- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
العراق بحاجة إلى قائد ذي رؤية
نجحت الدولة العراقية منذ سقوط نظام صدام حسين في التغلب على سلسلة من الأزمات الأمنية التي وحّدت الشعب بوجه عدوٍّ مشترك. فخلال الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش" مثلاً، تضافر العراقيون من مختلف الانتماءات ووقفوا بجانب الحكومة. ولكن ما لبث أن انتهى القتال حتى عاد سياسيو الدولة إلى منهج الفساد والمآرب الشخصية فيما تحوّل التأييد الشعبي لزعماء البلاد إلى موجة احتجاجات ضد سوء الإدارة.
وبالفعل فقد فشلت الحكومة حتى الآن في معالجة أو توحيد البلد بوجه التحديات التي تعيق تقدّمه كما فعلت إزاء التحديات الأمنية. ومع ذلك، من الممكن لموجة الاحتجاجات الراهنة أن تتيح فعليًا للقيادة العراقية فرصة الأخذ بالانتقادات الشعبية وتطبيق مخطط جديد يعيد توحيد البلاد.
فإذا طبّقنا إطار العمل المنهجي الذي وضعه الخبير في شؤون القيادة كيث غرينت، يتبين أن الزعماء العراقيين يركزون على المشاكل الجوهرية (أي الأزمات) ويهملون التحديات "الوديعة" – أي المشاكل المتكررة التي يمكن معالجتها عبر التطبيق الثابت للحل المناسب منطقيًا – والتحديات "الخبيثة" – أي المشاكل التي لا يمكن معالجتها إلا بحلول غير مثالية ويجب دراستها بالمقارنة مع التحدي الأصلي.
وقد كان لهذه الاستراتيجية عواقب وخيمة على المستوى العام للحكم العراقي. فالمشاكل الجوهرية تستدعي استراتيجيةً إداريةً مختلفة عن أنواع التحديات الأخرى: وهي نمط السلطة السريع والحاسم الذي تم تطبيقه خلال الأزمة الأمنية التي مرت على البلاد عام 2003. ولكن الاتكال على السلطة جاء على حساب الإدارة الكفوءة والصبر والمرونة اللازمة لإدارة المشاكل "الوديعة" على غرار الضعف المتواصل في البنى التحتية العراقية للخدمات.
علاوةً على ذلك، لم تحرز الحكومات العراقية المتعاقبة أي تقدم في التعامل مع مشاكل العراق الخبيثة. ولا شك في أن هذه التحديات هي الأصعب بطبيعتها، لا سيما وأن العلاقة بين المسبب والنتيجة غامضة في غالب الأحيان. ومن الأمثلة الأخرى عن هذه المشاكل الخبيثة نسبيًا هي الفساد والبيروقراطية الخانقة في العراق. وامتلاك الرؤية أمرٌ في غاية الأهمية للتعامل مع هذا النوع من التحديات – وهذه ميزة افتقرت إليها القيادات العراقية.
وقد أثبتت الحكومات العراقية مدى أهمية الرؤية في ما تم تحقيقه وما لم يتم تحقيقه على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. إذ وجد العراق في المالكي صورة الزعيم القوي وفي العبادي صورة الشخصية الموحِّدة، ولكن أيًا من هذين الزعيمين لم يبدِ "رؤيةً" لمعالجة مشاكل البلاد في ما يتعدى نطاق المشاكل الأمنية. لذلك يواجه العراق كل أربعة سنوات صعوبة في حسم البحث عن مرشح ما عدا رئيس الوزراء الحالي وتم اختيار مرشح توافقي غير متوقع في اثنين من الحكومات الثلاث الماضية.
فحين استلم حيدر العبادي رئاسة الحكومة للمرة الأولى عام 2014، وهو مرشح توافقي، اعتُبر سلوكه الدبلوماسي أسلوبًا قياديًا ملائمًا للسلام أكثر منه للحرب. ولكن العبادي برهن عن قدرته على توحيد الفصائل المختلفة لمشاركته الحكم. فتمت الإطاحة بتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" خلال فترة حكمه، وتم التعامل مع أزمة الاستفتاء الذي أجري في كردستان العراق بطريقة تفادت زعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها.
