- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الدين والمال أدوات القوة الناعمة الروسية في سوريا
في حين اتسم رد الفعل العالمي بالصدمة تجاه الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير، فإن فهم الدور الذي تلعبه روسيا في سوريا يجعل تصرفات بوتين في أوكرانيا تبدو واضحة كنمط احتلالي أكثر من كونها حالة شاذّة.
في حين اتسم رد الفعل العالمي بالصدمة تجاه الهجوم الروسي الوحشي على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير، فإن فهم الدور الذي تلعبه روسيا في سوريا يجعل تصرفات بوتين في أوكرانيا تبدو واضحة كنمط احتلالي أكثر من كونها حالة شاذّة.
في عام 2017 صرح بوتين خلال المنتدى الاقتصادي الدولي في مدينة سانت بطرسبرج قائلا "هناك كثير من الدول التي لا تتمتع بامتياز السيادة الحقيقية وذلك على مستوى العالم". ومن ثم، أوضح هذا التصريح مدى أهمية احتلال سوريا لبوتين ضمن هذه الرؤية كما وقد ساعد على توضيح النوايا الروسية وراء توظيف قوتها الناعمة في سوريا.
سياسة الجزرة والعصا: ضغوطات القوة الناعمة والخشنة لروسيا
تتجلى طموحات روسيا في توظيف القوة الخشنة في سوريا بوضوح من خلال عملياتها العسكرية التي تستهدف المدنيين وجماعات المعارضة على حدٍ سواء. ويتركز الوجود العسكري الروسي في سوريا، الذي سبق الحرب نفسها، حول قاعدة طرطوس البحرية التي تم أنشاؤها في سوريا عام 1971 بموجب اتفاق بين الاتحاد السوفيتي ونظام حافظ الأسد. وقد شهدت هذه القاعدة توسعاً كبيرا في عام 2017 بعد أن بدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سوريا. وبالإضافة إلى إعادة تمكين نظام الأسد من السيطرة على الأراضي السورية، أشرفت القوات الروسية على عمليات التهجير التي أطلق عليها اسم “المصالحات” والتي كرست التغيير الديمغرافي لتكريس التقسيم الحاصل حالياً ولتسهيل سيطرة الأسد وقوى الامر الواقع على الأراضي السورية.
ومع ذلك، ترى روسيا أيضًا أن وجودها العسكري في سوريا سيكون بمثابة وسيلة لتعزيز نفوذها وفرض قوتها الناعمة داخل البلاد. وفى هذا السياق، صارت قاعدة حميميم العسكرية الروسية التي تقع في منطقة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية والملاصقة للمطار المدني الذي يحمل اسم مطار باسل الأسد، غرفة عملياتها الأساسية في سوريا. كما أنشأت روسيا في قاعدة حميميم ما عرف بالمركز الروسي للمصالحة الوطنية، حيث جندت من خلاله شخصيات مدنية لبث الرؤية الروسية الناعمة في مختلف مناطق الصراع السوري مع النظام. ومع تضافر جهود القوة الخشنة والناعمة، صارت قاعدة حميميم مركز نفوذ وموقع أساسي لجهود عمليات التهجير، وهو ما يظهر سعى روسيا للتأثير على الرأي العام السوري والتركيبة السكانية للبلد نفسه.
وبالمثل، تستخدم روسيا قوتها الناعمة عندما يتعلق الأمر بالمساعدات الإنسانية، حيث نشر موقع "أتلانتك" بحثا يلخص طرق استخدام روسيا لقوتها الناعمة من خلال تقديم المساعدات الإنسانية. وفى هذا الصدد، عملت روسيا على تشكيل نظام مساعدات ظل مؤسسي وديني غير خاضع للنظم الدولية المتعارف عليها ولا يدخل في شراكة مع مؤسسات الدولة السورية كما يُفرض على المنظمات الغربية التي تعمل في سوريا. وفى الوقت عينه، عملت روسيا ضمن أطر الأمم المتحدة بغية تقييد قنوات المساعدة هذه حتى يظل توزيعها تحت سيطرة نظام الأسد. وأضافت الدراسة أن نظام الظل هذا يرتدي لباس مساعدات تصب في مصلحة إنقاذ السوريين، بينما هو بالحقيقة يشكل تدخلاً في بنية المجتمع المحلي السوري ويصب في مصلحة التغيير الديمغرافي والفكري الموائم لمصالح الاحتلال الروسي وأهدافه الاستراتيجية. سهلت هذه العملية الوضع في سوريا لتصبح دولة تابعة لموسكو وذلك من خلال استنزاف مواردها بحيث أصبحت الدولة معتمدة كليًا على روسيا لخدمة أهدافها طويلة المدى، وهي طريقة استخدمتها إيران في المناطق الواقعة تحت نفوذها.
