- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
السعودية تقدم لبنان هدية لإيران
20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017
لا يمكن عند هذا الحد إنكار البيّن بأن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري كان مقيّد الحركة في المملكة العربية السعودية، وأنه قد أرغم على تقديم استقالته من الرياض، لا من بيروت، خلافاً للأعراف والممارسة الدستورية. وبغضّ النظر عمّا أرادته القيادة السعودية الجديدة من هذه الخطوات، فإن من شأنها أن تشكل «هدية» إضاقية لإيران، والتي قد استفادت للتوّ من الحرب السعودية المرتجلة في اليمن ومن الخلاف السعودي العبثي مع قطر. وإذا كان ثمة مجال متاح لإنقاذ لبنان من السقوط الدائم في قبضة إيران، فإنه لا بد من تحرّك حازم ومنسّق وسريع من الولايات المتحدة وفرنسا.
يشهد للسعودية أنها تتصدى لمساع توسعية إيرانية في ساحات عدة، وأن حدة المواجهة مع إيران تزداد ارتفاعاً.
ففي العراق، تردّ طهران على مساعي الرياض للانفتاح إزاء العراق بالتطويق لأية شخصية سياسية تستجيب للمسعى السعودي. وتستفيد إيران من نجاحها في احتواء الأزمة ثم تعزيز مواقعها في أعقاب الاستفتاء في كردستان العراق لاعتراض أي دور سعودي في العراق من خلال تنشيط كافة العوامل الداعمة لها، الطائفي والاقتصادي، كما السياسي. يتم بالتالي التركيز في الإعلام المؤيد لإيران على الترحيب الصادر من السعودية باستقلال كردستان، وتحديداً على الأصوات المطالبة بقيام كردستان الكبرى لتحجيم كل من إيران وتركيا، كدليل على سوء النوايا السعودية إزاء العراق.
وفي سوريا، كان الرجاء السعودي أن تنجح سياسة جديدة حازمة للولايات المتحدة في الحد من النفوذ الإيراني. إلا أن الرؤية المتكاملة للحل في سوريا لم تتشكل لدى واشنطن، والتي تتنافس فيها قضايا تزاحم سوريا في الأولوية. يبدو بالتالي أن حكومة الرئيس ترامپ قد رضيت بالتأكيدات الروسية حول إدارة الحضور الإيراني في سوريا. أما الرياض، فلا يسعها طبعاً الركون إلى الوعود الروسية.
وفي لبنان، فإن حزب الله، وهو الأداة المباشرة والصريحة لطهران، قد تمكن من استكمال اختراقه لمؤسسات الدولة السياسية والعسكرية، فيما أرسى كأمر واقع عدم خضوعه لأية مساءلة حول ما يقدم عليه من أعمال وما يصدر عنه من أقوال. وإذ يمعن حزب الله بالتهجم اللفظي الصادح والمتواصل على السعودية وأسرتها الحاكمة، فإن التقارير تكشف عن تورط متصاعد لهذا الحزب في اليمن، وبصماته واضحة في الاعتداء الصاروخي من جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة السعودية. فحدّة التوتر بين الرياض وبيروت غير مسبوقة، سيما وأن رئاسة الجمهورية اللبنانية قد رست على حليف لحزب الله.
والسجال دائر ضمن الأوساط اللبنانية المعارضة لحزب الله، بصفته امتداد إيراني وحسب، حول جدوى المعادلة السياسية القائمة. ولا يختلف السياديون اللبنانيون بأن جلوسهم مع أدوات إيران وحلفائها ضمن الحكومة الوطنية الواحدة يمنح إيران غطاءاً لاحتلالها المستتر للبنان. ولكن وجهات النظر في أوساطهم تتباين حول ما قد ينتج عن الخروج من هذا الترتيب. فسعد الحريري، وهو المقرّب من السعودية، كان من الفريق ذي الرأي الغالب بأن المشاركة في الحكومة، رغم ما تنضوي عليه من إساءة، هي السبيل الأوحد لإنقاذ لبنان من استيلاء إيراني كامل ودائم عليه. أما الرأي الآخر، والداعي إلى التخلي عن مؤسسات الدولة لحزب الله وأعوانه، للامتناع عن شهادة الزور التي تستفيد منها إيران، فلم تتشكل حوله الرؤية التفصيلية أو القيادة الواضحة للانتقال من الموقف الاعتراضي إلى الموقع الفاعل.
وقد كان بوسع المملكة العربية السعودية أن تعمل على دعم هذا التوجه الأخير وتعزيزه، وكان من شأن ذلك أن يلقى تأييداً شعبياً واسعاً، باتجاه توضيح الرؤية الرافضة للاحتلال الإيراني المستتر وتمكينها من التحقق. وكان لا بد تحديداً من التواصل مع اللبنانيين الشيعة، والذين تمكن حزب الله من حصر تمثيلهم وتقديم الخدمات لهم، وكذلك مد يد للبنانيين المسيحيين والذي ركنوا لحزب الله، رغم توجهاته العقائدية الإسلامية القطعية، كخط دفاع إزاء التطرف السني المتسرب من سوريا. وكان ليكون لولي العهد السعودي دور خاص في وجه آخر على قدر مرتفع من الأهمية، وهو دعوة الشباب اللبناني إلى رؤية مستقبلية للمنطقة قائمة على الازدهار والتنمية والاعتدال والانفتاح.
