- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المجتمع الشيعي اللبناني ومظاهر الانهيار الداخلي
لا يخفى على أحد كمية الحماسة الدينية التي رافقت شيعة لبنان عندما أطلق أمين عام حزب الله حسن نصر الله عام 2013 رحلة المضي إلى معركة الدفاع عن نظام الرئيس السوري بشار الأسد. آلاف المقاتلين معبؤون بأوهام الانتصارات السريعة عبروا الحدود اللبنانية نحو الأراضي السورية، ظناً منهم أنهم سيلحقون بالعدو أعتى أنواع الهزائم، إلا أن مرور السنوات حَوّل طموحهم إلى واقع تتزاحم فيه النتائج السوداء للحرب. نزعت الحرب أرواح آلاف الشبان الشيعة. كانت سنوات المشاركة في الصراع كافية لكسر أوهام مركبة عن الحياة والموت والتضحية بالنفس. لعبت الآلة الإعلامية الشيعية دوراً في دفع آلاف الجماهير لمنح الحرب السورية سمات القداسة بالاستناد إلى رهبة الخوف من الآخر. ومنذ اشتعال الحرب في سوريا هيمنت فكرة الملحمة الحسينية ومظلومية الشيعة عبر التاريخ وتم الترويج لها بأسلوب هستيري، مما خلق حالة غليان ديني والحاجة إلى الثأر. ولكن الفكرة نفسها ما لبث أن تفككت وتحولت إلى صدمة. وتحت وطأة هستيريا الحرب اجتاح شعور فائض القوة وحرية التصرف للنيّل من أي خطر ولم يتوانى هذا الشعور ولو للحظة عن إنتاج سلوكيات جماعية باتت كفيلة كي تدمر الصيغة المعهودة لحياة الشيعة في مناطقهم.
وقد سعت الدعاية الإعلامية لهيكلة المجتمع الشيعي على أنه كيان متآلفة مع نفسه، إلا أن الأكاذيب المروّج لها إعلاميا عن تركيبة المجتمع المتماسك ليست صحيحة. يعيش جزء من شيعة لبنان أتعس مراحلهم لما يشهدوه من انقلاب يلامس منظومتهم الأخلاقية من جهة، وتوسعت من جهة أخرى الفروقات الطبقية فيما بينهم بشكل ملحوظ وانكمشت أحزمة البؤس الشيعية على نفسها، وتضخمت نسبة الشبان العاطلين عن العمل.
ليس كل شيعة لبنان، ينتمون إلى الحزبيين الرئيسين حزب الله وحركة أمل. وعلى الرغم من غياب الإحصاءات واستطلاعات الرأي المخصصة لدراسة ميول المواطنين اللبنانيين الحزبية، إلا أن جولة انتخابات البلديات التي جرت بين شهريّ نيسان وأيار من عام 2016 أثبتت حجم الهوة والضحالة بين تطلعات المجتمع الشيعي من جهة وبين ممثليهم السياسيين من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، شكلت العائلات والعشائر في جنوب لبنان والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية لوائح انتخابية تنافس الحزبين الشيعيين الرئيسين.
ومن المؤكد أن حزب الله وحركة أمل شعرا بثقل الإشارات السلبية القادمة من المنافسة الشرسة، مما دفعهما إلى تشكيل لوائح مشتركة في العديد من الانتخابات المحلية. وبقدر المستطاع، حاول الحزبان إخفاء الكراهية الموجودة بينهما.
ففي مدينة بعلبك المجاورة للحدود السورية، والتي يصفها إعلام حزب الله بأنها ارض الشهداء، تلقى الأخير ضربة مؤلمة بعد تصويت 40% من الناخبين للائحة "بعلبك مدينتي" التي ترأسها الناشط السياسي والخصم اللدود غالب ياغي.
ودائماً ما يشتكي أبناء بعلبك من المظاهر المخلة بالأمن التي تعاظمت في السنوات الأخيرة، وكثيراً ما ارتفعت الأصوات المنددة بالفلتان الأمني وغياب الدولة وانعدام المشاريع الإنمائية وسيادة العقلية الميليشياوية.
