إذا أراد الشرع تجنب تكرار أخطاء الأسد، فقد يتعيّن عليه تطبيق اللامركزية في السلطة السياسية وإنشاء نظام فيدرالي حقيقي، رغم التحديات الجوهرية المتعلقة بعدالة توزيع الموارد.
هل يمكن للرئيس المؤقت أحمد الشرع أن يجمع شمل سوريا؟ حتى لو وضعنا جانباً المصالح المتضاربة التي غالباً ما تشدد عليها القوى الإقليمية والعالمية، فإن المشهد الداخلي للبلاد وحده يجعل هذا السؤال شديد التعقيد. فبعد حرب أهلية مدمرة استمرت أربعة عشر عاماً، أصبحت سوريا مُمزقة، إذ تفككت الدولة التي كانت موحدة ذات يوم إلى ولاءات قبلية وطائفية صارت المصدر الرئيسي للشرعية المحلية. ويمثل الشرع وجماعته "هيئة تحرير الشام" في المقام الأول العرب السنة، الذين يشكلون أكثر من ثلثي السكان. وبعد قيادته للحراك الذي أطاح ببشار الأسد، لا يزال الشرع يعارض فكرة إقامة نظام فيدرالي ويطمح بدلاً من ذلك إلى إنشاء نظام سياسي مركزي يستمد قوته من الدعم الشعبي ومع ذلك، قد يكون النهج الفيدرالي أكثر فعالية، بل وربما لا غنى عنه، في تعزيز المصالحة الوطنية وإعادة بناء البلاد.
سوريا المقسمة
كما تظهر الخريطة أدناه، تسيطر حكومة الشرع المؤقتة على مناطق محدودة نسبيًا في سوريا، بما في ذلك معظم المدن الغربية وأجزاء من الريف. أما في وادي الفرات، فلا يوجد تأكيد على ولاء العشائر السنية لـ"هيئة تحرير الشام "، بينما في درعا، تعارض القوات التي يسيطر عليها المتمرد السابق أحمد العودة، إلى جانب فصائل جنوبية أخرى، الاندماج في الجيش السوري الجديد. وفي الشمال الشرقي، تنخرط "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الأكراد في مناقشات مع الشرع لكنها لا تزال متحفظة إزاء نواياه.
وفي أماكن أخرى في الشمال، تحتفظ الميليشيات الموالية لتركيا التي تشكّل "الجيش الوطني السوري" بقبضتها على معاقلها الرئيسية في عفرين وجرابلس ومنطقة منفصلة بين تل أبيض ورأس العين. وفي 29 كانون الثاني/يناير، أرغمت تركيا رئيس هذه المجموعة، سيف أبو بكر، على السفر إلى دمشق لتهنئة الرئيس الجديد شخصيًا، لكن هذا هو التنازل الوحيد الذي قدمه للشرع حتى الآن. ويتقاسم الزعيمين تاريخًا طويلًا من العداء المتبادل، خاصة وأن العديد من مقاتلي الجيش الوطني السوري هم من قدامى المحاربين الذين خاضوا المعارك الدامية ضد "هيئة تحرير الشام " للسيطرة على محافظة إدلب بين عامي 2017 و2020.
وتلقي هذه الأوضاع المحلية المتباينة بظلال من الشك على قدرة الشرع على إدماج جميع الفصائل والمجموعات العرقية بسلاسة في سوريا الجديدة. فالسكان العرب قد يجدون أنفسهم ميالين إلى التقارب مع دمشق، لكن يبدو أن الأكراد حريصون على الحفاظ على وضعهم المتمثل بالحكم الذاتي، في حين بسط الدروز سيطرتهم على محافظة السويداء ويمنعون قوات "هيئة تحرير الشام" من دخولها. ويندرج الأمر نفسه على المناطق التي يقطنها الدروز في ضواحي العاصمة، بما في ذلك جرمانا وصحنايا وجديدة عرطوز. أما في المنطقة الساحلية العلوية، فقد حظيت زيارة الشرع إلى اللاذقية وطرطوس في 16 شباط/فبراير باحتفالات اقتصرت على المجتمعات العربية السنية المحلية. أما العلويون – طائفة عائلة الأسد ونواة النظام السابق – فلم يشاركوا في الاحتفالات، بل آثروا الانعزال في أحيائهم وقراهم. كما أنشأ مسؤولو النظام السابق ميليشيات جديدة لإعادة إحياء الدور التاريخي للمنطقة بوصفها ملاذ جبلي محصن للعلويين.
