- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الإبادة الجماعية للأرمن ومجاعة الموارنة والدروس المستفادة من فظائع الماضي
إلى جانب الاعتراف بالإبادة الجماعية ضد الأرمن، يجب على العالم أن يعترف بالتجويع القسري للموارنة في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى.
على عكس الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين تمنّعوا عن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، أصدر الرئيس جوزيف بايدن جونيور بيانًا الشهر الماضي قال فيه: "الشعب الأمريكي يكرّم جميع الأرمن الذين فقدوا أرواحهم في الإبادة الجماعية التي بدأت في مثل هذا اليوم منذ 106 سنوات... نحن نرى ذلك الألم. نحن نؤكّد التاريخ. نحن لا نفعل ذلك لإلقاء اللوم، ولكن لضمان أن ما حدث لن يتكرر أبدًا".
لا شكّ في أنّ هذا الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن من جانب قوّة عالمية كبرى، وهو اعتراف طال انتظاره، قد جلب الراحة لأمّةٍ أدى فيها عدم الاعتراف بالإبادة الجماعية التي تعرّضت لها دورًا في إلهام المزيد من الفظائع في جميع أنحاء العالم. وبحسب ما ورد، برّر أدولف هتلر الإفلات من العقاب الذي رافق خطته بإبادة اليهود بقوله: "مَن، بعد كل شيء، يتحدّث اليوم عن إبادة الأرمن؟"
ومع ذلك، فإنّ اعتراف الولايات المتحدة المتأخر بهذه الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في خلال الحرب العالمية الأولى يسلط الضوء أيضًا على أنّ الشعوب الأخرى التي واجهت الإبادة في خلال هذه الفترة لم تلتئم جروح ذاكرتها الجماعية بعد، وما زالت ترى أنّ مآسيها التاريخية مرّت مرور الكرام في ظل غياب الاعتراف بها، وأنّ الألم الذي تعايشه لا يحرّك الشجون، وأنّ مستقبلها غير مؤمّن. وتشمل هذه الشعوب المجتمع الماروني الكاثوليكي في لبنان.
المجتمع الماروني هو من أقدم المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط. وبحسب أب التاريخ الماروني أسطفان الدويهي، فإنّ الكنيسة المارونية قد تمسّكت باستمرار بعقيدة الكنيسة الكاثوليكية منذ مجمع خلقيدونية عام 451 م، التي نبذت عقيدة الطبيعة "المونوفيزية" التي تتبعها الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والتي تعتبر أنّ للمسيح طبيعة واحدة، وأكدت في المقابل على اتحاد الطبيعتَين الإلهية والبشرية في المسيح.
طوال هذا التاريخ الطويل، واجه الموارنة مستويات متفاوتة من التهميش والعنف. ومن عام 517 م حتى ستينيات القرن التاسع عشر، عاشت المجتمعات المارونية في لبنان فترات من السلام تخلّلتها ممارسات مثل فرض الضرائب الموجّهة إلى فئة معيّنة، والذبح العنيف، والتوتّرات الداخلية الدامية. ودفعت فترات الاضطهاد هذه الموارنة إلى البحث عن ملاذ آمن في منطقة جبل لبنان، الذي أصبح منذ ذلك الحين ملاذًا وديارًا للموارنة منذ القرن السادس. كما دفع هذا التهميش الموارنة إلى إنشاء علاقة متينة مع فرنسا تعود إلى فترة الحروب الصليبية، ففي عام 1250، أشار الملك الفرنسي لويس التاسع إلى الموارنة بأنّهم "جزء من الأمّة الفرنسية" في رسالةٍ كتبها بعد أن رحب الموارنة بالصليبيين الفرنسيين. وأصبحت فرنسا تنظر إلى الموارنة على أنّهم "أبناء" فرنسا، وكان الموارنة ينظرون إلى فرنسا على أنّها "أمّ لبنان".
على الرغم من قرون من التهميش، قد تكون الحرب العالمية الأولى الفترة الأصعب في تاريخ الموارنة. ولا تزال هذه الفترة حديثة بما يكفي لتكون حيّة في الضمير السياسي لدى عدد كبير من الموارنة اللبنانيين. ففي خلال الحرب، اعترى العثمانيون، الذين كانوا يسيطرون على لبنان في ذلك الوقت، قلقٌ بشأن احتمال قيام فرنسا وبريطانيا بغزو ساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي بالتعاون مع مسيحيي المنطقة.
على هذا النحو، كان العثمانيون متشككين جدًا تجاه الموارنة واتصالاتهم مع فرنسا. نتيجةً لذلك، قام جمال باشا، وهو الحاكم العسكري لبلاد الشام وأحد منظمي الإبادة الجماعية للأرمن والمعروف أيضًا بلقب "جمال السفّاح"، بإلغاء منطقة الحكم الذاتي التابعة لجبل لبنان داخل الإمبراطورية العثمانية.، وفرض الحكم العسكري، ونشر الآلاف من القوات العثمانية في جبل لبنان في وقت مبكر من الحرب. ولم يثق جمال باشا بشدة في نوايا البطريرك الماروني الياس الحويك والموارنة بشكل عام، ما أدى إلى سلسلة من الأعمال المدمّرة.
