- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الأرقام مقابل الروايات في إسرائيل وفلسطين
ذكر دانيال باتريك موينيهان أن كل فرد حرّ بآرائه الخاصة، ولكن ليس بالأرقام التي يذكرها. بعد الأسبوع الدموي الذي شهده الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، أصبحت العواطف متأججة في كافة أنحاء العالم، مع تبادل الاتهامات من كلا طرفي النزاع حول ما إذا كانت إسرائيل قد استخدمت القوة المفرطة في الدفاع عن حدودها مع غزة ضد آلاف المتظاهرين الفلسطينيين. فما الذي يمكن أن تخبرنا به بعض الأرقام عن أحداث الأسبوع الماضي، والأهم من ذلك، كيف ينظر الإسرائيليون والفلسطينيون إلى التطورات الأخيرة؟
فأولها والأكثر بداهة هو الأرقام المذكورة في قطاع غزة ذاته. لقد كان من المقرر أن يكون يوم ١٤ أيار/مايو تتويجًا لسبعة أسابيع من الاحتجاجات التي وُصفت بـ "مسيرة العودة"، حيث تظاهر الغزاويون على السياج الحدودي الذي يفصل بين الأراضي الساحلية وإسرائيل. إذ كان قد قطع زعيم حركة "حماس"، يحيى السنوار، قبل بضعة أيام، وعدًا بنزول "مئات الآلاف" من المتظاهرين على الحدود، وهو تقييم نظر إليه جيش الدفاع الإسرائيلي بسذاجة وقلق في آن واحد. وفي اليوم المقرر، نزل ما يقدر بنحو ٤٥ ألف غزاوي – أي مع زيادة طفيفة في الحجم فقط من أول يوم جمعة انطلقت فيه المظاهرات (٣٠ آذار/مارس).
وبشكل ملحوظ، انتشر المتظاهرون داخل اثني عشر موقعًا مختلفًا في كافة أنحاء غزة، بعكس المواقع الخمس السابقة، التي شكّلت معضلة أمنية أكثر تعقيدًا. ولكن، يتّضح الفرق الحقيقي، كما يؤكد جيش الدفاع الإسرائيلي، في ضراوة وعدوانية الإجراءات المتخذة ضد السياج الحدودي - ما استلزم استجابة عسكرية أكثر فتكًا (وبشكل رئيسي، عن طريق القنص المحدّد الهدف). فقُتل أكثر من ستين متظاهرًا - بعكس يوم الجمعة الأول الذي سقط فيه تسعة عشر متظاهرًا- حيث أعلن أحد قادة "حماس" لاحقًا بعد انتقادات داخلية شديدة، أن خمسين منهم كانوا أعضاء في الحركة (مع ثلاثة آخرين زعمت حركة "الجهاد الإسلامي الفلسطينية" أنهم ينتمون إليها). وأصيب ما لا يقل عن ألف متظاهر إضافي. كما ذكر كل من جيش الدفاع الإسرائيلي وجهاز الأمن العام الإسرائيلي "شين بيت"، أنه جرى التحقق من القتلى وثبت أن ٢٤ شخصًا منهم ينتمون إلى فصائل مختلفة. والجدير بالملاحظة هو عدم وقوع السيناريو الأسوأ: لم يحتشد سكان غزة لاقتحام السياج الحدودي بأعداد هائلة تصل إلى عشرات الآلاف.
وفي اليوم التالي، ١٥ أيار/مايو، كان يوم النكبة - وهو تاريخ تتزايد فيه المصادمات عادة بين المتظاهرين الفلسطينيين وقوات الأمن الإسرائيلية. وعلى الرغم من تشييع ٦٠ جنازة في غزة، إلا أن نسبة المشاركة عند أواخر العصر كانت منخفضة للغاية، أي ما يقدر بنحو ٤ آلاف فرد في كافة أنحاء الإقليم. ووصلت الأرقام إلى مستوى أقل بعد في نهاية الأسبوع، أي أول يوم جمعة من رمضان. ويشار إلى أن يوم النكبة قد شهد ثلاث حوادث أطلق فيها المقاتلون في غزة الرصاص الحي على إسرائيل (في أحد الحوادث، أُطلِقت النيران على مدينة سديروت المجاورة)، وهو حدث نادر نسبيًا في ظل غياب مظاهرات عنيفة واسعة النطاق. وفي الواقع، لم يتم إطلاق صاروخ واحد طوال الأسبوع باتجاه إسرائيل.