باختصار، يتعارض مشروع الشرع السياسي القائم على مركزية السلطة مع الواقع الحالي على الأرض. فهو يرى أن الفيدرالية قد تؤدي إلى تفكيك "الأمة" – وهو تصور نابع جزئيًا من المشاعر المعادية لإسرائيل بين السوريين. إذ يعتقد كثيرون أن الولايات المتحدة فرضت الفيدرالية على العراق بعد سقوط صدام حسين بهدف إضعاف البلاد لصالح إسرائيل، ويخشون أن تسعى واشنطن إلى تنفيذ المخطط نفسه في سوريا ما بعد الأسد.
في الوقت الراهن، يتمثل الهدف الأساسي للشرع في توحيد مختلف الجماعات العربية السنية ضمن جيش وطني جديد عقب حل الجيش السابق. لكن في الاجتماع الذي عقده الثوار في 29 كانون الثاني/يناير في دمشق احتفالاً بتنصيبه رئيساً مؤقتاً للبلاد، اتضح أنه لم يحظَ سوى بدعم ائتلافه الأصلي. ويبدو أن هدفه التالي هو ترسيخ سلطته على المنظومة البيروقراطية في دمشق والمناطق المحيطة بها، محاكيًا النهج المركزي الصارم الذي اعتمده سابقًا في إدلب. كما أطلق الشرع عملية حوار وطني، إلا أن المحادثات الافتتاحية أثارت تساؤلات حول شرعيتها بسبب تنظيمها المتسرع واختتامها على عجل.
إدلب بوتقة المعارضة الوطنية
عندما بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، كانت الجماعات المسلحة المتمردة وفصائل المعارضة السياسية متجذرة في المجتمعات المحلية. في البداية، لم تكن هناك معارضة وطنية موحدة داخل سوريا، إذ إن الهياكل التي سعت إلى تحقيق ذلك، مثل هيئة الأركان العامة للجيش السوري الحر والائتلاف الوطني السوري، كانت تتمركز خارج البلاد. وقد أعاق ذلك جهود المعارضة في وضع وتنفيذ استراتيجيات وطنية.
في المقابل، استقطبت "جبهة النصرة"، التي تحولت لاحقًا إلى هيئة تحرير الشام، مقاتلين من جميع أنحاء سوريا ممن نزحوا من المناطق التي سيطر عليها النظام، مثل درعا ودمشق والغوطة وحمص وشرق حلب. وعلى الرغم من تمركزها في إدلب، كانت "جبهة النصرة" الجماعة الوحيدة التي نشطت في مختلف أنحاء سوريا وشاركت في جميع التحالفات الثورية. ومع ذلك، فإن ارتباطها بتنظيم القاعدة قد جعلتها غير مؤهلة لأن تصبح قوة معارضة وطنية موحدة، خاصة بعد أن أدرجتها الولايات المتحدة ودول أخرى ضمن قائمة المنظمات الإرهابية في وقت مبكر من الحرب.
وتساهم الخلفية العسكرية الشاملة لـ"جبهة النصرة" في تفسير سبب انتماء أعضاء الحكومة المؤقتة الجديدة، برئاسة "هيئة تحرير الشام"، إلى مناطق مختلفة من البلاد رغم قضائهم سنوات في إدلب." أما الشرع نفسه، فله جذور في دمشق، مما أكسبه قبولًا أوسع بين سكان العاصمة. فعائلته معروفة هناك، ولديه شبكات قائمة من الجيران والأصدقاء تُتيح له التواصل المباشر مع الأهالي ومع دائرته المقربة. وقد أسهم ذلك في تسهيل حل المشكلات في مرحلة ما بعد الأسد – على سبيل المثال، أخبر أحد رجال الأعمال كاتب المقال كيف ساعدته علاقاته الشخصية بعائلة الشرع في استعادة مصنعه بسرعة بعد أن استولى عليه أحد أبناء إخوة الأسد.
وينطبق الأمر نفسه على مناطق أخرى، حيث إن العديد من المحافظين وغيرهم من كبار المسؤولين الذين عيّنتهم الحكومة الجديدة ينحدرون أصلًا من المناطق التي أوكلت إليهم إدارتها. وهذا يمنحهم درجة من الإلمام بالأوضاع المحلية، مما يُسهّل انخراطهم في المجتمع ويساعد على تهدئة النزاعات المحتملة – بما في ذلك الجهود العاجلة لاستعادة المساكن المُحتلة بشكل غير قانوني والممتلكات المنهوبة. ومع ذلك، تظل قدرتهم على إدارة هذه المحافظات وإعادة إعمارها بفعالية محدودة بسبب نقص التمويل وضعف الكوادر المؤهلة.