وكانت إحدى الضربات الحاسمة طرد البعثات التبشيرية والرعايا البريطانيين والفرنسيين والروس من بيروت وجبل لبنان. وكان معظمهم يعملون في المجالات التربوية والطبية، وأدى رحيلهم إلى القضاء على عدة خدمات اجتماعية تأسيسية في المجتمعات المارونية. علاوةً على ذلك، في آذار/مارس 1915، جرى القبض على الأب يوسف الحايك بسبب تواصله مع بول ديشانيل، وكان رئيس مجلس النواب الفرنسي آنذاك. وأمَر جمال باشا بإعدام الحايك شنقًا، مرسلًا بذلك رسالة صارمة إلى الكنيسة المارونية مفادها أنّ أي مراسلات مع سلطات دول الوفاق الثلاثي ستُعتبر خيانةً ويعاقب عليها بالإعدام.
إلّا أنّ الإجراء الأكثر تدميرًا الذي اتُّخذ ضدّ الموارنة كان الحصار الذي فرضه جمال باشا على جبل لبنان. ففي بداية الحرب، طوّق جمال باشا جبل لبنان وعزله عن سهل البقاع الخصب والمُنتِج لحبوب البلاد، كما عن بيروت وفلسطين وسوريا. وأتى الحصار الذي فرضه على جبل لبنان كردٍّ على الحصار الذي فرضه الوفاق الثلاثي على المنطقة الساحلية لسوريا الكبرى وكان انعكاسًا لتزايد عدم ثقته بالموارنة.
ونتيجةً لذلك، انقطعت جميع خطوط الإمداد إلى جبل لبنان، ما أدّى إلى نقص حاد في المواد الغذائية. ولم يؤدِّ انتشار القوات العثمانية إلى تفاقم شحّ المواد الغذائية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تعطيل المحاولات الفردية والجماعية لتهريب المواد الغذائية إلى جبل لبنان. ولزيادة الطين بلّة، تعرّض جبل لبنان لهجوم سرب من الجراد الصحراوي في الفترة نفسها. وقضى الجراد على كلّ ما تبقّى من صناعة تربية دودة القز التي كانت تتدهور في المنطقة والتي شكّلت عادةً الدعامة الأساسية لاقتصاد جبل لبنان.
ولم يكن لدى المجتمعات المارونية الموارنة وجماعات جبل لبنان الأخرى سوى القليل من الطعام أو الموارد في تلك المرحلة، واعتمدوا على المواد الغذائية القليلة المهرَّبة. وقدّمت الكنيسة المارونية أكبر قدر ممكن من المساعدة للعائلات المتضوّرة جوعًا عبر مختلف الفئات الطائفية. وبينما ظلّ التواصل مع فرنسا غير رسمي في خلال بداية الحرب، بدأت الكنيسة تؤيّد فرنسا بقوّة في خلال الحصار. وقام البطريرك الماروني بتعيين الأب بولس عقل وسيطًا مع عملاء المخابرات الفرنسية، وأنشأت المخابرات الفرنسية مقرًّا رئيسيًا في جزيرة أرواد قبالة الساحل السوري. في غضون ذلك، وعلى الرغم من الظروف القاسية في جبل لبنان، استقبل البطريرك الأرمن الناجين من الفظائع العثمانية، معلنًا بتحدٍ: "قطعة الخبز التي بحوزتنا، سنشاركها مع إخواننا الأرمن". ولسوء الحظ، شدّد العثمانيون الحصار أكثر وأرسلوا الموارنة الأصحّاء للعمل في معسكرات العمل العثمانية.
ومع تقدّم الحرب، بدأ الموقف العسكري العثماني في التدهور، وأصبح جمال باشا قلقًا بشأن إطعام جيشه. ومن أجل تأمين الغذاء لقواته، أصدر جمال باشا أوامر بمراقبة بيع الحبوب الأساسية مثل القمح والشعير ونقلها. وفى حين سمحت هذه الأوامر للموالين بشراء القمح والحبوب الأخرى من حوران الداخلية السورية، إلا أنها أجبرت المزارعين على بيع الحبوب التي يحتاجونها لاستهلاكهم الخاص، وحظرت شحن المواد الغذائية من الداخل السوري (حوران) أو من بيروت إلى جبل لبنان. وتطوّر النقص الحاد في الغذاء ليصبح مجاعة رهيبة. وبحسب تقرير صادر عن المخابرات الفرنسية، تفاخر جمال باشا بقوله: "لقد تخلّصنا من الأرمن بحدّ السيف. وسنقضي على اللبنانيين بالمجاعة".
