- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الشرطة المصرية بين البراءة والإدانة في قضية مقتل جوليو ريجيني
مساء يوم الرابع والعشرين من كانون الثاني/يناير الماضي، وبينما كانت مصر تستعد لاستقبال الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، اختفى الباحث الأكاديمي الإيطالي الشاب "جوليو ريجيني" وسط القاهرة؛ لتظهر جثته بعد عدة أيام، وهي ملقاة قرب معسكر أمني على طريق صحراوي بالجيزة، وعليها آثار تعذيب بشعة؛ لتتناسل الأسئلة متسائلة عن قاتله.
وقد أحدثت قصة مصرع هذا الشاب الإيطالي زوبعة كبرى داخل مصر وخارجها، وألقت بظلالها على العلاقات المصرية الإيطالية، كما أثارت شكوكاً حول مسألة أمن الأجانب بمصر، ودفعت البرلمان الأوروبي إلى توجيه انتقاد بالغ الحدة للقاهرة، مع تلميحات بمسؤولية أجهزة الأمن المصرية عن تعذيب وقتل "ريجيني"، وتوصية بإعادة النظر في أسس الشراكة المصرية الأوروبية، وحظر تصدير السلاح والمعدات الأمنية لمصر، وغير ذلك من عواقب وخيمة تهدد استقرار العلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبي.
وما تزال التحقيقات جارية إلى يومنا هذا؛ مع احتمال تورط الشرطة المصرية في الواقعة. وهو الاحتمال الذي ذهبت إليه جل المعالجات الصحفية والحقوقية والأمنية التي تناولت القضية في مصر وإيطاليا، رغم مسارعة أجهزة التحقيقات المصرية إلى تقديم سيناريوهات بديلة تبعد عنها الشبهات، كان آخرها نشر شهادة لأحد الشهود الذي صرح بأنه شاهد القتيل يتشاجر مع أحد مواطنيه الإيطاليين قرب القنصلية الإيطالية وسط القاهرة يوم اختفائه.
ولن نحاول الإجابة في هذا المقال عن السؤال الرئيس: "كيف قُتل ريجيني، ومن قتله؟"، بقدر ما سنبحث عن إجابة لسؤال آخر: "لماذا تكون الشرطة المصرية دوماً في قلب دائرة الاشتباه؟ ولماذا تحاصر بأصابع الاتهام التي تتهمها بالضلوع والتورط في مثل هذه القضايا؟
إن هذا الاتهام له ما يبرره، فإذا كانت الأنظار قد انصرفت إلى الشرطة المصرية منذ اللحظة الأولى لاكتشاف مصير الشاب الإيطالي؛ فذلك راجع لعدة أسباب، نجملها كالتالي:
أولاً: تزامن واقعة مقتل "ريجيني" مع تزايد لافت في وتيرة انتهاكات الشرطة ضد مواطنين مصريين، وهي الانتهاكات التي اعترفت بها عدة قيادات من الشرطة، ومن وزارة الداخلية. وقد اعْتُبِرَتْ مجرد ممارسات "فردية" معزولة لبعض المتجاوزين من جهاز الأمن، الأمر الذي يفتح الباب لاحتمال أن يكون أحد هؤلاء المتجاوزين "الفرديين" هو قاتل "ريجيني".
ثانياً: ارتباط سجل الشرطة المصرية خلال الأعوام الأخيرة بوقائع قتل داخل أماكن الاحتجاز، والتي وَثَّقَتْهَا المنظمات الحقوقية في خمس وستين حالة منذ مطلع هذا العام، اقترن فيها القتل بالتعذيب، حتى إن أحد أقسام الشرطة في "المطرية" شرق القاهرة؛ سجل إحدى عشرة حالة وفاة داخل مقر الاحتجاز التابع له.