وحالياً يسعى حزب الله بالتعاون مع القوى الأمنية الرسمية في لبنان إلى حل مشكلة آلاف الأشخاص الخارجين عن القانون. فمثلاً، أكدت الوسائل الإعلامية اللبنانية حصول لقاء جمع وفد من حزب الله مع وزير العدل اللبناني سليم جريصاتي بهدف البحث في أزمة المتهمين بارتكاب جرائم متنوعة. وأشارت المصادر في بيروت إلى أن أغلب الخارجين عن القانون المطالب بالعفو عنهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية. وبتاريخ 2 شباط 2017 أكد النائب عن كتلة حزب الله في البرلمان اللبناني علي المقداد لموقع "المدن" اللبناني بأن التعاون جارٍ مع الأجهزة الأمنية الرسمية لإيجاد مخرج قانوني لهؤلاء المطلوبين من قبل الجهات الأمنية والذين يبلغ عددهم 37 ألف.
إن الفقراء والعاطلون عن العمل والخارجون عن القانون والمجرمون ومدمنو المخدرات والعصابات على مختلف أنواعها والمتضرِّرون من انحسار الطبقة الوسطى وتمركز رؤوس الأموال بيد الحزبين، يشكلون حقل عنف مشحون تعجز الزعامة الشيعية لإصلاح نفسها وذلك لتجنب حدوث انهيار.
ففي شهر آب من عام 2016 حاول نصر الله إلقاء تبيعات الفوضى الحاصلة في التجمعات الشيعية على امتداد الخريطة اللبنانية فوق أكتاف الفاعلين المحليين، وذلك حين تملص من مسؤوليته تجاه ما وصلت إليه الطائفة من واقع مزري ومعقد. وقد طلب نصر الله خلال لقاءه مع أبناء بعلبك أن يعملوا بكثافة على تسليم المطلوبين بمذكرات بحث وتحرٍ إلى الأجهزة الأمنية. ليس شيعة بعلبك وحدهم من يسلكون طريق فوضى من الصعب توقُع أو تنبؤ ما تخفيه، فسكان ضاحية بيروت الجنوبية هم أيضا يهيئون أنفسهم لتقبل واقعهم الجديد الذي تكلل بنشوء شبكة تضم مئات العصابات والتي استطاعت التغلغل بينهم.
في مختلف المناطق اللبنانية تنتشر العصابات التي تعمل على تأمين المستلزمات الضرورية للسكان. إلا أنها داخل التجمعات الشيعية، تشكل تلك العصابة تهديدا رئيسيا للسلام والأمن المحلي. وتسعى العصابات المتمرسة في ميادين التجارة غير القانونية إلى فرض هيبتها بأسلوب يوازي سلطة الأجهزة الرسمية والحزبية، وأدى غياب المشاريع الإنمائية للدولة اللبنانية وعجزها عن توفير خدمات ضرورية للمواطنين كالمياه والكهرباء وغيرها، إلى نشوء عصابات توفر للسكان مجموع خدمات مقابل مبالغ مالية باهظة.
إن الضاحية الجنوبية تمثل أكبر تجمع سكاني ضمن نطاق العاصمة بيروت والذي ينتمي بغالبيته العظمى إلى الشيعة. في عام 2016 شهدت الضاحية 11 جريمة قتل وقد احتوت النسبة الأكبر من تلك الأحداث على علاقة مبطنة مع الثأر وتهريب المخدرات. وفي الأعوام المنصرمة شهدت الضاحية أيضا اعتداءات متكررة على البنوك بهدف سرقتها، بالإضافة إلى إطلاق الأعيرة النارية والقذائف الحربية بشكل عشوائي وذلك خلال الاحتفالات والمناسبات الحزبية وأثناء تشييع المقاتلين.
وفي 8 شباط 2017، عرضت قناة "الجديد" اللبنانية تقريراً مصوراً، أظهرت فيه قيام أحد العصابات التي تفرض الخوة على المحال التجارية في الضاحية بإحراق مولدات كهربائية مما أدى إلى اشتعال مبنى سكني. ووصفت "الجديد" تصرف العصابة بالإرهابي، وتناول التقرير مناشدة أبناء الضاحية «القوى الأمنية لاتخاذ قرار حاسم وإنهاء حالة التمرد على القانون والقضاء على العصابات».