وبحلول شتاء عام 1916، انتشرت المجاعة في بيروت وجبل لبنان. وساعد سوء التغذية على تفشي أمراض الكوليرا والملاريا والدوسنتاريا والإنفلونزا بين السكان. وأدى النقص المزمن في مرافق الرعاية الصحية العامة، إلى جانب نقص الأدوية، إلى تفاقم انتشار الأمراض المتزايد باستمرار. وفي تشرين الأوّل/أكتوبر 1916، أرسل الأب عقل تقريرًا استخباراتيًا إلى المسؤولين الفرنسيين في جزيرة أرواد يصف فيه الوضع العام في بيروت وجبل لبنان قائلًا: "لا أطباء، ولا دواء، ولا طعام، ولا أشخاص لدفن الموتى".
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" من بين المنافذ الإخبارية الأولى التي أشارت إلى المجاعة، ونشرت مقالًا في 16 أيلول/سبتمبر 1916 بناءً على تقرير صحفي لامرأة أمريكية. ويوضّح المقال صورَ البؤس والجوع والموت وتضمّن الآتي: "مررنا بنساء وأطفال يرقدون على جانب الطريق وعيونهم مغلقة ووجوههم شاحبة مخيفة. وكان من الشائع العثور على أشخاص يبحثون في أكوام القمامة عن قشور البرتقال أو غيرها من النفايات، ويأكلونها بشراهة عند العثور عليها. في كلّ مكان، يمكن رؤية النساء يبحثن عن الأعشاب الصالحة للأكل بين العشب على طول الطرق".
وتميّز الآباء اليسوعيون بقدرٍ أكبر من التعاطف في وصفهم للمجاعة. وتكشف مذكراتهم المحفوظة في "جامعة القديس يوسف" في بيروت أنّ سكان جبل لبنان وبيروت قد خلص الأمر بهم بالتفتيش في القمامة وحتى في فضلات الحيوانات بحثًا عن بقايا الطعام. كما أنّ أجساد الموتى لم تُدفن وجرى الإبلاغ عن حالات أكل لحوم البشر.
وبحلول الوقت الذي احتلّت فيه سلطات الوفاق الثلاثي بيروت وجبل لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 1918، تحولت عشرات القُرى ركامًا، وخسر ما يقرب من ثلث سكان بيروت وسكان وجبل لبنان أرواحهم، أي حوالي 175000 شخص.
ومن المثير للجدل ما إذا كانت السلطات العثمانية قد خططت بالفعل لإبادة للموارنة عن سابق تصوّر وتصميم. ولم تكن ثمّة تعليمات عثمانية مشفّرة بقتل الموارنة جماعيًا ولا فتوى صادرة عن السلطات الدينية لمهاجمة الموارنة، كما كان الحال بالنسبة إلى الأرمن. ومع ذلك، أسفرت السياسات العثمانية في خلال الحرب العالمية الأولى عن القتل الجماعي لأغلبية السكان الموارنة.
وسقطت الإمبراطورية العثمانية في نهاية المطاف، وأصبح المجتمع الماروني في لبنان حجر الزاوية لدولة لبنان الحديثة. لكن لا شكّ في أنّ التحديات التي تواجهها البلاد مستمرة في ظل توترات داخلية وإقليمية وأمام انهيارٍ اقتصادي يهدّد الأمن الغذائي لدى عدد كبير من اللبنانيين اليوم.
على الرغم من أنّ بعض المؤرخين قد كتبوا عن المجاعة في جبل لبنان، إلّا أنّ الحدث لم يجرِ الاعتراف به إلى حد كبير في الخطاب السياسي أو الاجتماعي المعاصر خارج المجتمع الماروني نفسه. وربما جرى تنحية تاريخ الألم والمعاناة والموت في جبل لبنان لصالح قصص الحرب الأهمّ، أو ربّما جرى إخفاؤه بذرائع سياسية. ومع ذلك، في الوقت الذي ينحدر فيه لبنان إلى هاوية الفتنة والفقر، يجب أن يعترف المجتمع الدولي بتاريخ تجويع جبل لبنان على يد العثمانيين باعتباره أحد الأعمال الوحشية التي ارتُكبت في خلال الحرب العالمية الأولى. وتشكل مجاعة جبل لبنان تاريخًا مأساويًا وحيًا بالنسبة إلى عدد كبير من اللبنانيين، ويجب أن يكون الاعتراف بهذا التاريخ شكلًا من أشكال المصالحة ودرسًا مستفادًا لعدم تكرار فظائع الماضي.
إنّ الاعتراف بتاريخ المجاعة الأليم سيكون أيضًا بمثابة تحذير محلي ودولي حول كيف يمكن أن تؤدي سياسات الحرب إلى مذابح لا داعي لها، سواء أكانت طوعية أم بغير قصد. ويجب أن يقدّم الاعتراف الأمريكي الأخير بالإبادة الجماعية للأرمن فرصًا للاعتراف بفظائع أخرى تعود إلى تلك الفترة، بما في ذلك الألم والمعاناة اللتَين ألحقهما العثمانيون بالموارنة في خلال الفترة نفسها. وشدّد الرئيس بايدن على أنّ الاعتراف بمثل هذه الأحداث ليس لإلقاء اللوم، "ولكن لضمان أن ما حدث لن يتكرر أبدًا ". فيجب على العالم أيضًا أن يدرك محنة الموارنة في إطار ذلك الجهد.