تدل الوقائع المدعومة بالبيانات بالإضافة إلى المعطيات المذكورة أعلاه إلى خلاصة شاملة واحدة: تتحكم "حماس" بكل ما يجري داخل غزة وفقًا لمعتقداتها وتوجهاتها. فلأسبابها السياسية الخاصة، يجب الاختيار بين التظاهر (أو لا)، وإطلاق النيران الحية (أو لا)، وإطلاق الصواريخ (أو لا). إذ كانت النيران الحية في يوم النكبة بمثابة رسالة واضحة إلى إسرائيل بأنه في حين أن الاحتجاجات قد تكون قد انحسرت، غير أن الجماعة تحافظ على خيار التصعيد العسكري – مهما كان وقعه كارثيًا على أهالي غزة.
وقد شاهدت المناطق الإسرائيلية الأخرى، فضلاً عن القدس والضفة الغربية، الأحداث التي وقعت في بحر الأسبوع، ولا بد من الاعتراف بذلك، مع شعور واضح من اللامبالاة: ليس تجاه الدماء المراقة على الحدود بين إسرائيل وغزة فحسب، بل انتقال السفارة الأمريكية إلى القدس ويوم النكبة.
في ١٣ أيار/مايو، شكّل صعود نحو ٢٠٠٠ إسرائيلي من اليهود المسيانيين، إلى جبل الهيكل (الحرم الشريف أو مجمع المسجد الأقصى)، نقطة محفّزة أبدية. حيث انتشر فيديو تظهر فيه المشاجرات التي حصلت بين المصلين المسلمين والشرطة الإسرائيلية. ولكن، هنا أيضًا لم يحدث الاحتمال الأسوأ. ويُذكر أن احتفالات "يوم القدس" التي أجريت في وقت لاحق من ذلك اليوم، والتي تقام احتفالًا بالاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في عام ١٩٦٧، كانت الأكثر هدوءًا منذ سنوات، بما في ذلك "مسيرة الأعلام" الاستفزازية التي تمر داخل الحي العربي في بلدة القدس القديمة. والجدير بالذكر أنه لم يظهر للعيان أي متظاهر فلسطيني مناوئ للمسيرة إطلاقًا بالقرب من شارع السلطان سليمان مقابل بوابة دمشق، وبخلاف السنوات الماضية، ظلت المتاجر والمطاعم القريبة مفتوحة.
واستمر هذا الاتجاه في اليوم التالي، حتى أثناء الاحتفال الرفيع المستوى لافتتاح السفارة الأمريكية. ووفقًا للشرطة الإسرائيلية، لم يتظاهر سوى مئة متظاهر، ومنهم برلمانيون عرب، في حي أرنونا بالقدس. كما مرّ الإضراب العام الذي دعت إليه لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في اليوم التالي، تضامنًا مع غزة، بسلاسة ولم يقع سوى حوادث لا تُذكر، فضلاً عن أنّ المشاركة كانت ضعيفة جدًا. أمّا المظاهرات العربية الوحيدة ضد إسرائيل التي شهدت استنكارًا عامًا فهي تلك التي وقعت في حيفا في وقت لاحق من الأسبوع - ربما بسبب سقوط مئات عدة من المتظاهرين في مناسبتين – ويعزى ذلك أساسًا إلى رد الشرطة القاسي جدًا (حيث تم اعتقال أيضًا أكثر من ٢٠ متظاهرًا، وصرّح أحد الناشطين الاجتماعيين الذي يدافع عن حقوق العرب الإسرائيليين بأن الشرطة كسرت ركبته أثناء اعتقاله).
ومن جانبهم، خرج عشرات الآلاف من الإسرائيليين اليهود مساء يوم ١٤ أيار/مايو إلى ساحة رابين في وسط تل أبيب - للاحتفال بانتصار البلاد الأخير في مسابقة "يوروفيجن" للأغاني. وظهر جليًا غياب الاحتجاجات الجماعية التي ينظمها اليسار الإسرائيلي عادة حول الأحداث في غزة. وقد يكون ذلك إشارة إلى اضمحلال تأثيره في السياسة الإسرائيلية، وتناقص دعم الشعب له وفهمه لدور جيش الدفاع الإسرائيلي في التعامل مع المسيرات الحدودية.
وما يثير الدهشة هو استجابة الضفة الغربية -السلطة الفلسطينية- الفاترة لأحداث الأسبوع. اجتذبت التظاهرات المزمع تنظيمها في ١٤ أيار/مايو ما يقدر بنحو ٢٠٠٠ متظاهر في أكثر من ١٢ موقعًا في الضفة الغربية. في الواقع، لم تمنح السلطة الفلسطينية يوم عطلة لموظفيها المدنيين. وبعد ارتفاع حصيلة القتلى في غزة، إلى جانب تأثير يوم النكبة، كان الخوف أن تتجه الضفة الغربية نحو التصعيد. ومع ذلك، وعلى الرغم من دعوات السلطة الفلسطينية إلى إقامة إضراب عام وحداد، فقد ظهر نفس عدد المتظاهرين (أي ٢٠٠٠ متظاهر) في ١٥ أيار/مايو، حيث سُجّلت حالة وفاة واحدة – فتى عمره ١٥ عامًا - جراء الاشتباكات التي تلت الاحتجاجات. وهو أمر يكشف عن وجود تباين صارخ عند مقارنته بعشرات الآلاف المتظاهرين الذين أقاموا مظاهرات تضامنية مع غزة في أماكن مثل إسطنبول والرباط.
