- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الأردن بين التهديدات الإقليمية والضغوطات الداخلية: الحل الاقتصادي
تبوأ الملك عبد الله الثاني السلطة في الأردن في شباط/فبراير من العام 1999، خلفًا للملك حسين. وخلال السنوات التسع عشرة الماضية من حكمه، نجح في إبقاء الأردن في منأى عن المصاعب والتحديات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط برمتها، بدءًا من التطرف إلى الإرهاب. وحاول جاهدًا جعل بلاده نموذجًا للدول الأخرى من ناحية الأمن والاستقرار. ومع ذلك، لا تزال التوترات قائمة - ولكن كما سيظهر هذا التحليل، فإن أهمها تحول الأردن من القضايا السياسية والعرقية والإسلامية إلى القضايا الاقتصادية، والتي هي أكثر قابلية للإصلاحات والتسويات التدريجية.
عام 2011، شهد الأردنيون تداعيات الربيع العربي في تونس وليبيا واليمن وسوريا، وحاولوا صد التدخل الخارجي في شؤونهم المحلية، مستفيدين من موقع بلادهم الجيوستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط المضطربة من خلال تعزيز أمنهم القومي وقواتهم المسلحة وتدعيمها لمجابهة التهديدات الخارجية.
ومع ذلك، لا يزال الأردن عرضة للتهديدات الداخلية من قبل الأحزاب غير المستقرة بسبب الاضطرابات السياسية الحالية، إضافة إلى الصعوبات الاقتصادية والديون المالية الثقيلة التي تمثل نقطة خلاف.
لعبت طباع الملك عبد الله وخلفيته الفكرية والاجتماعية دورًا بارزًا في موقف الأردن من عدة مسائل إقليمية شائكة، مثل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي والحرب على الإرهاب والقضايا القومية العربية، بالإضافة إلى المخاوف المحلية، كالمشاكل الاقتصادية وجماعة الإخوان المسلمين وقضايا الحوكمة.
وعلى الرغم من أن الملك لم يكن يملك خبرة سابقة في الحكم، إلا أنه تمكن من معالجة مشاكل شعبه ومخاوفهم، واستثمار طاقات الأجيال الشابة التي تشكل 75% من سكان الأردن.
في الوقت عينه، ومنذ عام 1999، اعتمد الملك الجديد خططا دفاعية وعسكرية كثيفة للسيطرة على حدود البلاد، كما أعتمد على إدارة الاستخبارات العامة للتصدي لمسائل داخلية خطرة أخرى مثل التطرف والإرهاب.
عندما انطلقت شرارة الربيع العربي في المنطقة عام 2011، كان لا بد للملك من أن يحرص على إدارة النزاع الداخلي للتعامل مع الأطراف الإسلامية وأطراف المعارضة الأخرى. فالنزاع الداخلي بين "الحرس القديم" وهم النخب السياسية القديمة أو الحرس القديم من جهة والجيل الجديد من النخب النيوليبرالية الذي بدأت تظهر في الحياة السياسية الأردنية من جهة أخرى.
وبالتركيز بشكل أكثر تحديدًا على المعارضة الإسلامية الأردنية، فإن رد الملك عبد الله على مثل هذه التيارات قد أثر بشكل واضح على علاقته بجبهة العمل الإسلامي، الجناح السياسي للإخوان المسلمين في الأردن. ومثل والده، فقد اعتبر الملك عبد الله هؤلاء الإسلاميين جزءاً من النسيج الاجتماعي والسياسي الأردني. وقد وضعه هذا الموقف في صراع مباشر مع رؤساء دول آخرين، قاموا بتشويه صورة (شيطنة) الإخوان المسلمين ووضع قادتها على القائمة السوداء.
وفى ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، دعي الملك إلى حل قائم على دولتين نظرًا لتأثير ذلك على استقرار الأردن بفعل بنية البلاد الديمغرافية، التي تتشكل بنسبة 65% من أردنيين من أصول فلسطينية. ومع ذلك، ونتيجة للضغوط الإقليمية على الأردن، بما في ذلك الخطاب الأمريكي الجديد حول "صفقة القرن" الإسرائيلية الفلسطينية، بدأت العلاقة بين الإخوان المسلمين والنظام بالتحول باتجاه مسار سلبي ومن حالة تحالف أو تعايش، كما يفضل الإسلاميون تسميتها، إلى حالة مواجهة حادة. وفي ما مضى، عارض الإخوان المسلمون بشدة محادثات السلام بين الأردن وإسرائيل ورفضوا اتفاقية وادي عربة عام 1994.