آفاق الفيدرالية وتحدياتها
في الوقت الحالي، تستند الهياكل السياسية والعسكرية والبيروقراطية في سوريا إلى الولاءات الشخصية. ويدرك الشرع أهمية الاعتماد على مجموعة متماسكة من الموالين له شخصيًا داخل "هيئة تحرير الشام"، كما ظهر ذلك في إدلب، حيث أسس السكان المحليون كيانًا تضامنيًا (قائم على العصبية)، مكنهم من تولي مقاليد السلطة (المُلك). لكن في بلد يبلغ عدد سكانه 20 مليون نسمة – مع احتمال ارتفاعه إلى 28 مليونًا بعودة اللاجئين – فمن شبه المؤكد أن النهج الحالي، القائم على المركزية والمحسوبية، لن يكون فعالًا على المستوى الوطني.
وقد تعلم بشار الأسد هذا الدرس بالطريقة الصعبة. فرغم تبنيه سياسة اللامركزية، إلا أن تطبيقها اقتصر على الجوانب الإدارية، مما أدى في نهاية المطاف إلى إضعاف الدولة دون تحقيق أي من المزايا الحقيقية للامركزية حيث ساهم هذا الخلل في تسريع انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية. وإذا أراد الشرع تفادى تكرار أخطاء الأسد، فقد يتعين عليه أن يطبق اللامركزية الحقيقية في السلطة السياسية ويقيم نظاماً فيدرالياً. وقد أكدت الولايات المتحدة وأوروبا مرارًا وتكرارًا على أهمية إرساء الحكم الشامل للجميع في مرحلة ما بعد الأسد، ولكن كيف يمكن تحقيق هذه النتيجة في ظل نظام سياسي مركزي تحتكر فيه الهيئة السلطة المطلقة، بينما يتم تهمش الأقليات ؟
ولحل هذه المعضلة، ينبغي على القوى الأجنبية أن تربط رفع العقوبات والدعم المالي لسوريا باعتماد نظام فيدرالي. فالأكراد والعلويون والدروز يسيطرون بالفعل على مساحات واسعة يمكن أن تستوعب مناطق حكم ذاتي. ومن غير العملي تخصيص أقاليم منفصلة للمسيحيين والإسماعيليين والتركمان نظراً لمحدودية حجمهم وتوزيعهم الديمغرافي المبعثر. ومع ذلك، يمكن منحهم مناطق ذات وضع خاص، مثل وادي النصارى المسيحي في محافظة حمص، والمنطقة التركمانية الممتدة بين أعزاز وجرابلس.
وعلى الرغم من أن الفيدرالية قد تساعد في معالجة الانقسام الطائفي في سوريا وتعزيز توزيع أكثر عدالة للسلطة، إلا أنها قد تطرح تحدياً حاسماً أيضاً يتمثل في توزيع الموارد. فبالإضافة إلى السيطرة على النفط والغاز الطبيعي، سيتعين على المسؤولين اتخاذ قرارات صعبة بشأن حقوق استخدام إمدادات المياه والأراضي الصالحة للزراعة والوصول إلى البحر وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، تتركز معظم المنشآت النفطية في سوريا ضمن الأراضي الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية". وإذا قرر الأكراد الاحتفاظ بسيطرتهم على هذا المورد بعد سقوط الأسد، فقد يواجهون خطر فقدان إمكانية الوصول إلى موارد استراتيجية أخرى، من بينها نهر الفرات. وبالمثل، قد تسعى المجتمعات الساحلية إلى فرض ضرائب على حركة البضائع عبر مرافئها، مما قد يؤدي إلى توترات داخلية.
لذلك، من الضروري تحقيق توازن دقيق. وقد أظهرت التجربة العراقية أن الموارد الهيدروكربونية لا تحتاج بالضرورة إلى أن تكون تحت سيطرة الحكومة المركزية – بل إن بغداد استخدمتها في أحيان كثيرة كأداة ضغط ضد إقليم كردستان. علاوةً على ذلك، يبدو أن الاحتياطيات النفطية السورية ليست كبيرة بما يكفي لتبرير محاولات احتكارها، فقد كان الإنتاج اليومي للنفط قبل النزاع يبلغ نحو 400 ألف برميل فقط، وهو رقم ضئيل مقارنةً بإنتاج العراق البالغ 6 ملايين برميل يوميًا. لذلك، ينبغي على السوريين دراسة أفضل السبل لتوزيع الموارد بين المناطق والحكومة المركزية، مع ضمان عدم احتكار دمشق لها.
وبالتالي، إذا تم تبني الفيدرالية، يجب أن تُطبق على جميع أنحاء سوريا، وألا تقتصر على الأقليات فقط . كما ينبغي أن يتمتع القادة الإقليميون في مختلف مناطق البلاد بدرجة من الاستقلالية عن البيروقراطية المركزية المثقلة بالأعباء، لضمان انتعاش سوريا السريع واستقرارها على المدى الطويل. وإلا، فقد تجد البلاد نفسها عالقة في دوامة لا تنتهي من الصراع.
فابريس بالونش، أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، وزميل زائر في معهد واشنطن.