ثالثاً: تزامن مقتل الهالك الإيطالي مع واقعتي قتل شهيرتين منظورتين أمام القضاء المصري حالياً، وهما قضية قتل ضباط شرطة في محافظة الأقصر لمواطن بعد تعذيبه، مع محاولتهم إنكار علاقتهم بالأمر لإبعاد التهمة عنهم، الشيء الذي أدى إلى القيام بتظاهرات احتجاجية في المحافظة انتهت بإحالة الضباط للمحاكمة، وواقعة قتل أمين شرطة وهي وظيفة توازي مساعد ضابط شرطة لسائق بمنطقة "الدرب الأحمر" بالقاهرة، أدت أيضاً إلى تظاهر ذويه، وإحالة الجاني على المحكمة، كما أدى ذلك إلى الشروع في دراسة تعديلات تشريعية على الوظائف المعاونة لضباط الشرطة. دون أن ننسى الاعتداء على الأطباء داخل المستشفيات، ومحاولة مساومة الضحايا للتنازل عن مقاضاة أفراد الشرطة المتورطين في تلك الاعتداءات.
رابعاً: حساسية المعلومات المتداولة عن القتيل؛ بكونه كان يراسل إحدى الصحف الإيطالية من القاهرة، وما سجلته المنظمات الحقوقية، ونذكر منها مؤسسة "حرية الفكر والتعبير" التي حصرت نحو مائة وأربعة وثمانين حالة اعتداء أمني على صحفيين ومراسلين أجانب داخل مصر خلال السنوات الأربع الماضية، منها أربع وستون حالة اعتداء بدني وإصابات، وثمان وستون حالة احتجاز واستيفاء لصحفيين ومراسلين أجانب، وأربع حالات اعتداء بين جنسي واغتصاب، وأربع عشرة حالة مصادرة وتحطيم معدات تصوير، وست حالات منع من التصوير.
خامساً: تقرير المعاينة التشريحية لجثة الشاب الإيطالي، والذي يكشف عن تعذيبه المكثف؛ بتكسير الأضلاع وقطع الأذن وكسر عظام الرقبة، وآثار إخماد سجائر على الجسد، غير ما ذكر عن تعرضه للصعق بالكهرباء. وهو تقرير يكاد يماثل تقارير آخري عن حالات لمصريين لقوا حتفهم في أماكن احتجاز شرطية؛ نظر أو مازال ينظر القضاء فيها. كما أن آثار التعذيب تلك تتماشى وحكايات الكثير من المحتجزين عن استعمال وسائل وطرق معينة؛ لإجبارهم على الاعتراف، أو لمعاقبتهم داخل مواقع الاحتجاز بأقسام الشرطة.
هناك دائماً في علم الجريمة ما يسمى بقواعد الاشتباه، وهي الخطوة الأولى تقريباً للبدء بالتحقيق في أي جريمة، ولا تحتاج أن تكون ضابط شرطة أو متخصصاً في علم الإجرام؛ حتى تعرفها، إذ يكفي أن تكون لك تجربة في الاطلاع على أداء ضابط مباحث في جريمة ما، أو سبق لك وأن شاهدت شريطاً عن دراما بوليسية.
عندما تحدث جريمة في منطقتك قتل أو سرقة يتحرك طاقم المحققين فور التبليغ عن الجريمة في عدة اتجاهات، بعضها يتمثل في معاينة مسرح الجريمة ورفع البصمات، والتحري عن المجني عليه وعلاقاته وخصوماته وسلوكه، وبعضها الآخر يتعلق بحصر المشتبه فيهم، وفحص المسجلين المتخصصين في هذا النوع من الجرائم داخل دائرة الإدارة أو القسم، وكذا نطاق النفوذ.
في كل قسم شرطة، أو إدارة مباحث متخصصة بمصر؛ هناك سِجِلُّ بالمسجلين حسب تصنيفاتهم الإجرامية، من مبتدئي الإجرام، ومعتاديه، وحتى الخطرين. وحال وجود شهود للواقعة؛ تجد "ألبوماً" للمشتبه فيهم من معتادي تلك الجريمة، أو طابور عرض لبعضهم حتى يتيسر التعرف من بينهم على المتهم الحقيقي من قبل شهود عيان. بهذا المنطق في الإجراءات المباحثية، واستحضار الملاحظات السابقة؛ يصبح وضع الشرطة المصرية أو أحد أجهزتها أو أقسامها أو طواقمها؛ في قفص الاتهام لدرجة مشتبه فيه رئيسي وأساسي في حادث مصرع الشاب الإيطالي؛ يصبح منطقياً ومسموحاً به، ويستند إلى ركائز اشتباه واضحة من حيث تاريخ المشتبه فيه، وسوابقه في حالات مشابهة.
