- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الدبلوماسية التركية بالأرقام: عقد من الاتجاهات
لم تكن تركيا جهة فاعلة معزولة دبلوماسيًا رغم المشاكل المتنامية في سياستها الخارجية، ولا تزال تملك ميزة حوار قوية مع الدول الأعضاء في حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي في وقت تتنامى فيه الاختلافات بينها. في الموازاة، شكّلت علاقات تركيا المكثفة مع دول استبدادية أحد الاتجاهات اللافتة بين 2010 و2020.
لقد كانت تركيا جهة فاعلة قوية من الناحية الدبلوماسية منذ نهاية الحرب الباردة. وقد كان شعار "لا مشاكل مع الدول المجاورة" مبدأ رئيسيًا في السياسة الخارجية التي طبعت علاقات الحكومة بقيادة "حزب العدالة والتنمية" الودية مع كل الدول المجاورة لتركيا طوال العقد الماضي ولغاية الفترة المناهزة لانتفاضات "الربيع العربي". ورغم أن تركيا أصبحت أكثر عدائية وتوسعية من الناحية العسكرية منذ 2010، إلا أن الحكومة لا تزال تلجأ إلى روابطها الدبلوماسية لتحقيق أهداف سياستها الخارجية.
ومن خلال مراجعة البيانات الموجودة على الموقع الإلكتروني لوزارة الخارجية التركية – التي ترصد حركة الاجتماعات مع الحكومات الأجنبية – يمكن للمرء رصد معالم العلاقات الدبلوماسية رفيعة المستوى لأنقرة خلال العقد الماضي من الزمن. ورغم أنك لن تجد سجلًا كاملًا ومنهجيًا لنشاط تركيا الدبلوماسي، يمكن مع ذلك أن يشير التحقق من التغييرات في وتيرة الاجتماعات مع مرور الوقت إلى اتجاهات مهمة في الدبلوماسية التركية.
شركاء تركيا الدبلوماسيون الأكثر ثباتًا
يختلف أبرز شركاء تركيا الدبلوماسيين بشكل كبير الواحد عن الآخر. ومن المرجح أن تكون أولويات سياسة تركيا الخارجية الرئيسية – الشراكات مع دول حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي، والعلاقات التجارية والمسائل الإقليمية والعلاقات القائمة على الطاقة ومشاكل الحدود والتقارب الإيديولوجي – مؤثرة في هذا الاتجاه.
لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن المستويات الرفيعة من الروابط الدبلوماسية لا تعادل بالضرورة علاقات ثنائية قوية وسليمة على نحو أكبر. ففي حين تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأعلى ضمن هذه الفئة باعتبارها أبرز نظراء تركيا الدبلوماسيين، إلا أن العلاقات بين البلدين تراجعت من كونها "شراكة استراتيجية" إلى ما وصفها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بـ"ما يسمى بالشريك الاستراتيجي" خلال العقد الماضي بسبب الخلافات حول العلاقات بين الولايات المتحدةو"حزب الاتحاد الديمقراطي" وشراء تركيا منظومة "أس-400"، من جملة مسائل أخرى. فضلًا عن ذلك، ثمة نزاعات خطيرة بين تركيا وروسيا – شريكها الدبلوماسي الثابت الآخر – في سوريا وليبيا وأوكرانيا وقره باغ.
إلى جانب الولايات المتحدة، تندرج أربع دول أخرى من حلف "الناتو" ضمن فئة شركاء تركيا الدبلوماسيين الأكثر ثباتًا. وبالتالي، فإن تدهور علاقات تركيا مع الغرب لا يُعزى إلى غياب التواصل. وتفضح الأرقام فكرة أنه "يتمّ الاستماع إلى تركيا فقط عندما تستخدم القوة" كفكرة خاطئة. وكانت تسنّت لصناع السياسة الأتراك فرص تبادل الأفكار وحل الخلافات مع الولايات المتحدة وألمانيا أكثر منه مع إيران وروسيا.
وعليه، تمثل المنحى الأبرز في الدبلوماسية التركية بين 2010 و2020 في الازدياد الملحوظ لوتيرة الاجتماعات المنعقدة بين تركيا وروسيا. وناهيك عن الآثار الكبيرة لأزمة الطائرة الروسية في 2015، حين ساهم إسقاط تركيا لطائرة "أس يو-24" الروسية على الحدود التركية-السورية في توتير الروابط الثنائية، تعزّزت علاقات تركيا الدبلوماسية مع روسيا بشكل مطّرد.
دبلوماسية أردوغان
لم يكن أحمد نجدت سيزر، الرئيس العاشر لتركيا، زائرًا دائمًا. فخلال ولايته التي استمرت 7 سنوات، قام الرئيس سيزر بتسع وأربعين زيارة فقط، قل 7 زيارات في السنة. ومنذ تولي عبدالله غول الرئاسة في 2007، لعب الرئيس التركي دورًا فاعلًا في الدبلوماسية التركية. وطوال مطلع العقد الماضي (2010)، شارك الرئيسان غول وأردوغان في 1 تقريبًا من كل 4 اجتماعات رفيعة المستوى مع شركاء دبلوماسيين. وكان مسؤولو الحكومة الأمريكية وأعضاء الكونغرس من أكثر شركاء الرئيس التركي ثباتًا.