وعلى الصعيد المحلى، عارض الإسلاميون خطط صندوق النقد الدولي للأردن. كما رفضوا سياسات التحول الهيكلي في الاقتصاد الأردني وخصخصة بعض الشركات والمؤسسات التابعة للدولة. وهذا ما دفع الإخوان المسلمين والأحزاب السياسية اليسارية والقومية إلى معارضة تلك التحولات. وحالياً، يلقي الإسلاميون مسئولية الفوضى التي تتعرض لها الأردن في الوقت الراهن على الاتفاق الموقع مع إسرائيل، ووضعوا المزيد من الضغوط على الحكومة لعدم قبول القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والتي يزعمون أنها ستكون الشرارة التي ستؤدى إلى اندلاع انتفاضة ثالثة.
ولفهم الإخوان المسلمين في الأردن على نحو أفضل، لا بد من دراسة تاريخهم، الذي يمكن تقسيمه إلى ثلاث حقب:
اتصفت الحقبة الأولى الممتدة من العام 1946 إلى 1989 بمزيج معقد قائم على علاقة جيدة مترافقة بالحيطة والحذر من بين الإخوان والقصر. فقد تأسست جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عام 1945 على يد عبد اللطيف أبو قورة وأُقر وضعها القانوني كجمعية بموجب مرسوم موقع من قبل الحكومة.
سعى الملك الراحل حسين إلى تعزيز شرعيته من خلال توطيد العلاقات مع القبائل الأردنية، التي تشكل العمود الفقري للأمن والقوات المسلحة الأردنية، وذلك في محاولة لاحتواء الإخوان المسلمين عوضًا عن مواجهتهم أو محاربتهم، باعتبارهم جزءًا من النسيج الأردني. وسمح الملك حسين للإخوان المسلمين بمتابعة أنشطتهم الخيرية. وكانت العلاقة بين الحكومة والإخوان المسلمين جيدة ومنسجمة مع أجندات الطرفين التي تقضي بخدمة المصالح الوطنية الأردنية -بما في ذلك معارضاتهم المشتركة لتهديدات منظمة التحرير الفلسطينية ضد الحكومة.
إلا أن هذا الوضع تغير في الثمانينات مع ترحيل عناصر منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان واندلاع الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية عام 1987، ما زاد الساحة الأردنية تعقيدًا وقدم لاعبًا جديدًا ألا وهو حماس، التي أصبحت لاحقًا عنصرًا إسلاميًا من شأنه التأثير على قرارات الإخوان المسلمين في الأردن.
أما الحقبة الثانية فتمتد من العام 1989 حتى 2011، وقد أصبحت خلالها جبهة العمل الإسلامي لاعبًا مركزيًا في الساحة السياسية الأردنية، سيما بعد الانتخابات التشريعية عام 1989، التي فاز فيها الإسلاميون بـ 22 مقعدًا. أتت هذه النتيجة ضمن سياق إقليمي يتصف بتعزيز الحركات الإسلامية السياسية في دول مختلفة والثورة الإسلامية في إيران. ولكن في العام 1993، قرر الملك حسين تغيير القانون الانتخابي، فاعتمد نظام "الصوت الواحد لكل ناخب" لخفض عدد النواب الإسلاميين في البرلمان. ومذاك، يدعو الإخوان المسلمون الشعب إلى مقاطعة الانتخابات، مستنكرين عدم شرعية إجراءات التصويت ومطالبين بتغيير آليات المشاركة السياسية.
