تعززت مكانة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) بشكل كبير بعد استيلائه على الموصل في العام 2014. ففي غضون عامين فحسب، انتشر فرع "القاعدة" هذا في معظم دول الشرق الأوسط والمغرب الإسلامي وجنوب وجنوب شرق آسيا، وأسّس خلايا وألهم أفرادًا لشن هجمات في أوروبا وأمريكا الشمالية.
لم تتم دراسة وتحليل شبكة "داعش" المتنامية في باكستان وعلاقات مؤسس التنظيم بالعقائديين الإسلاميين والمنظمات الإرهابية في البلاد بشكلٍ معمّق. وكان أبو مصعب الزرقاوي قد بدأ مسيرته الجهادية في باكستان أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وأنشأ هناك علاقات وثيقة مع عدد من العقائديين الجهاديين الفلسطينيين. كما أن الزرقاوي، وهو من أصل أردني، كان أفغانيًا-عربيًا مخضرمًا أسسّ لاحقًا معسكرًا للتدريب، بإذن من بن لادن، في هراة، أفغانستان، تحت حكم حركة "طالبان".
وكان الزرقاوي، وهو مجرم ومهرّب ذائع الصيت، قد اكتسب الأفكار المتطرفة في بادئ الأمر من "جماعة التبليغ"، وهي مجموعة تنشر الدعوة الإسلامية مقرها في لاهور وترفض العنف رسميًا كأداة لتحقيق ذلك. بعد ذلك، تأثّر الزرقاوي بأبي محمد المقدسي، وهو رجل دين أردني من أصل فلسطيني علّم الزرقاوي حين جمعهما السجن في تسعينيات القرن الماضي؛ وكان المقدسي متهمًا بالتحريض في حين كانت تهمة الزرقاوي السرقة. وكان المقدسي من أقنع الزرقاوي بالانضمام إلى المجاهدين في أفغانستان.
من ناحية أخرى، برز تنظيم "القاعدة" في باكستان بعد الحرب السوفيتية-الأفغانية (1979-1989). لكن "داعش"، ورغم أنه كان جزءًا من "القاعدة"، لا يزال جديدًا على مشهد الجهاد الغني في باكستان. ورغم هذه العقبة، يبدو تنظيم "داعش" مصممًا على خلع "القاعدة" من عرش قيادة الجهاد العالمي عمومًا وفي باكستان خصوصًا. فليس من المفاجئ ألا يكون تنظيم "القاعدة"، تحت قيادة أيمن الظواهري، ينوي التنازل عن موقعه وقد أطلق مؤخرًا فرعاً محليًا في شبه القارة الهندية. وقد دخل التنظيمان الآن في منافسة حادة لجذب مجندين جدد وضمّ الأعضاء المنشقين عن المنظمات الجهادية الباكستانية إلى صفوفه. وتجدر الإشارة إلى أن "القاعدة" كان في ما مضى القائد الأعلى الوحيد لكافة المنظمات الجهادية في باكستان، لكنه شهد الآن على انضمام عدد من قادة حركة "تحريك طالبان" إلى صفوف "داعش".
وبالطبع، يستقبل "داعش" العدد الكبير من الجماعات الجهادية الساعية إلى الانضمام أو مبايعة فروعه.
ورغم انشقاق عدد كبير من أعضاء الجماعات الإرهابية الإسلامية المتحالفة سابقًا مع "القاعدة" ومبايعتهم "داعش"، يواصل تنظيم "القاعدة" في باكستان العمل للحفاظ على نطاق نفوذه في البلاد. وفي خطوة لإنعاش مسرحه في جنوب آسيا، أسّس التنظيم "القاعدة في شبه القارة الهندية" في أيلول/سبتمبر 2014 وعيّن عاصم عمر، وهو جهادي مخضرم من أصول هندية، أميرًا (وهو أمرٌ غير مألوف في تنظيم "القاعدة" الذي يهيمن عليه العرب). وظهر أيمن الظواهري إلى جانب عاصم عمر في رسالة عبر الفيديو رسمت الفرع الجديد للتنظيم، مؤكدًا مواصلته السيطرة على شؤون "القاعدة".
ورغم كل هذا، يبدو أن آفاق "داعش" المستقبلية في باكستان واعدة. فتنظيم "القاعدة" يواجه تحديًا كبيرًا يتمثّل بأن أعدادًا ملحوظة من أبرز قادته إما قتلوا في غارات أمريكية في باكستان أو اعتقلتهم قوات إنفاذ القانون. وقد دعمت أزمة القيادة الناتجة عن ذلك مكاسب "داعش" في باكستان، إلى جانب قدرته على جذب مجندين جدد، لا سيما أولئك المتعلمين، وتأسيس شبكة أولية. ويشار إلى أن الصورة الجهادية التي أنشأها لنفسه تلقى رواجًا أكبر من المنظمة الأم "القاعدة" لعدة أسباب.
والجدير ذكره أن "داعش" يسيطر على الأرض والناس، ويُعتبر أغنى، ويضمّ في صفوفه عددًا أكبر من المقاتلين المتمرسين، ويدير معسكرات تدريب في مناطق سيطرته، وتمكّن من إنشاء معاقل متينة في أفغانستان وليبيا وسيناء ونيجيريا. والأهم، أن التنظيم نجح في الاستيلاء على أراضٍ من بلدين وأعلن الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق، وهو الهدف الأسمى للمجاهدين. وبالتالي، يتنامى التعاطف مع التنظيم في أوساط المجاهدين الباكستانيين، حيث أنه من المرجح أن ينضم عدد أكبر من المقاتلين إليه في المستقبل القريب. ومن المنطلق نفسه، تُعتبر باكستان جذابة بالنسبة لتنظيم "داعش" للأسباب نفسها التي جذبت "القاعدة" ألا وهي الأصول نووية والنسبة الكبيرة من الشباب في أوساط السكان وتنامي الراديكالية فيها، والعدد الكبير من المنظمات الجهادية الأصغر حجمًا التي يمكن أن تستقطب منها مقاتلين مخضرمين، وفوق كل شيء، الطبيعة الهشة للدولة.
ويُظهر بوضوح واقع ازدياد قلق السلطات الباكستانية نوعًا ما تنامي شبكة "داعش" البطيء إنما الأكيد في البلاد، كما أن تنظيم "القاعدة" ينتابه القلق نفسه، فبروز "داعش" في باكستان أرغم تنظيم "القاعدة" على محاولة إنعاش نفسه ومنافسته باعتماد مستوى القسوة والضراوة نفسه. فتنظيم "داعش" عازم على الاستفادة من المشهد الجهادي الغني والخصب في باكستان وقد يستخدم قواعد التجنيد القوية بشكل ناجح تمامًا كما فعل "القاعدة". وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى إن كانت باكستان ستتمكّن من احتواء نمو "داعش" السريع وكيف ستفعل ذلك، وسط مواجهة تنظيم "القاعدة" الحسود في الوقت نفسه.