- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التغيير الجذري للثورة التونسية المسالمة
كونها مهد "الربيع العربي"، أثبتت تونس أنّها شذّت عن القاعدة. ففي حين تعاني بلاد "الربيع العربي" الأخرى من الحرب والفوضى والتسلط الاستبدادي، بقيت تونس على مسار التغيير المسالم. إلّا أنّه يجب عدم خلط غياب العنف بالعودة إلى ما كانت عليه الحال. فتونس تشهد بالفعل ثورة عميقة وذات معنى.
يمكن فهم الثورة كتغيير تحويلي جذري، وكذلك كتغيير جذري للنظام. إنّ تأثير الثورة يطال المشاعر كما الواقع.
إلّا أنّ المشاعر تميل إلى أن تدوم لفترة أطول من الواقع. ففي حين يُسجّل التاريخ الوقائع والأحداث، يرى الناس عادةً الأحداث عبر مشاعرهم. أمّا الواقع فيتمّ تذكّره من منظار النضال نحو الحريّة والكرامة الإنسانية. لذا يتمّ تبرير كل المصاعب والأعمال الوحشية وهرق الدماء.
غالبًا ما يتمّ وسم الثورات بأنها تعبير شرعي عن العنف.. إلّا أنّ وسم الثورات كاستخدام حقّ للعنف هو في الحقيقة تقنيع فشل النخبة في إحداث هكذا تغيير جذري عبر السبل السلمية.
وحتّى الآن، شكّلت تونس المثل المعاكس للثورة السلمية. فهل تحدث تغييرًا جذريًا؟
من المنصف التساؤل ما إذا كان "الربيع العربي" هو أي شيء أكثر من تجميل لأحداث مختلفة تمامًا. ففي حين بدأت في تونس، تحوّلت بسرعة إلى أحداث عنيفة فور انتشارها في مصر وليبيا واليمن وسوريا- باستثناء تونس.
فماذا حدث إذًا في تونس وما الذي أبقاها سلمية؟
نجد في تونس عملية تغيير جذرية طويلة وسلمية مستمرّة، وتغييرًا للنظام، لكن ليس هذا فحسب بل تغييرًا للنظام السياسي الاجتماعي.
ويمكن اعتبار حركة النهضة واحدة من القوى الأساسية المحرّكة لهذه التغييرات، فقائدها راشد الغنوشي قد شكّل الشخصية الكاريزمية الدافعة نحو تحقيق التغييرات في روح التسوية.
إنّ دعوة الغنوشي إلى التسوية قد قادت إلى تشكيل حكومة ائتلافية بين الإسلاميين والأحزاب العلمانية. وبالتالي قاومت حركة النهضة الرغبة ببناء حكومة ائتلافية مع حزب أسس نفسه على أسس الإسلام.
كما أصرّ الغنوشي على ضرورة أن يعكس الدستور التوافق العام بين مختلف الفئات الاجتماعية والسياسية في المجتمع، وبالتالي اختار عدم اعتبار الشريعة الإسلامية كمصدر للدستور. كانت هذه عملية ديناميكية أطلقتها حركة النهضة من خلال مناقشة الفقه الإسلامي داخليًا كمصدر. وبمواجهتها مخاوف بعض المواطنين التونسيين، تخلّت حركة النهضة عن هذا المسار بروح التوافق الوطني الحقيقية.
كما اعترضت حركة النهضة على ما يُسمّى بقانون "الحفاظ على الثورة" وساعدت على هزمه. كان هذا القانون ليحجب عن الذين عملوا مع النظام السابق حقوقهم في المشاركة في الحياة السياسية. يعتبر راشد الغنوشي أنّ هكذا قانون هو عقاب جماعي يتعارض مع عدالة وقيم الإسلام.
كانت حركة النهضة مشاركًا إيجابيًا أساسيًا في عملية الحوار الوطني. لقد سمحت بإرادتها استقالة الحكومة وشاركت في تشكيل حكومة مستقلّة، مهيّئة بذلك الطريق لإتمام الدستور وقيام الانتخابات الديمقراطية بعد ذلك. إنّ دور المجتمع المدني في التوصّل إلى قرار سلمي قد مكّن أطراف "الرباعي" من المجتمع المدني الفوز بجائزة نوبل للسلام. وقد كانت ديناميكية المجتمع المدني الفاعلة متوافقة مع حسّ الواجب المدني الذي برهنت عنه حركة النهضة وأخصامها السياسيون. كانت أولويّة الجميع، وكان حسّ الديمقراطية العميق هذا ما وجّه العملية.
لقد شاركت حركة النهضة أخيرًا في حكومة ائتلافية مع الحزب السياسي الخصم.
لم تأت الثورة التونسية بالتغيير داخل النظام فحسب، بل أتت بالتغيير أيضًا داخل النظام الاجتماعي السياسي وفي قواعد "اللعبة السياسية".
