- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التغيير ثمّ الغسل ثمّ الإصلاح: الحكومة التونسية ترزح تحت الضغط
في حين أن عملية تغيير الحكومة ستسترضي بعض الأحزاب وبعض المجموعات من المجتمع المدني، لن تؤدي الحكومة الجديدة إلى معالجة التحديات الأعمق التي تواجهها المرحلة الانتقالية الديمقراطية في تونس.
تعالت في الأسابيع الأخيرة أصوات بعض الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي تدعو الحكومة التونسية التي يرأسها رئيس الوزراء يوسف الشاهد إلى الاستقالة وإفساح الطريق لتشكيل حكومة جديدة. وقد استلمت حكومة الشاهد مهامها، وهي الحكومة الثامنة في البلاد في خلال عددٍ مساوٍ من السنين، منذ آب/أغسطس 2016، بعد أن فشلت حكومة الحبيب الصيد السابقة في نيل الثقة في البرلمان. ففي ذلك الوقت، وقّعت تسعة أحزاب سياسية وثلاث نقابات عمّالية رائدة اتفاقًا يُعرَف بـ"إعلان قرطاج" الذي يدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة تكون أولوياتها محاربة الإرهاب واتخاذ تدابير لمكافحة الفساد والقيام بإصلاحات اقتصادية. فتم توزيع الوزارات التونسية الست والعشرين في الحكومة الائتلافية الناتجة على أعضاءٍ من الكتلتين الرائدتين في البرلمان – وهما حزب "نداء تونس" العلماني وحزب "النهضة" الإسلامي – بالإضافة إلى مزيجٍ من المستقلين وأعضاءٍ من حزبيْن علمانييْن أصغر حجمًا.
وبحسب ما تشير إليه التقارير الصحفية التونسية، قد يواجه الشاهد المصير السياسي نفسه الذي واجهه سلفه. لكن يحيط الشك في ما إذا كانت عملية التغيير الأخرى في الحكومة ستحقق لتونس الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها بشدة والتحسينات في قدرة الدولة، وهو أمرٌ تبيّن حتى الآن أنه بعيد المنال بالنسبة إلى الديمقراطية المتخبطة.
ويعود تاريخ السبب المباشر للأزمة الراهنة إلى آذار/مارس الماضي. فبعد الاحتجاجات ضد تنفيذ تدابير تقشفية غير مرغوبة، بدأت حينئذٍ الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني بالتداول بشأن الطريق الواجب سلوكه في ظل الركود الاقتصادي في تونس. وفي أوائل نيسان/أبريل، اتّهم أحد أهم موقّعي "إعلان قرطاج"، وهو "الاتحاد العام التونسي للشغل"، حكومة الشاهد بالفشل في تحقيق أهداف الإعلان ودعا إلى تغيير الحكومة. وفي 3 أيار/مايو، انضمّت خمسة أحزاب سياسية، من بينها حزبَي "النهضة" و"النداء"، إلى نقابات العمّال الرائدة في البلاد في توقيع "إعلان قرطاج" المعدَّل ("قرطاج 2") الذي يتألف من خمسة وستين إصلاحًا اجتماعيًا واقتصاديًا. لكن سرعان ما انهار الإجماع حول مصير حكومة الشاهد.
في 22 أيار/مايو، وفي اجتماعٍ عقده الرئيس الباجي قائد السبسي في قصر قرطاج، دعا كلٌّ من "حركة نداء تونس" وحزب "الاتحاد الوطني الحرّ" العلماني و"الاتحاد العام التونسي للشغل" و"منظمة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية" إلى استقالة الشاهد وإحداث تغيير كامل في الحكومة. وردًّا على ذلك، تصدّت "حركة النهضة" مع حزب "المبادرة الوطنية الدستورية التونسية" الوسطي و"الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري"، فتمت الموافقة على تغيير الحكومة جزئيًّا، إنما مع الإصرار على أن يبقى الشاهد في منصبه. وفي 22 أيار/مايو، تم تعليق "اتفاق قرطاج 2" إلى أجل غير مسمى وانسحب "الاتحاد العام التونسي للشغل" من المحادثات احتجاجًا على بقاء الشاهد في منصبه.
