يقدّم خدمة ما أو مقاول (أو دبلوماسي) أمريكي في العراق، بعيدًا عن عائلاته وعلى حساب نفقة باهظة لدافعي الضرائب، إذا كان يمنع من أداء وظيفته وإذا لم يكن محميًا من قبل الحكومة العراقية. فهذه ليست سياسة تخدم مصالح الولايات المتحدة بل إنها مُذلّة.
وإذا بقينا في العراق، فعلى ذلك لأن يكون لسبب واحد ألا وهو تعظيم فرصة نشوء عراق يتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية. فهذا هو الهدف الحقيقي، وعلينا أن نعمل مع من يدعم هذه المصلحة المشتركة وضد من لا يؤيدها. وليس من المستغرب أن أولئك الذين يريدون عراقًا ضعيفًا غير ديمقراطي تهيمن عليه إيران يرغبون في إزاحة الولايات المتحدة أو تحييدها.
الاستعداد للمغادرة، حتى لا نُضطر إلى ذلك
في شهر تشرين الثاني/نوفمبر، كتبت أن الولايات المتحدة بحاجة إلى "الاستعداد للمغادرة، حتى لا نُضطر إلى ذلك؛ ولكن يظل هذا الأمر حقيقة واقعة. فالوجود العسكري الأمريكي في العراق ليس معروفًا أنعمت به حكومة العراق السخية على أمريكا، بل تُعد مساهمة القوات الأمريكية والدعم المالي الأمريكي للعراق بادرة صداقة قوية من جانب الشعب والحكومة الأمريكية تجاه العراق.
وبصراحة، من غير المنطقي أن نتوقع من الولايات المتحدة أن تواصل نشر الآلاف من الأفراد الذين يقدّمون الخدمات بعيدًا عن أسرهم وتقديم مئات الملايين من الدولارات سنويًا على شكل منح عسكرية لبلد لا يفشل في حماية قواتنا ودبلوماسيينا فحسب، بل يهدد بإقصائنا عندما ندافع عن أنفسنا، وذلك بعد أن حذّرنا لأشهر من أن الأمر سيكون على هذا الحال، وناشدنا العراق لحماية ضيوفه.
تتسم المخاطر المحسوبة التي تتخذها الولايات المتحدة اليوم بمنطق قوي قائم على الحس السليم. ويحظى العراق حاليًا بدعم أعظم تحالف دولي على الإطلاق - ذلك أن أغلبية دول مجموعة العشرين ملتزمة بالدفاع عن العراق وبقائه للمرة الأولى ومن المرجح أن تكون الأخيرة. هذا ويُعد الوجود العسكري الأمريكي في العراق الركيزة الأساسية لهذا الالتزام، الذي من دونه سينهار التحالف.
وإذا كان العراق على استعداد للتضحية بهذا التحالف لمواصلة التستر على أفعال الميليشيات المدعومة من إيران، فلن يكون للولايات المتحدة والتحالف أي شركاء موثوقين في العراق الفدرالي، ولن تخسر الكثير إذا همّت بالمغادرة.
ومن ناحية أخرى، إذا كان على أغلبية الفصائل العراقية أن تدين الهجمات خطابيًا فيما تعترف سرًا بقيمة الصداقة الأمريكية المستمرة، فلن يتم استبعاد القوات الأمريكية، وسيكون لدى الولايات المتحدة شركاء فاعلون في العراق.
وتراهن الولايات المتحدة على أنّ الجهات القومية الفاعلة الرشيدة داخل قيادة العراق تفوق العملاء الموالين لإيران. فالأيام والشهور المقبلة -عندما يتم استبدال الحكومة المجرّدة من شرعيتها – ستحسم ما إذا كان هذا هو الحال.