استغلال روسيا للمؤسسات الدينة
يتمتع المسؤولون الروس بتاريخ طويل في استغلال علاقاتهم بالكنيسة الأرثوذكسية للادعاء بأن روسيا هي المنقذ للمسيحيين في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ففي شهر يوليو/ تموز 2021، صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. لـ"قناة روسيا 24"، بالقول: "إن وزارة الخارجية الروسية بالتعاون مع الكنيسة الروسية تتخذ خطوات ملموسة لحماية المسيحيين، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". ومن ثم، عمل بوتين على استغلال الكنيسة الأرثوذكسية التي تحظى باتباع كثر في منطقة اللاذقية كأداة فعالة مرادفة إلى جانب القوة الخشنة لتحقيق أهدافها. وفي هذا الصدد، نجحت المبادرات الروسية في إقناع شخصيات بارزة من الكنيسة الأرثوذكسية في سوريا بدعم سياسات الحكومة الروسية والنظام السوري علانية. وقد استفاد العديد من هؤلاء الأشخاص من الحرب المستمرة من خلال المساعدات المقدمة لهم أو تغطية تكاليف السفر لأولئك الذين يرغبون في المغادرة. ومن الجدير بالذكر أن موسكو قد شهدت الأثار التي أفرزتها سياسات مماثلة تجاه الكنيسة في دول الاتحاد السوفياتي السابقة، وقد عملت روسيا على صياغة استراتيجيتها في سوريا وفقًا لذلك.
وفي السياق عينه، استيقظت منذ وقت قصير مدينة اللاذقية على خبر "انتحار" خوري أبرشية الروم الأرثوذكس جورج حوش وهو من الداعمين الأساسيين للمليشيات الأسدية والروسية، وأحد رعاة التسويات والمصالحات مع النظام في المنطقة، والذي كما كان معروفًا عنه انه يعمل مع السوريين - من الجنسين - الذين يودون الخروج من البلاد من معتنقي الديانة المسيحية أصلاً أو ممن هم من الخلفية الإسلامية الذين يختارون أو تحت ضغط اشتراط الدعم يبدلون دينهم الإسلامي بالدين المسيحي ، ليستفيدوا من ورقة التعميد وليدخلوا تحت عمادة الكنيسة ورعايتها كشرط للتقدم إلى ما يسمى باللجوء الديني.
عمل الخوري جورج حوش على ملفاته ضمن برنامج روسي لحماية المسيحيين وتيسير اللجوء إلى أوربا. وجدير بالذكر حسب شهود عيان أن نفقات هجرة هؤلاء كانت كما كان يذكر الخوري حوش للراغبين والمتقدمين هي تحت رعاية و تمويل الكاتدرائية الروسية الأرثوذكسية. ويتناقل السكان المحليين وعلى نطاق واسع وعبر وسائل التواصل الاجتماعي معلومات تفيد أنه وإن بدا موت الخوري جورج حوش انتحاراً فهو قد قُتِلَ على يد النظام والروس لأسباب مجهولة.
كما استفادت روسيا أيضا من المؤسسات الإسلامية لتحقيق أهدافها حيث شارك رمضان قاديروف رئيس جمهورية الشيشان وحليف بوتين الحميم في الحرب السورية، وأرسل مجموعات شيشانية مقاتلة للحرب في سوريا بذريعة دينية. ظهرت سياسة روسيا المتمثلة في استخدام الانخراط الديني لبناء علاقات مع القادة السوريين في وقت مبكر مع مشاركاتهم في الحرب في سوريا، حيث عقد قاديروف مؤتمر للعلماء المسلمين في العاصمة الشيشانية غروزني و تمت دعوة المشايخ الموالين للنظام إليه.
وبمجرد وصول هؤلاء المقاتلين إلى سوريا يصبحون تحت إمرة الكرملين مباشرة ،كما أرسل قاديروف بضعة آلاف من المقاتلين الشيشانيين تحت بند قتال تنظيم "داعش "وكان الدور الأهم الذي رُسم لوجودهم في سوريا هو بناء تقارب بين الجنود الشيشانيين والسوريين الذين تحت نظام الأسد حيث يجمعهم معتقد الدين الإسلامي، وجدير بالذكر عند هذه النقطة ذكر تغلغل المجاهدين الشيشان في صفوف الفصائل المعارضة المتشددة التي تقف في وجه الأسد بنفس الحجة والمعتقد الجهادي الذي يستغله قاديروف لتجنيد شباب الفئات الفقيرة واليائسة من شعبه في حروب يدعوها مقدسة.
وخلال فترة الحرب الأهلية، عملت روسيا على دعم مؤسسة أحمد قاديروف الخيرية، والمُسماة على اسم والد الزعيم الحالي. وتقوم تلك المؤسسة بإرسال مساعدات منذ منتصف عام 2016 إلى المناطق التي تقع تحت سيطرة قوات النظام السوري بهدف تغيير وجهات النظر عن الدور الروسي والشيشاني في سورية. وقد تم تسييس تلك المساعدات حيث غالبا ما يصرح قاديروف والإعلام التابع له بأن المساعدات التي تقدمها المؤسسة للسوريين أكبر بكثير من تلك التي تقدّمها المنظمات الدولية، - وهو تأكيد خاطئ بشكل واضح.