وفي 6 حزيران/يونيو، أقال الشاهد وزير داخليته، لكن جاءت هذه الخطوة على الأرجح ردًّا على حادثة مأساوية حصلت في نهاية الأسبوع، عندما لقي على الأقل 112 شخص حتفهم حين انقلب قاربهم قبالة الساحل التونسي. فقد أصبح مكان ولادة "الربيع العربي" في الأشهر الأخيرة نقطة عبور أساسية للمهاجرين الذين يسعون إلى دخول أوروبا، وأدّت كارثة تحطّم المركب إلى تسليط الضوء على المخاطر التي يواجهونها باستمرار. وقد أدت تلك المأساة إلى زيادة الضغوط على الشاهد، الذي اتُهمت حكومته بالبطء في تقدير خطورة الحادث.
وقد يسترضي استبدال الشاهد وحكومته المجموعات الأساسية مثل "الاتحاد العام التونسي للشغل" بشكلٍ مؤقت، وستدل هذه الخطوة ظاهريًا للشعب التونسي على أن الحكومة تشعر بخيبة أملهم من غياب التقدم، لا سيما من الناحية الاقتصادية. إلا أن عدة اعتبارات سياقية تشير إلى أن المأزق الحالي قد يكون متمحورًا حول الصراع السياسي على السلطة، أكثر منه حول المحاولة الشاملة لتحقيق الإصلاح.
ورغم وفرة الأسباب التي تفسّر خيبة أمل التونسيين من المحنة الاقتصادية التي تمر فيها بلادهم – وهي تشمل معدل البطالة المرتفع باستمرار (15% كمعدل رسمي على المستوى الوطني، لكن ضُعْف ذلك على الأقل على مستوى الخريجين الجامعيين وفي المناطق غير الساحلية من البلاد) والتضخم المتزايد والفروقات البارزة بين المناطق الساحلية والنائية – ترتفع نسبة المناورات السياسية التي تغذّي جهود استبدال الحكومة الحالية بشكلٍ هائل. فأثار تعيين الشاهد في البداية القلق من أن عضويته في حزب السبسي، ولا سيما قربه المزعوم من ابن السبسي حافظ السبسي، ستجعله يعزف عن معالجة مشكلة الفساد في البلاد أو المباشرة بإصلاحات اقتصادية عميقة – فكان يُعتقَد أن كلا الخطوتين تهددان شريحة من النخب الاقتصادية في البلد التي تنتمي بشكلٍ أساسي إلى "حركة نداء تونس".
لكن في السنوات التالية، أثبت الشاهد أنه يتمتع باستقلالية أكبر مما توقع الكثيرون، فدعا إلى "حرب" كاسحة على الفساد (شملت توقيف عدة رجال أعمال بارزين)، ودفع حكومته إلى تطبيق تدابير اقتصادية غير مرغوبة مثل الخصخصة وتجميد أجور القطاع العام وزيادات الضرائب لتسديد دينٍ تبلغ قيمته 2.9 مليار دولار وتم الحصول عليه في عام 2016 من "صندوق النقد الدولي".
وإن هذا الدفع باتجاه مكافحة الفساد، ورغم أن البعض في المجتمع المدني انتقده لأنه لا يصل إلى الحد اللازم، لم يرُق لبعض الجهات من "حركة نداء تونس"، وهو حزبٌ ناضل لتحقيق التماسك منذ فوزه عام 2014 في الانتخابات النيابية والرئاسية. ففي هذا الوقت، أدّى صعود السبسي الأصغر داخل الحزب إلى تفاقم التصدّع أكثر فأكثر ضمن صفوف حزب "النداء"، والى انتهاء التقارب الذي كان يتمتع به الشاهد مع السبسي.
ولا شك في أن انقسام الحزب ساهم في إضعاف أدائه في الانتخابات المحلية في 6 أيار/مايو.