لكن من حيث اللقاءات مع رؤساء الدول، فقد شهدت أبرز جهات الاتصال مع تركيا تغيرًا ملحوظًا. وكادت لقاءات غول وأردوغان، وهذا الأخير على وجه الخصوص، أن تقتصر على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشريك غربي واحد فقط، هي ألمانيا، من بين أبرز 10 دول ضمن هذه الفئة. يُذكر أن خمس اللقاءات رفيعة المستوى بين تركيا وروسيا جرت على المستوى الرئاسي. في المقابل، تبلغ نسبة اللقاءات بين الرؤساء في العلاقات التركية-الأمريكية 1 من 20. ففي 2014، حين حصلت القطيعة بين الرئيسين التركي والأمريكي، اشتكى أردوغان من عدم قدرته على لقاء أوباما بعد مرور 15 شهرًا على اجتماعهما الثنائي الأخير. ومع ذلك، استطاع أردوغان إقامة علاقة استثنائية مع الرئيس ترامب الذي أجرى اتصالات هاتفية متكررة به متخطيًا القنوات البيروقراطية الاعتيادية. وهذا يُظهر أن العلاقات المؤسسية التي يبنيها التكنوقراط عادةً عبر الوزارات والمنظمات الدولية تؤثر بشكل أكبر في روابط تركيا مع دول الغرب، فيما روابط أردوغان الشخصية لها التأثير الأقوى والأكبر مع الشركاء غير الغربيين.
مجموعات الدول استنادًا إلى المنظمات الدولية
كان إجمالي عدد الاجتماعات بين تركيا ودول "منظمة التعاون الإسلامي" طيلة السنوات العشر الأولى من القرن الواحد والعشرين أكثر ارتفاعًا من السنوات القليلة الماضية، باستثناء العاميْن 2012 و2014. فواقع أن المنظمة تضمّ عددًا أكبر من الأعضاء مقارنةً بالمنظمات الدولية الأخرى المقاسة أثّر حتمًا على هذا المقياس. ومع ذلك، فإن ازدياد العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأعضاء في المنظمة بين 2016 و2019 جدير بالملاحظة. وربما تكون حملة حكومة "حزب العدالة والتنمية" ضد مناصري غولن في أعقاب محاولة الانقلاب التي تنسب الحكومة مسؤوليتها إلى غولن، وخطاب الحزب الإسلامي-القومي المتزايد، قد أثرا على هذا المنحى، حيث أفضت ضغوط أنقرة إلى حصول تركيا على دعم إضافي من الدول الإسلامية في "منظمة التعاون الإسلامي" و"المجلس التركي".
رغم تنامي استبداد تركيا وتدهور القيم الديمقراطية، وسيادة القانون وحقوق الإنسان، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيرًا على علاقات أنقرة مع الدول الأعضاء في حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي. ويمكن أن يعزى ذلك إلى العلاقات المؤسسية والوقائع الجيوسياسية والروابط الاقتصادية، بما أن هؤلاء الشركاء حافظوا على قنوات تواصل رغم الصراعات على هذه المواضيع.
وفي الوقت نفسه، برزت زيادة ملحوظة في وتيرة الاجتماعات الدبلوماسية التي عقدتها أنقرة مع دول أكثر استبدادًا تنتمي إلى منظمات على غرار "منظمة شنغهاي للتعاون" و"المجلس التركي". وقد تكون للزمالة الاستبدادية وتبدّل ميزان القوى العالمي دور مؤثر في هذه الزيادة.
وأخيرًا، قد تسعى تركيا إلى كسب ميزة في وجه روسيا من خلال تعزيز نفوذها في دول آسيا الوسطى والقوقاز. ويسمح "المجلس التركي" لأنقرة باستخدام لغتها وثقافتها وهويتها التركية المشتركة للوصول إلى تلك الدول.
التركيز الإقليمي
حظيت أقرب الدول المجاورة لتركيا – دول في منطقة الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز - بجزء كبير من اهتمام أنقرة.
