- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الغزو التركي الوشيك وتداعياته على علاقة قوات سوريا الديمقراطية بواشنطن
سيؤدي الهجوم التركي على شمال سوريا إلى موجات جديدة من النزوح الداخلي وزيادة المعاناة الإنسانية، وإضعاف قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وتقويض ثقة هاتين المؤسستين بالولايات المتحدة.
تزداد مع الوقت ملامح حدوث هجوم تركي على شمال حلب في أي لحظة، والمنطقة المستهدفة بحسب تصريح أردوغان نفسه هي منطقتي تل رفعت المحاصرة أصلاً ومنبج التي ترتبط بمناطق شرق الفرات من خلال طريق "إم 4" العابر على نهر الفرات. المنطقتين التي تحكمها قسد من سنوات تعاني أصلاً من تكدس كبير للنازحين الهاربين من الغزوتين التركيتين السابقتين (درع الفرات وغصن الزيتون) سواء كانوا من سكان بلدات الباب وجرابلس أولاً أو من عفرين ثانياً.
وبالتالي، سيؤدي الغزو التركي لفتح باب جديد لحركة نزوح ستضر بتلك الفئات النازحة الهشة أصلاً مُضاف لهم السكان الأصليين للمنطقتين المستهدفتين الذين ما يزالوا يتذكرون الانتهاكات الى ارتكبها المقاتلين السنة حين استباحوا البيوت الكردية في عفرين وراس العين وتل أبيض بحماية تركية سابقاً. مشهد الدمار هذا سيؤدى الى اتساع فجوة عدم الثقة بين الأكراد والعرب السنة في شرق الفرات نفسها. أن عملية نزوح كبيرة جديدة تجاه مناطق شرق الفرات هي نتيجة حتمية لعملية الهجوم القادم. هذا بحدّ ذاته حمل ثقيل على كاهل الإدارة المحلية التي تعاني أصلاً من التعب، ومن سوء الخدمات، وضعف القدرات، والفساد، وازدياد التباعد بينها وبين القاعدة الاجتماعية.
قد يتسبب الهجوم التركي بالكثير من التوترات والتصدعات في بيئة اجتماعية متنوعة تتميز بكونها حتى اللحظة الأقل تصادماً وحرارة بين المكونات التي تتشكل منها. وقد يدفع هذا الكثير من المناطق المحسوبة على العرب السنة وخاصة النصف الدائرة التي تمتد من جنوب الحسكة الى غرب مدينة الرقة مروراً بمحاذاة نهر الفرات حتى الحدود العراقية على التفكير بمستقبل خاص بها بعيداً عن التشاركية الحالية التي تشكلّت بيد الإدارة الذاتية. وهذا إضعاف لهيكل الإدارة وتماسك قسد الذي يتشكل من تلك التكوينات العربية. وقد يحفز ذلك اردوعان على استهداف مناطق جديدة من المنطقة الآمنة ذات الأغلبية الكردية، مما يؤدى بدوره إلى هجرة السكان الكُرد أو اتجاههم نحو التشدد أكثر تجاه التسلح، في حين سيختفي المسيحيون واليزيديون والشركس بشكل شبه كلي من تلك المنطقة المتنوعة مع الوقت، وستتحول المنطقة عند عدم حصولها على ضمانات موثوقة على أنها لن تخسر المزيد في المستقبل إلى منطقة ذات لون واحد يديرها جماعات سنية مُسلحة لا تحترم حقوق الإنسان وتكون في خدمة القرار التركي على حساب السوريين.
الهجوم في حال السماح بحصوله سيتسبب في كارثة كبيرة في مكانة واشنطن في عموم الشرق الأوسط، وسيكوّن رسالة جديدة لحلفائها مفادها أن التحالف مع واشنطن غير مؤمن، وسيدفع قسد والجماعات المعارضة في التنف إلى التفكير في حلول بديلة عن اعتمادهم الرئيسي على التحالف على واشنطن. وقد يعزز الرد الأمريكي المخفف تجاه تركيا الرواية السلبية التي تتبناها بعض الجهات المتشددة داخل قسد ووحدات حماية الشعب ضد دور واشنطن.
حاليا، يرى الكثيرون أن الولايات المتحدة لم تعد تملك مفاتيح الحلول للأزمات في الشرق الأوسط أو أن واشنطن ستضحي بحلفائها الصغار مقابل تحقيق مكاسب من حلفائها الأكبر. وبالتأكيد، سيصبّ هذا الخطاب في صالح من بدأ الترويج في الشرق الأوسط بضرورة بناء الجسور مع موسكو وبكين عوضا عن واشنطن، خاصة بعد ما يتم ترويجه من حديث عن أفول نجم واشنطن في المشهد السياسي الدولي وبالتأكيد، سيصبّ هذا الخطاب في صالح من بدأ الترويج في الشرق الأوسط بضرورة بناء الجسور مع موسكو وبكين عوضا عن واشنطن، خاصة بعد ما يتم ترويجه من حديث عن أفول نجم واشنطن في المشهد السياسي الدولي، وهو ما يتجلى أيضا في فشل الولايات المتحدة في حماية المناطق الواقعة خارج حدود العاصمة الصومالية مقديشو التي صارت مرتعا للجماعات المتطرفة والمليشيات ، إضافة إلى عدم قدرتها على حسم الصراع بصورة إيجابية في حوض الدونباس لصالح حكومة زيلنيسكي.
كما لن تسمح الجماهير المحلية للإدارة الذاتية ولا لقسد بالتمسك بعلاقاتها مع واشنطن التي تركتهم مجدداً وحيدين خلال العزو التركي. وهذا بالتالي يزيد من سطوة التيارات المرتابة من مواقف واشنطن داخل الحراك الكردي الذي يُشكّل الإدارة الذاتية ويدفعها للدعوة عن التراجع عن العلاقات مع واشنطن. وبدأت تلك الأصوات في الظهور منذ اللحظة، وتصاعد الحديث عن طعنة أمريكية جديدة لحلفائها في سوريا.