قد يقول البعض إنّ الثورة التونسية قد أصلحت البلاد بدل تغييرها بشكل جذري، لا سيّما عندما لا يكون الناس و"وجوه" النظام القديمة ناشطين على الساحة السياسية فحسب، بل عادوا أيضًا لاستلام القيادة على الساحة السياسية.
غير أنّه وبسبب هذا المشهد بالتحديد قد يقول البعض إنّ التغيير الجذري قد حصل أوّلًا، وتسبّب هذا المشهد باندلاع الثورة التونسية وقد تخطّى "ربيعها" "عواصف الشتاء" التي ضربت الجوار.
فكيف يمكن الحديث عن التغيير في تونس؟
أوّلًا: صحيح أنّ العديد من القادة الحاليين على الساحة السياسية في تونس ينتمون إلى النظام القديم، لكنّهم لم يتسلّموا السلطة تبعًا للنظام القديم ولا يحكمون تبعًا لقواعد النظام القديم.
وصحيح أنّ الناس الذين يقودون نظامًا سياسيًا هم مهمّون لكن للنظام عادةً تأثير أكبر على المجال العام والخاص. ما يمكن وصفه بالنظام الجيّد أو السيّئ يمكن بالتالي أن يؤثّر على كل حالة للدولة .
إنّ الذين يحكمون تونس اليوم تسلّموا السلطة وفقاً لانتخابات ديمقراطية، ويمثّلون بذلك إرادة شعب تونس الحرّة، بغض النظر عن أيديولوجياتهم.
إنّ حسّ الديمقراطية القوي هذا هو الذي وجّه العملية. وكان أحد شعارات الغنوشي المتكررة خلال الحملة الانتخابية أنّ "الموظف الرسمي الذي يدخل أبواب الدستور هو الابن الشرعي للثورة". ويصف الغنوشي نفسه بـ"الديمقراطي المسلم" وليس إسلاميًا. وهكذا تُعتبر حركة النهضة مختلفة تمامًا عن الحركات المصنّفة بـ"الإسلام السياسي".
كديمقراطي مسلم، يشير الغنوشي إلى مثل "نبي الإسلام" بهدف جديد. عند دخوله مكة كفاتح، أعلن النبي أنّ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. كان أبي سفيان قائد قريش، القبيلة التي حكمت القبائل العربية الأخرى وكان الخصم الرئيسي لنبي الإسلام.
وتكمن الفكرة في أنّ نبي الإسلام لم يحاول الانتقام بل حرص بدل ذلك على أن يخضع حتّى ألدّ أعدائه لحكم سلطة ناشئة بغض النظر عن معتقداتهم: كان الأهمّ تأسيس نظام سياسي ونظام اجتماعي مستقرّين.
من خلال هذه الأمثلة، أحدث الغنوشي وحركة النهضة تأثيرًا جذريًا في تغيير النظام السياسي في تونس.
في الواقع، انتقلت تونس من نظام سلطة مركزي تأسس على حكم حزب واحد وحكومة كانت تحكمها سلطة شخص واحد وهو رئيس الجمهورية إلى نظام ذات حكم متعدد الأحزاب يرتكز على فصل السلطات ويضطلع البرلمان فيه بدور أساسي وتبني فيه الحكومة المحلية والمناطقية نظامها السلطوي المحلي.
غير أنّ التغيير الجذري الأساسي الذي حصل في تونس يكمن في واقع أنّ الحياة السياسية لم تعد ترتكز على الإيديولوجيا. يكمن النضال في تعزيز الكفاح نحو المواطنية وحق الأفراد في الحرية والكرامة؛ هكذا نضال هو التركيز المشترك لمختلف الأحزاب السياسية. لهذا قرّر الغنوشي وحزبه رفض راية الإسلام السياسي. وبالفعل فبعد أكثر من سنتين من النقاش الداخلي خلال المؤتمر العاشر لحركة النهضة اعتمد الحزب هذا الاتجاه الذي أطلق عليه اسم "التخصص".
ويعني "التخصص" أنّ حركة النهضة تحدّ مشاركتها بالمجال العام في المسائل السياسية. أمّا باقي المسائل كالاجتماعية والثقافية والدينية فهي من اختصاص فاعلين اجتماعيين ومدنيين آخرين سواء كانوا أفرادًا أو ضمن مجموعات.
يعتقد الغنوشي أنّ الثورة التونسية لم تضع حدًّا لسلطان نظام استبدادي فحسب، بل وضعت حدًّا أيضًا للحاجة الاجتماعية إلى حركة استبدادية.
لا يكمن التحدّي الحقيقي الذي لا يزال يواجه تونس في الصراع بين الإسلام والعلمانية، بل في التحدّي بين أولئك الذين يناضلون لتعميق التغيير الذي أشعلته الثورة والذين يعتبرون أنّ نتيجة الثورة لا تصب في مصلحتهم، ويناضلون بالتالي لإعادة فتح الجروح القديمة.