وبالمثل، لعب حليف بوتين ورجل الأعمال يفغيني بريغوجين دورًا كبيرا في الجمع بين عقود إعادة الإعمار والمصالح الدينية لتعزيز دور روسيا في سوريا مع كسب تأييد الجمهور. ووسط الحديث عن إعادة الإعمار والتطبيع في سوريا خلال العامين الماضيين، تم توقيع عدة صفقات نفط وغاز بين النظام السوري وشركات لها علاقات مع مجموعة المرتزقة الروسية المعروفة باسم مجموعة فاغنر، التي يقودها بريغوجين. ويأتي ذلك بعد سنوات من عمل الشيشان تحت قيادة بريغوجين لإعادة بناء المساجد في حلب، مثل الجامع الكبير، وغيرها من المساجد في جميع أنحاء سوريا التي تضررت خلال الحرب. و قد ساهمت عملية إعادة بناء المساجد في توثيق العلاقات الشيشانية السورية، وسمحت للكرملين بالتأثير الناعم ضمن سياسة حسن نية تجاه المجتمع المسلم المحلي وهو في الحقيقة يشكل استمرارًا للسياسة التي تتبعها روسيا في أرضها حيث يقوم الشيشان ببناء المساجد في مناطق المسلمين في المدن المختلفة الروسية لكسب ولاء السكان.
التعليم والثقافة
لا تعتمد موسكو على الروابط الدينية وحدها، بل عملت أيضا على نشر الوعي حول الأدب والفن والثقافة الروسية عن طريق مراكز ثقافية تدعمها و تديرها بشكل مباشر، وقد أُنشئت لهذه الغرض أفرع جديدة ومتعددة للمركز الثقافي الروسي في بعض المحافظات السورية، والجدير بالذكر أن المركز الثقافي الروسي الرئيسي ومقره دمشق كان خمولاً لمدة سبع سنوات قبل أن يستأنف نشاطه مرة أخرى في عام 2020.
في عام 2014، تم إدراج اللغة الروسية كلغة رئيسية في مناهج التعليم السورية إلى جانب الإنكليزية والفرنسية وحتى اللحظة هي اختيارية إلى جانب اللغة الإنكليزية، ولكن يختلف الإقبال عليها من منطقة إلى أخرى في سوريا حسب القبول الشعبي للتواجد الروسي، وهو موضوع تم تناوله بعمق هنا.
تم أيضا رصد ميزانيات ضخمة خصصتها كل من الحكومة الروسية وحكومة نظام الأسد لصالح البعثات العلمية إلى روسيا وبيلاروسيا والشيشان.
الهيمنة الاقتصادية لروسيا في سوريا
كانت هناك عدة صفقات تجارية واسعة تم أبرامها من خلال عقود تقييد واستغلال للموارد الوطنية وتضع سوريا تحت ديون سيادية متراكمة تضمن بقاءها رهينة اقتصاديًا إلى أجل غير مسمى بسبب تراكم العقوبات على تأخير السداد، بالإضافة إلى ارتفاع الفوائد وتراكمها. وتتخذ تلك العقود أشكال شتى منها:
١ـ “عقود الإذعان “مع النظام السوري حيث يُمنح قروضاً كبيرة مشروطة بتفعيل شركات روسية حصرًا مملوكة من قبل شخصيات مقربة من الرئيس الروسي بوتين ومدرجة تحت العقوبات الدولية بسبب ضلوعها في الأزمة الأوكرانية ومن مرتكبي جرائم حرب في سوريا.
٢ـ "قروض التصدير" والتي تفرض فيها روسيا بشكل قسري -ويتم ترتيب ذلك بسرية- قروضاً على النظام تحت شرط مُلزم باستيراد و شراء بضائع من روسيا حصراً و وفق الأسعار التي تحددها والتي تتجاوز وترتفع عن أسعار السوق العالمي وتُستخدم فيها العملة الروسية الروبل.
٣ـ عقود النفط مع شركات وهمية تدخل بشكل غير شرعي تحت مسمى شركات حماية (فاغنر) ويمنحها النظام ٢٥٪مِن واردات أبار النفط التي تستعيد السيطرة عليها لصالحه.
٤ـ عقود الشركات الأمنية الخاصة والتي انكشفت تأثيراتها في الصراع الأرمني الأذري وفي الحرب الأوكرانية، حيث قامت تلك الشركات بتجنيد سوريين في ليبيا وأرمنيا وأوكرانيا.
٥ـ عقد احتكار مرفأ طرطوس لمدة 45 سنة.
وأخيرا، تساعد جهود القوة الناعمة هذه في تغذية حملة بوتين المتعجرفة لاستعادة مجد روسيا وتحقيق التفوق الروسي على حساب الشعوب الأخرى، حيث عمل بوتين على توظيف القوة الناعمة الروسية في سوريا للمساعدة في دعم نظام الأسد. ومع ذلك، فإن الوسائل التي تتبعها موسكو في سوريا لتنفيذ أجندتها المرتبطة بقوتها الناعمة في سوريا تُظهر جهود روسيا لتفريغ أي محاولة لتحقيق الاستقلال الذاتي في سوريا من مضمونها وذلك في محاولة لامتصاص ما تبقى من سوريا بشكل أعمق في الفلك الروسي.