ولم تمضي أيام على تلك الحادثة، حتى أقدمت مافيا مجهولة على إحراق مولدات كهربائية في منطقة أخرى في ضاحية بيروت الجنوبية فسارع المسؤولون إلى الالتفاف على الحدث والتكتم عليه.
كما وسُربَ في 14 شباط 2017 فيديو لمجموعة شبان شيعة من مدينة صور في جنوب لبنان، يوثق الفيديو لحظة قيام عشرات الأشخاص بضرب قائد شرطة بلدية صور شادي نجدي، وكشفت التقارير أن الشبان ممتعضون من نجدي لأنه خطط وأشرف على عملية مداهمة عدة أحياء في المدينة.
إن تلك الظواهر بمثابة كيان غريب يَصعُب التأقلم معه، لأنه يتحرك خارج المألوف، ويتجذر عميقاً في البنية كلما سنحت له الفرصة. حتى أن حزب الله يُخضع جموح العصابات عبر إجبارها على توقيع اتفاقيات شكلية يضمن من خلالها ألا تقوم عصابة بممارسة العنف ضد عصابة أخرى.
ولكن من الصعب فصل العصابات عن السلطة الحاكمة لأنهم بنوا فيما بينهم تفاهمات سرية، وشكلوا جسما واحدا يؤمن المصالح المشتركة. إلا أن سلسلة الجرائم المرتكبة من قبل العصابات وتفاقم انزعاج الناس الذين يُطالبون الأحزاب بتحمل مسؤولياتهم برفع الغطاء عن مفتعلي الشغب والمخلين بالأمن يُثبت حصول انقلاب خطير في المعادلة عبر انجرار القوى المسيطرة أكانت الحزبية أم المافياوية للفتك ببعضها البعض.
إن إلى جانب قسوة الخطابات السياسية والدينية المملؤة بروح العسكرة والشعبوية والتي تم الترويج لها لمواكبة الحدث السوري، فقد احتل التهميش وعزل فئات اجتماعية لسنوات مديدة دوراً مهماً لإنتاج العنف ومضاعفته والتحكم به، عبر لجوء السلطة الشيعية إلى استثمارها وفق آليات مدروسة ودقيقة الأهداف للسيطرة على نماذج الناس الفكرية والسلوكية.
إن إقصاء جزء كبير من الشيعة داخل مجتمعاتهم ونسيان أوجاعهم وهموم مناطقهم المتهالكة، حوّل بعضهم إلى سلطة تمارس الفوقية والتسلط على من هم أضعف منهم.
منذ لحظة نشؤه، رسم حزب الله حدود متينة لخطابه السياسي والأيديولوجي، وربطه بالصراعات الإقليمية والمحلية. بينما حركة أمل ضبطت نفسها في لعبة السلطة الرسمية والمحاصصة السياسية مع بقية الأحزاب، لذلك بقيت الشؤون الحياتية لشرائح ضخمة من المجتمع الشيعي خارج الخطابات الحماسية. وإلى يومنا هذا لم يجد عشرات الآلاف من الأشخاص أي مساحة يُعبرون فيها عن وجودهم ذلك أنهم كانوا احدى أدوات تمويه السلوك السياسي المهترئ. ومؤخراً بدأ تصدع العلاقة بين الزعامة والحاشية يجر الشيعة ولو ببطء نحو مواجهة فيما بينهم ومع السنوات سيزداد الشرخ بين رأس الهرم وقعره.
من الصعب على الأفراد فهم خلفية تصرفاتها وأفعالهم واندفاعهم نحو تحقيق اللا استقرار داخل البيئة الشيعية. فهم يمثلون الأرضية الأولى للاعتراض والمشاكسة واستسهال الفوضى بوجه أي سلطة. يجب على الدولة اللبنانية أن تولى اهتماما أكبر بالمواطنين بعد أن عجزت الأحزاب الشيعية عن ضبط الأوضاع أو إصلاحها، فهي لن تتمكن من الهروب بعيدا لأن الهرم عندما يتفكك، يسقط بكامل مكوناته على الأرض. وأخيرا، لا يتوقع شيعة لبنان تحقيق نهاية سعيدة بل مزيدا من الفوضى.
حلا نصر الله