وقد يعزى هذا الافتقار الشديد في التعبئة إلى أسباب متنوعة. فإذا صدّقنا جيش الدفاع الإسرائيلي، نرى أن الأعداد الوحيدة التي تهم الفلسطينيين في الضفة الغربية هي الأعمال المختلفة، وللشهر القادم، عدد تصاريح رمضان التي تخولهم دخول القدس، الصادرة عن السلطات الإسرائيلية؛ وهذا ما يدل على حاجة الفلسطينيين الشديدة (وإن كانت نسبية) إلى الاستقرار، وإعادة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى طبيعتها. ويشار إلى أن أكثر من ٤٠ ألف شخص من الضفة الغربية دخلوا إلى القدس لأداء صلاة الجمعة الأولى في رمضان ولم ترد أنباء عن وقوع أي حوادث عنف مهمة.
والسبب الآخر هو تصرفات السلطة الفلسطينية نفسها: الفشل في حشد كوادر "فتح" للنزول إلى الشوارع من جهة، والسيطرة الفعالة من قبل قوات الأمن الفلسطينية من جهة أخرى. على الرغم من الولاء المصطنع لفكرة الوحدة الفلسطينية، لم ترغب السلطة الفلسطينية على الأرجح في زعزعة استقرار الضفة الغربية من أجل ما تعتبره إقليمًا منفصلاً تحكمه منافستها "حماس". في الواقع، قد يكون الشيء الأكثر تعبيرًا هذا الأسبوع، هو موقف "حماس" الذليل أمام الضفة الغربية هذه الأيام: فقد قتل العشرات من أعضائها في يوم واحد، ولم تستطع الحركة الرد حتى من خلال تنظيم مظاهرة خطيرة، ناهيك عن هجوم إرهابي واحد.
في نهاية المطاف، ونظرًا إلى أن غزة لا تزال محط الأنظار، فإن الأرقام التي صدرت الأسبوع الماضي تشير إلى: ما الذي تغير، وما الذي لم يتغير. كما ووجّهت حصيلة القتلى المرتفعة على الحدود الاهتمام العالمي نحو التركيز على الأوضاع الإنسانية القاسية داخل غزة، وهي مجموعة بيانات مؤلمة دفعت الأمم المتحدة إلى إعلان أن القطاع لن يكون صالحًا للسكن بحلول عام ٢٠٢٠. ما جعل مصر تردّ بفتح معبر رفح الحدودي مع غزة طوال شهر رمضان. كما وقامت الحكومة الإسرائيلية، تماشيًا مع توصية جيش الدفاع الإسرائيلي، بإعادة فتح معبر كيرم شالوم الحدودي مع غزة بسرعة، على الرغم من الأضرار الكبيرة التي سببها مؤخرًا مثيرو الشغب الفلسطينيون. (سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي أن أعلن أن إصلاح المعبر سيستغرق "شهورًا"). تدفقت شاحنات المساعدات الطبية والإنسانية، مع تجديد إمدادات وقود الديزل وغاز الطهي ولوازمهما. وتم السماح بنقل أكثر من عشرين جريحًا إلى مستشفيات في الأردن ومصر.
في حين أن هذه الأرقام مخيبة للآمال، إلا أنها تشير إلى اتجاه إيجابي ينبغي الاستفادة منه. لا يمكن ببساطة تجاهل مشاكل غزة – وأولها المسائل الاقتصادية والاجتماعية - خشية أن تنفجر إلى الخارج من جديد. ويمثل التصعيد الأخير للأعمال العدائية بين إسرائيل والمسلحين والذي اندلع في غزة في 29 أيار / مايو دليل إضافي على السياسة القابلة للاشتعال والتي تحيط بالأراضي المحاصرة. ومع ذلك، فإن الاستجابة الضئيلة في مطلع هذا الشهر التي قامت بها إسرائيل والقدس والضفة الغربية - والمشاركة الضعيفة في غزة - قد تدل على شيء مماثل: ففي أشد الأماكن المسيّسة في العالم، يتوق الكثير من الناس إلى الاستقرار والحياة الطبيعية، وليس إلى الصراع اللانهائي وإراقة الدماء المتاحة دومًا.