فعقب "الربيع العربي"، تباطأ النشاط الدبلوماسي لتركيا في الشرق الأوسط بشكل محلوظ – لغاية عام 2015. وفي ذلك الوقت، وصف مستشار أردوغان ابراهيم كالين موقف تركيا على أنه "عزلة قيّمة". وشكّلت سنة 2016 نقطة تحوّل مهمة بالنسبة لتركيا على عدة أصعدة، بما فيها سياساتها تجاه الشرق الأوسط. واعتبارًا من أيلول/سبتمبر 2015، طمست روسيا تطلعات الحكومة التركية في سوريا. هذا وأقال أردوغان رئيس الوزراء داوود أوغلو، الشخصية الأبرز خلف سياسات تركيا في حقبة "الربيع العربي"، وانتهج خطًا سياسيًا أكثر براغماتيةً إزاء المنطقة. بعد ذلك، طبّعت أنقرة العلاقات مع كل من روسيا وإسرائيل والإمارات في 2016. وقد ساهمت كل واحدة من هذه الخطوات في إحياء الدبلوماسية التركية في المنطقة. وفوق كل شيء، تُعتبر أزمة قطر في عام 2017 والتقارب الذي تلاها بين تركيا والدوحة عامليْن عززا علاقات تركيا مع الشرق الأوسط.
كذلك، تبيّن الرسوم البيانية نتائج الانفتاح الدبلوماسي التركي على أفريقيا وأمريكا اللاتينية. فأفريقيا هي المنطقة الوحيدة التي لم تتراجع فيها الاتصالات الدبلوماسية التركية خلال فترة انتشار فيروس كورونا. وبين 2011 و2018، ازدادت اتصالات تركيا الدبلوماسية في أمريكا اللاتينية أيضًا. وبين 2016 و2019، كانت العلاقات بين تركيا وفنزويلا مدفوعة جزئياً بتجارة الذهب وكان ذلك هو القوة المحركة خلف هذه الزيادة في العلاقات. ففي حين عقدت أنقرة 3 اجتماعات ثنائية رفيعة المستوى مع كراكاس بين 2010 و2015، ارتفع هذا العدد إلى 17 اجتماعًا في 2018.
الآليات الثلاثية
وتُعدّ الآليات الثلاثية أدوات مهمة للدبلوماسية التركية، ولا سيما لمناقشة مسائل إقليمية. وبما أن الاجتماعات الثلاثية أقل بيروقراطية ومرونة وإلزامًا، يمكن استخدامها كقناة تواصل فعالة بين الجهات الفاعلة الإقليمية، كما أنها مفيدة في تسليط الضوء على دور أنقرة كوسيط وصانعة قرار. وتُعتبر الاجتماعات بين تركيا وصربيا والبوسنة والهرسك، وكذلك تلك المعقودة بين تركيا وأذربيجان وجورجيا خير دليل على كيفية استخدام أنقرة لهذه الأداة من أجل رسم معالم الدبلوماسية في المنطقة.
في المقابل، كانت الاجتماعات بين روسيا وإيران وتركيا التي عرفت أيضًا باسم محادثات "عملية أستانا" آلية روسية وإيرانية لإبقاء تركيا متماشية مع سياساتهما الخاصة بسوريا.
العوامل المحلية
للتطورات المحلية أيضًا أثر على علاقات تركيا الدبلوماسية. فالتحديات السياسية التي يواجهها أردوغان على صعيد سياسة تركيا المحلية ساهمت في تباطؤ نشاط البلاد الدبلوماسي. كما برز تراجع كبير في عدد الاجتماعات الدبلوماسية التي عقدتها تركيا في 2013 و2015. كذلك، طرحت التظاهرات التي اندلعت في غيزي في 2013 وخسارة أردوغان للانتخابات في 2015 تحديات محلية كبيرة شتت انتباهه عن السياسة الخارجية. ولكنه من المستحيل أن نعرف بأي اتجاه تدفع الاضطرابات المحلية بالدبلوماسية التركية وسط تسجيل هذه الأرقام التي لا ينبغي استبعادها كونها لها تأثير مماثل على أولويات تركيا الدبلوماسية.
أبرز الاستنتاجات
رغم الاضطرابات على صعيد السياسة الخارجية، لا تُعتبر تركيا بلدًا معزولًا من الناحية الدبلوماسية، باستثناء فترة وجيزة من الانكماش، وهو أمر شائع في العلاقات بين دول الشرق الأوسط.
ورغم أن علاقات تركيا بشركائها في حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي كانت تتدهور طوال العقد الماضي، لا تزال الدول الغربية من أبرز شركاء أنقرة الدبلوماسيين. مع ذلك، على ما يبدو فإن الدبلوماسية غير قادرة على منع تدهور العلاقات. إضافة الى ذلك، لم يؤد ازدياد استبداد تركيا وتدهور سيادة القانون فيها وتراجع الديمقراطية إلى خفض عدد الاجتماعات الدبلوماسية مع الدول الديمقراطية. فالحاجة إلى إدارة مسائل على غرار سوريا، ومنظومة "أس-400" والشرق الأوسط وليبيا وتدفق اللاجئين وغيرها، شجعت الأطراف على مواصلة الحوار. ومع ذلك، يُعتبر ازدياد حركة الاتصالات بين تركيا والدول الاستبدادية الأخرى، ولا سيما روسيا، أحد أبرز اتجاهات الدبلوماسية التركية بين 2010 و2020.
ملاحظة: أودّ أن أشكر غوكان ديميرتاس على دعمه هذه الدراسة.