فهذه التوجهات قد دعا إليها العديد من الناشطين اللبنانيين والذي رؤوا في السعودية، رغم الاختلاف الجوهري في تركيبتها الاجتماعية ونظامها السياسي، حليفاً طبيعياً في مواجهة إيران والتي تجتهد لغرس ثقافة الموت والاستشهاد في أوساط الشباب اللبنانيين الشيعة.
إلا أن القيادة السعودية الجديدة لم تبدِ تفهماً للطبيعة الدقيقة للمنظومة السياسية اللبنانية، بل طالبت بالولاء المطلق من كافة الوجوه السياسية اللبنانية التي سعت إلى تجديد تحالفها معها واعتمادها عليها، فبدا وكأن «البيعة» لولي العهد السعودي هي الشرط الابتدائي. وقد تجاوب العديد من السياسيين مع هذا المطلب بتحفظ يراعي الحساسيات اللبنانية، إلا أن ذلك على ما يبدو لم يستوف أمر ولي العهد. أما سعد الحريري، ففي خطوة حصّلت له استهزاء الخصوم وحرج المؤيدين، فقد أشهر بيعته لولي العهد في السفارة السعودية في بيروت.
يبدو جلياً أن محمد بن سلمان، وهو الأمير الذي تربّى وتعلّم في المملكة يطالب حلفاءه اللبنانيين بما يطلبه من رعاياه السعوديين. ولكن مطلبه هذا مناقض للشخصية السياسية اللبنانية، بل يؤسس لشرخ خطير في العلاقات السياسية والاجتماعية بين السعودية ولبنان.
وقد كان الخبراء والمهندسون ورجال الأعمال اللبنانيون، بثقافتهم العالمية ولسانهم العربي، جزءاً لا يتجزأ من النهوض التاريخي السعودي نحو الرقي والازدهار. وكان لبنان، ذو المناخ المعتدل وضيافته المشهودة، مقصداً للعلم والصحة والترفيه، وفصلاً لازماً في حياة أجيال سعودية سابقة، بمن فيهم الأمراء. ورغم التفاوت في الثروات، فإن العلاقات بين الساسة السعوديين ونظرائهم اللبنانيين كانت تتسم بالصداقة والاحترام المتبادل.
إلا أن موقع لبنان ومكانته، كما الندية والودية في العلاقات، قد شهدت قدراً من الانحسار مع صعود جيل سعودي جديد لم يشهد لبنان كما شهده سابقوه. وقد لا يكون محمد بن سلمان أول أمير سعودي تغيب عنه دقائق السياسة اللبنانية، إلا أن خطواته الأخيرة قد تؤدي إلى صدع غير قابل للرأب في هذه العلاقات. وليس واضحاً ما هي ردة الفعل التي توخاها الأمير ولي العهد من الإذلال وقرابة التصفية السياسية لسعد الحريري، هذا الحليف السعودي الأبرز في لبنان. ولكن ردة الفعل لن تكون الإذعان للهيبة والرضوخ للسلطان. ما أقدم عليه الأمير الشاب بحق رئيس الوزراء اللبناني هو إفراط بالإساءة لم تقدم عليه لا إيران، ولا حتى النظام السوري القاتل على مدى عقود احتلاله للبنان، بحق أي من الحلفاء أو الأتباع أو الأدوات.
وقد ينجو سعد الحريري سياسياً، إذا ما توفق في إدارة المرحلة التالية، هذا إذا أُذن له بمرحلة تالية، ولكن على الأرجح كشخصية سياسية ضعيفة ومستنزفة. ما لن ينجو هو مقام المملكة العربية السعودية في لبنان.
فالوضع الحالي يدفع لبنان باتجاهات غامضة وغير مسبوقة. من المستبعد أن تكون النتيجة حرباً أهلية، بل ما هو الأقرب إلى أن يتحقق هو أن هذه المغامرة السعودية سوف تستوعبها مقاربة إيرانية متروية وحذرة تجنب لبنان الحرب الأهلية وتسعى إلى الكسب والاستفادة. وليس ثمة نتيجة إيجابية بالتالي، والضرر العميق قد حصل. إلا أنه بالإمكان الوقاية من المزيد من الضرر، ومنع إيران من ملء الفراغات في مواقع القيادة للأوساط اللبنانية السنية، والتي أخلتها الخطوة السعودية المتهورة، شرط أن تعمد واشنطن وپاريس بناءاً على النجاح الفرنسي بإيجاد قرابة المخرج لأزمة أسر سعد الحريري (وهو أسر بواح مهما أبدع الاعتذاريون من توصيفات)، والمساهمة عبر خطوات حازمة ومدروسة وتدريجية في إنشاء مسار واضح للتوجهات الاستقلالية السيادية في لبنان بحرّره من القبضة الإيرانية. والسعي إلى تشكيل هذا التوجه كان صعباً بالأمس، أما اليوم، وبعد الطيش السعودي، فإن صعوبته قد تفاقمت أضعافاً.