وبحكم الهجوم التركي، سيعني ذلك ازدياد الخسائر لقسد وتراجع وزنهما في المحفل السياسي السوري. وسيكون لها تداعيات كبيرة مرتبطة بزيادة التغلغل الإيراني في مضارب قسد، وانصياع أكبر لقسد والإدارة الذاتية لمطالب موسكو ودمشق، وتعزيز للتمركزات العسكرية الروسية بحجة ظاهرية مرتبطة حماية المنطقة. وبالتالي، طلاق أسرع في العلاقة مع التحالف الدولي. وبالطبع، سيزيد هذا الوضع من قوة الخلايا الإرهابية التي تنتمي بجلها لبقايا داعش والقاعدة وعملية مساهمة في انبعاثها الجزئي من جديد.
ومن المتوقع أن تبدأ الدعاية الإيرانية والروسية للترويج لضرورة عودة حكومة الأسد للسيطرة على كامل شمال وشرق سوريا لحماية السكان من أخطار تركيا مجدداً، ولتخوين واشنطن في علاقاتها مع شركائها على الأرض. ومن ثم، ستجد الدعاية الروسية التي تروج لفكرة أن الولايات المتحدة لا تعير الاهتمام بحلفائها، مثالًا آخر لتسليط الضوء عليه. كذلك ستسبب تلك الدعاية في زعزعت الثقة بالمستقبل لدى قسد التي ستبحث عن طوق نجاة من خلال روسيا مع دمشق أو حتى التقرب لإيران من خلال العناصر العربية في تلك القوات.
وفى واقع الأمر، لن يقتصر أثر الهجوم التركي على سوريا فقط، فبعد الانسحاب الأولي لواشنطن من سوريا، فإن أي فشل أخر للولايات المتحدة في التعامل مع الصراع سيعزز النفوذ الإيراني في أجزاء من العراق بينما يقوض قوة حلفاء واشنطن هناك. كذلك سيزيد هذه التطورات حينها من نفوذ إيران في العراق، وسيضعف من مواقع حلفاء واشنطن في هناك. ويتهم الأكراد واشنطن بإنها تركتهم وحيدة رغم العلاقات التاريخية بينهم، وسمحت للمليشيات الحليفة لإيران بالحصول على كركوك ذات الأهمية لهم.
مؤخرا، صارت التيارات اليسارية ذات الميول الراديكالية المتنامية في الساحة السياسية في شمال شرق سوريا تنظر الى الولايات المتحدة كونهما خصم. ومن ثم، فان الترويج لتلك الرواية إضافة الى الانتهاكات المحتملة التي قد تنتج عن الغزو التركي المحتمل سيؤثران على علاقات واشنطن مع باقي الأكراد سواء في الإقليم أو في تركيا أو في إيران. إضافة الى ذلك، أدت الهجمات التي شنتها تركيا على إقليم كردستان العراق، بما في ذلك الهجوم الذي استهدف موقع سياحي في 20 يوليو وأسفر عن مقتل ثمانية على الأقل وإصابة العشرات من السياح الزائرين، الى تنامى الغضب تجاه تركيا.
كان الهجوم التركي المحتمل على شمال شرق سوريا في طور الإعداد منذ فترة طويلة، وهو بالكاد يمثل تحول غير متوقع للأحداث، كما ورد في مقال عن هذا الموضوع من قبل المؤلف من سنوات سابقة. وفى حال بقيت واشنطن صامتة وفشلت في التحرك لمنع حدوث هذا الهجوم، فلن تتمكن من إدعاء دهشتها من النتائج لاحقا. لذلك، فإن السكوت وعدم فعالية واشنطن في ردع الهجوم التركي المحتمل سيكون بمثابة ضوء اخضر لتركيا للشروع في بدء الهجوم.
لن ينفع واشنطن التنديد أو قيام بعض من القادة السياسيين في واشنطن من أمثال السيد ليندسي غراهام بزيارة المنطقة في تخفيف احتقان سكان تلك المنطقة من مواقف التحالف الدولي تجاه عدوانية أنقرة، فالإدارة الذاتية تتطلع الى واشنطن للعمل المكثف على تخفيف تلك العدوانية، وبناء جسور بين الأطراف المعنية بالتصادم، والتدخل لمنع ولادة كارثة إنسانية جديدة قد تولد شرخ اجتماعي بين مكونات المنطقة الآمنة القائمة على الأرض وليس المنطقة الآمنة التي يتحدث عنها أردوغان.
تبقى الخيارات البديلة مطروحة على الطاولة، حيث إن العمل على بناء روابط سياسية واقتصادية حقيقية بين شمال شرق سوريا وتركيا قد يدفع بعض من العداء التركي لتلك المنطقة. كذلك، يمكن في حال إيجاد صعوبة في بناء تلك العلاقات السماح لقادة شرق الفرات إما الانخراط السياسي ضمن العملية الدستورية في جنيف أو دفع الإدارة الذاتية للتحاور المباشر مع دمشق للتوصل الى صيغة دستورية نهائية لتلك المنطقة تحميها من الأخطار الخارجية وتحافظ على هويتها المحلية. لذلك، فإن الرابط الأساسي بين هذه الخيارات هو أن الإدارة الذاتية لا تستطيع إنجازها بمفردها، فاذا كانت واشنطن تأمل في دعم حلفائها، فعليها أن تسعى للدفع لخيارات من هذا بديلة عن الاحتلال ومرفقة باستمرار الدعم العسكري والاقتصادي لتلك المنطقة الهشة.