ومع ذلك، وبينما تحلى العبادي بالعديد من صفات القائد الجيد، ستحتاج المهمة الملقاة على عاتق رئيس الوزراء المقبل أكثر من مجرد مزايا فردية. فهي تستلزم شخصًا له رؤية يتوحّد حولها العراقيون وليس تهديدًا يجبرهم على التوحد كما كان عليه الحال مع "الدولة الإسلامية"، فيعمل هذا الشخص من خلال هذه الرؤية على معالجة مشاكل البلاد الجوهرية والوديعة والخبيثة بكفاءة. ولكن في المرحلة التي يتحسن فيها الوضع الأمني، من شأن فشل الحكومة المتواصل في تأمين الخدمات أو معالجة الفساد والبيروقراطية أن يشوّه إرث العبادي، لا بل أيضًا صورة العراق ما بعد "البعث" ككل.
إلا أنّ المطالبات الشعبية بقيادة ذات رؤية والمنبثقة من جنوب العراق تحمل بعض التفاؤل. فالاحتجاجات المتواصلة تبيّن أن المواطنين العراقيين لن يسمحوا للحكومة بالاستمرار بإهمال التحديات الخبيثة والوديعة في العراق.
ففي الواقع، ثمة قيود معينة على نوع الحكومة القادرة على الاستجابة لمطالب المتظاهرين بشكلٍ مرضٍ. إذ يجب أن تنبثق الرؤية من أجل العراق عن زعيمٍ سياسي، فالمؤسسة الدينية لن ولا تستطيع الانخراط بشكل مباشر لأن نظام الحكم في العراق ليس دينيًا. وآية الله العظمى علي السيستاني لم يتدخل في الخطاب السياسي إلا عندما أصبح وجود الدولة العراقية مهددًا، ولم يتدخل إلا للتشديد على الخصائص الديمقراطية للبلاد. وفي حين أن ممثلي السيستاني يلقون أسبوعيًا المواعظ السياسية، تأتي هذه الأخيرة على سبيل النصح للمواطنين والزعماء السياسيين وليس بمثابة قانون أمر واقع. من هنا ينبغي على زعماء العراق السياسيين أن يعالجوا المشاكل المتعلقة بهيكل الحكومة نفسها من خدمات لا يعتدّ بها وفساد وبيروقراطية.
ونظرًا لمخاطر التدخل الخارجي وظهور ميل لدى الشباب بالتحسّر على زمن الاستبداد، فإن استمرار آلية الحوكمة بوضعها القائم لن يتسبب للناس بالمزيد من الصعاب فحسب، بل قد يهدد في النهاية النظام الديمقراطي في العراق إذا ما ظهر نظام استبدادي "ذو رؤية" يَعِد بالخدمات التي يحتاجها العراقيون أشدّ الحاجة.
ومن أجل تفادي هذا المستقبل، يجب على الحكومة العراقية المقبلة أن تولي اهتمامها للمطالب التي تحملها التظاهرات الحالية: فهذه الاحتجاجات فريدة بمطالبها الموحّدة ونطاقها الأوسع، وإذا نُظّمت بشكل أفضل تمكّنت من إحداث "حسٍّ بالإلحاح" ضروري لحدوث تغيرات حكومية. وبحسب خبراء التحوّل والتغيير، قد تؤمّن هذه الأصوات الضغط اللازم لإرغام زعماء العراق على وضع رؤية للتغيير، تتعامل مع مشاكل البلاد الخبيثة والوديعة إلى على أنها أزمات يجب حلها.
الرؤية التي يحتاجها العراق هي سياسة حيادية ومتنوعة للاقتصاد والطاقة من اجل تقوية الدولة العراقية وتطوير قدرتها على تحقيق التوازن بين القوى الإقليمية الفاعلة في سياستها الخارجية كشريك مستقل. إن وجود دولة عراقية اقوى مع خدمات أفضل وفساد وبيروقراطية اقل سوف تسمح للقائد الديمقراطي إن يوحد جميع الفصائل العراقية خلفه أو خلفها.