وتمثلت الحقبة الثالثة بانطلاق الربيع العربي. فخرج الإخوان المسلمون في الأردن ضعفاء من العاصفة التي ضربت العالم العربي عام 2011، بما أن الأردن لم تشهد تظاهرات على غرار الدول الأخرى. فالاعتصامات والتظاهرات لم تكن سياسية بل مجرد إضرابات تدعو إلى دعم الشفافية ومحاربة الفساد وتحسين الظروف المعيشية. ولكن المسألة التي برزت على الساحة هي مطالبة الإخوان المسلمين بـ "مملكة دستورية". فتوجه الملك عبد الله بنفسه إلى شعبه عند اندلاع انتفاضات الربيع العربي وقاد الإصلاحات في المملكة.
وعند اندلاع التظاهرات في الأردن، رأى الإخوان المسلمون أنهم يواجهون معادلة متعددة المتغيرات تتمثل بما يلي: العلاقة مع المملكة الأردنية، العلاقة مع الإسلاميين الآخرين الذين استلموا السلطة في بعض الدول مثل تونس ومصر، النزاع في سوريا الذي يهدف إلى الإطاحة ببشار الأسد، والرأي العام الأردني واستقرار المجتمع الأردني.
وكان قادة الإخوان المسلمين مدركين لقدرتهم على حشد الشعب، غير أنهم حرصوا على عدم تأجيج الغضب في المملكة. كما قدموا ضمانات بأن التظاهرات ستظل سلمية، وإلا فسيخسروا أمام الحكومة. وأحبطت قيادة الملك عبد الله مساعي الإخوان المسلمين الرامية إلى حشد الأردنيين في العام 2012، إذ استطاعوا حشد الآلاف، ولكن بخلاف توقعاتهم، كان الشعب ينادي ببساطة بإصلاحات سياسية وقد استجاب الملك لمطالبهم، وهو ما أحبط تأثير الإخوان المسلمين. وهكذا، تراجع زخم الإخوان المسلمين وبدأوا بخوض لعبة "الانتظار والترقب" مع الحكومة.
ومع انتخابات عام 2016، كانت أعداد النواب المسلمين في البرلمان عند أدنى مستوياتها. فالشرخ بين الحكومة الأردنية والإخوان المسلمين بالإضافة إلى قيادة حماس تعاظم عند زيارة قائد حماس خالد مشعل وعناصر من الإخوان المسلمين إيران. وعندها، قررت السلطات الأردنية إغلاق مكتب حماس في عمّان.
في الآونة الأخيرة، وبالتحديد منذ أواخر عام 2017 وحتى أواخر مارس 2018، تظاهر الآلاف ضد الحكومة، مطالبين الملك بمكافحة الفساد الذي ساهم في ارتفاع مستويات الديون، مما تسبب في صعوبات اقتصادية مثل ارتفاع الأسعار وارتفاع معدلات البطالة وفرض ضرائب جديدة. لقد تنوعت أسباب تلك التظاهرات، ففي الوقت الذي كان يعاني فيه المواطن الأردني من الفقر والبطالة قامت الأحزاب السياسية المعارضة مثل جماعة الإخوان المسلمين بتعبئة المزيد من المظاهرات ذات التوجه السياسي في المحافظات التي كانت تتمتع فيها بدعم قوي نسبياً.
وردا على تلك التظاهرات، قام الملك بتعديل بعض الحقائب الحكومية لتخفيف حدة التوتر. ومع ذلك، يعتقد العديد من الأردنيين أن هذا العلاج وهمي وليس علاجا حقيقياً، حيث طالبوا الحكومة باتخاذ المزيد من الخطوات لتحسين الظروف المعيشية. وهذا بالطبع حديث رئيس البرلمان الأردني لاحقاً عن إنعاش العلاقات التجارية الأردنية السورية. وحالياً، ينظر بعض الأردنيين إلى سوريا على أنها ملاذهم الوحيد للهروب من الصعوبات التي يعانون منها، عند إعادة فتح الحدود. واليوم، وكما كان الحال في الماضي القريب، نجد أن مفتاح استقرار الأردن يتجلى مرة أخرى في العوامل الاقتصادية، وليس في الانقسامات السياسية أو الإسلامية، أو غيرها من الانقسامات شديدة الخطورة التي حدثت في أماكن أخرى من الجوار مع احتفاظ الأردن بمفاتيح القدس إذ لطالما دعت إلى الحفاظ على القدس كعاصمة للديانات التوحيدية الثلاثة.