فشجّعت على الأرجح خسائر حزب "النداء" في صندوق الاقتراع، مقرونةً بالجهود التي بذلها حافظ في اجتماع قصر قرطاج في 22 أيار/مايو، والرامية إلى إقصاء الشاهد بحسب التقارير، على تجرّؤ رئيس الوزراء علنًا على اتهام ابن الرئيس بتدمير الحزب، وتم التكشير عن الأنياب منذ ذلك الحين. فمهما كانت الأسباب الأخرى التي تدفع إلى تغيير الحكومة، تؤدي سياسات الأحزاب دورًا واضحًا بما أن الجهات الرائدة تسعى إلى احتلال المواقع المناسبة للانتخابات الوطنية المقرَّرة في عام 2019.
وما من أدلة بكل ما للكلمة من معنى تشير حتى الآن إلى أن تغيير الحكومة مرةً أخرى سيؤدي إلى تحسينات دائمة في الميادين المحددة التي ذكرتها مجموعات المعارضة في خلال مطالبتها بإزاحة الشاهد. ولا يتضح أيضًا كيف قد يتم تفضيل الحكومة الجديدة من المجموعات المترسخة مثل "الاتحاد العام التونسي للشغل"، نظرًا إلى أن رئيس الوزراء القادم سيستيقظ على المؤشرات المؤسفة نفسها التي تشكّل عبئًا على اقتصاد البلاد. فالنموذج الذي نتج عن التغيير، أقله منذ عام 2014، هو عبارة عن وصول حكومة جديدة تعِد بمجموعة واسعة من الإصلاحات، ومحاولات جزئية لتنفيذها، وتصدي بعض المكوّنات، والوقوع في مأزق سياسي، وإجراء محادثات للمصالحة تحت رعاية الرئاسة، وتأسيس حكومة جديدة تعِد مرة أخرى بإنجاز إصلاحات. فقد تعكس هذه الدورة المتكررة حدًّا ما من المحاسبة السياسية، إنما على حساب عدم الاستقرار الذي يقوّض ثقة المستثمرين الأجانب، وهي عملية دوران سياسي تحد من تمكّن الحكومة من بناء قدرة مؤسسات الدولة المسؤولة عن تأمين الخدمات الأساسية، وتزيد خيبة الأمل من العملية الانتقالية الديمقراطية.
أما بالنسبة إلى صانعي السياسات في واشنطن، فيجب أن يشكّل المأزق السياسي الأخير في تونس رسالة تذكير بالهشاشة التي تطبع عملية الانتقال الديمقراطية في البلاد. وسواء أسفر الاقتتال الداخلي السياسي والتعبئة العامة عن نشوء حكومة جديدة في هذا الوقت أم لا، لا تتبدل مصلحة الولايات المتحدة الأساسية في بقاء تونس مستقرةً نسبيًا. لذلك، سترغب إدارة ترامب في إظهار دعم الولايات المستمر لتجربة تونس الديمقراطية وشراكتها في مواجهة المصاعب الناتجة. ومع الجولة الجديدة المحتملة قريبًا من الزيادات في سعر الوقود، لا بد من أن يتشاور المسؤولون الأمريكيون مع نظرائهم التونسيين حول توقيت ارتفاع الأسعار في المستقبل والسبل الممكنة لتخفيف أثرها، لا سيما في الشرائح الفقيرة من المجتمع التونسي التي يُرجَّح أن تعاني بشكلٍ غير متكافئ. كما ستُحسن واشنطن التصرف إذا نظرت في تأمين مجموعة إسعافات طارئة تهدف إلى مساعدة تونس في توفير رصدٍ أكبر لازدهار شبكات الإتجار بالبشر، على غرار تلك التي سهّلت وقوع المأساة الأخيرة عند تحطم قارب المهاجرين. وعلى الرغم من الصراعات القائمة بين القوى السياسية، إلا أن استمرار المساعدات الاقتصادية لتونس قد يساهم في تحقيق قدر من الاستقرار لحكومة الشاهد.