هنا نتحدث عن الاشتباه فحسب، ولا نجزم بتورط الشرطة أو أحد أطرافها أو أفرادها في الجريمة، كما لا نجزم بغير ذلك، خصوصاً وأن التحقيقات مازالت مستمرة. لكن أي محقق في القضية وبسلوك مهني بحت بعيداً عن الهواجس السياسية لا يستطيع إخراج الشرطة من دائرة الاشتباه، بل لابد من أن يعتبرها أحد الاحتمالات الواجب تتبعها والعمل عليها، خصوصاً أن أمامه جثة شاب عليها آثار تعذيب مختلفة: ما بين قطع أذن، وكسر أضلاع وفقرات في الرقبة، وصعق بالكهرباء، وأشياء أخرى، وهو على علم بأن هذه الشرطة هي مشتبه فيه خطر في مثل هذه الجرائم، من خلال سجله الأسود، حيث له بصمات في حوادث مشابهة، أو قريبة تماثل هذه الحادثة.
وإذا ما سألت نفسك: "هل يمكن أن يفعلها شرطي مصري؟
فالأرجح أنك لا تجد ما يؤكد الأمر، لكنك أيضاً لا تجد ما ينفيه، ولكن المؤكد أنك تجد ما يدعم الاشتباه، دون أن تغفل طبعاً قاعدة "المتهم بريء حتى تثبت إدانته".
البعض يقول إنه لا يوجد شرطي عاقل يعتدي على أجنبي؛ وهو يعلم حساسية ذلك سياسياً، رغم أن من اعتدوا على الأطباء، ومن قتلوا "بائع" الأقصر، و"سائق" الدرب الأحمر، لم يُقَدِّرُوا أيضاً العواقب السياسية لأفعالهم.
هكذا يصبح الاشتباه طبيعياً، بل ومنطقياً. فالشرطة في مصر تدفع ثمن تاريخها وعدم تبنيها لمشروع واضح ومعلن للقطيعة مع أخطاء الماضي السيئ، والذي يضعها في مقدمة المشتبه فيهم في كل حادث، ناهيك عن فقدان الثقة في مدى جدية ورغبة المؤسسة في إصلاح بيتها من الداخل لصالح أداء احترافي، يعمل بدأب على تصحيح الأخطاء عوض التستر عليها.
أحد مفاتيح الحل هي التعديلات التي تحدثت عنها وسائل إعلام مصرية، بأن وزارة الداخلية أدخلتها على قانون الشرطة، تمهيداً لإرساله للبرلمان، وتتضمن تشديد على القواعد اللائقة للتعامل مع المواطنين، وعدم حمل السلاح الشرطي في غير مواعيد العمل، وإخطار النيابة العامة فوراً بتجاوزات الأفراد، وغير ذلك من المواد، لكن المصريين يعتقدون دائماً بحكم تجاربهم إن صياغة القوانين فقط لا تكفي، والأهم تطبيقها، وسط كم هائل من القوانين والمواد الدستورية غير المفعلة.
لكن بجانب للقانون، إن الشرطة المصرية اليوم تحتاج إلى إعادة تدريب طواقمها على معايير معينة، وعلى ثقافة مختلفة تماماً لما ساد في الماضي، وذلك لتجاوز تلك الممارسات السلبية التي طغت على المناهج النظرية التي يدرسها الضباط الصغار في كلية الشرطة، كما أنها تحتاج جهداً غير مسبوق للقطع مع "السوابق القديمة" ومسحها من الذهنيات، والضرب بيد من حديد على أصحاب السوابق الحالية، والتصدي الواضح الصريح غير الموارب لثقافة استباحة جسد أي متهم أو مشتبه أو محتجز مهما كانت نوعيته، حتى تسود ثقافة احترام القانون والدستور في مراكز الاحتجاز والاستجواب.
أحمد الصاوي هو كاتب وصحفي مصري. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"