- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التطلع قدماً نحو استقلال كردستان العراق
في غضون أسابيع قليلة، يدلي المواطنون في كردستان العراق بصوتهم في استفتاء تاريخي يمهّد لقيام دولة كردية كاملة المقومات، بعد قرن كامل من اجحاف دولي شهد قيام دول قومية عديدة في الجوار. من حق الأكراد في العراق وسائر العالم أن يعتزّوا بهذا الإنجاز المرتقب، وإن كان محفوفاً بالتحديات والصعوبات. ومن حق كردستان العراق على أصدقائها أن تتوقع منهم النصرة والتأييد. والطروحات التالية هي بعض الأداء لهذا الواجب من متابع للحالة الكردية تلمّس لمس اليد كرم الأفراد وسمو القيم في كردستان العراق.
الأنجع أن يكون إظهار إطار هذا الحدث التاريخي كما كان في الواقع، على أنه استقلال لا انفصال. ورغم أن التصورات القومية الكردية قد اجتهدت لبلوغ لحظة الوطن السيد على مدى قرن، على أنه ثمة خصوصية للحالة العراقية والتي تشكل بشقّها الكردي نموذجاً وحسب لمصاب كافة المواطنين العراقيين إزاء حكومات الأمس المتعاقبة. فهذه الحكومات غالباً ما تكلمت بلسان مصالحهم فيما هي عملت لخلافها. ونظام البعث في العراق تحديداً قد أقرّ صورياً بمنطقة حكم ذاتي في المحافظات ذات الأكثرية الكردية، ولكنه في السرّ ثم في العلن سعى إلى استئصال الوجود الكردي في العراق عبر سلسلة من الإجراءات التصاعدية والتي ابتدأت بالاقتطاع والتذويب القوميين، ومرّت بالتضييق وخنق وسائل النهوض، لتصل في نهاية المطاف إلى الحدث الإبادي. فما شهدته منطقة كردستان العراق كان فعل احتلال استعماري، والصفة العربية كانت الأداة فيه، لا العامل. وما تمكنت من إنجازه القوى الكردية في كردستان العراق هو الانتصار على الاستعمار واستحضار مقومات الحرية والاستقلال. فالإنجاز، كما ابتدأ بالتحقق في أعقاب احتلال صدام حسين للكويت ثم انهزامه وتصعيد اعتدائه على الشعب العراقي، هو بمواجهة الاستبداد، وليس طلاقاً بين مقومات هذا الشعب. نعم، أقحم نظام صدام شرائح عربية في سعيه إلى تبديد الطابع الكردي لكركوك وغيرها، ولكن نجاحه بالاستعانة بـ االجحافلب و االفرسانب وغيرها من التشكيلات الكردية السمة، يظهر جلياً أن القوة القاهرة كانت لخدمة السلطة وليس لتحقيق مشروع قومي.
وبغضّ النظر عن كافة الطروحات والطموحات القومية، فإن ما شهده المجتمع الكردستاني العراقي، الكردي تحديداً، من سعي خارجي إلى تصفيته الجسدية، من حلبچة واختبارات النظام للإبادة بالسلاح االخاصب، وصولاً إلى عمليات االأنفالب والتي غيّبت مئات الآلاف من الأكراد في جريمة تاريخية مسؤولية إهمالها لا تزال إلى اليوم مسألة تحتاج إلى المتابعة، يلقي على هذا المجتمع خصوصية وجودية تؤهله للتمايز والاستقلال. وأن تكون الفصائل السياسية المعبّرة عن هذا المجتمع قد اجتهدت في إظهار هذه الخصوصية هو أمر يشهد لها، ولا سيما في تجنبها لوقوع في فخّ الجنوح إلى الغلو بالقول والفعل. كردستان العراق كان ضحية للأنفال، بما تجسده من الاستبداد والطغيان والإجرام، ولكنه قام منها قوياً، قوة معنوية بالتأكيد وإن لم تكن متحققة مادياً بعد، مستحقاً للانعتاق والاستقلال. وكذلك، فعلاً ورجاءاً أن يكون حال سائر العراق.
والتجربة التاريخية لهذا الوطن العتيد من شأنها أن تنعكس في تسميته. من حقّ من يطمح إلى قيام كردستان الكبرى أن يرى في الدولة البازغة ضحى آماله وأن يعتبرها اكردستان الجنوبيةب، غير أن زعم الفضل في هذا القيام لحركة عابرة للدول هو إسقاط عقائدي، لا إقرار واقعي. هو اكردستان العراقب الذي يصعد، والأمل أن يعكس الاسم حقيقة التجربة. فمسمّى االعراقب، إذ هو ضارب في العمق التاريخي، ليس حكراً على قومية، وفي الابقاء عليه كجزء من الاسم هو تأكيد على شراكة لا ينقضها الاستقلال، مارسها اكردستان العراقب كإقليم ذي حكم ذاتي، ومن طبعه وصالحه أن يستمر بها مع السير إلى الاستقلال.
والتواصل مع التاريخ والجغرافيا الأحرى ألا يقتصر على الاسم. فمن البديهي أن يتحقق إقرار اللغة الكردية لغة رسمية للوطن العتيد، ولكنه وطن متعدد اللغات، وعليه فإنه من صالحه وواجبه إبراز اللغات العربية والتركمانية والأشورية والكلدانية والسريانية لغات وطنية. بل من شأن كردستان المستقل، في استمرار وتعزيز لما حققه كردستان الإقليم، أن يعمد إلى تأصيل التعددية الثقافية، بما لم تعتد عليه دول الجوار برمّتها. بل من شأن كردستان العراق، في حال تمكن من الإصلاح أن يتجرأ على نقض معادلات عدة في جواره ليؤكد على المرجعية الجمهورية، ويعتمد اللامركزية، ويشهر العلمانية صراحة، رافعاً مبدأ فصل الدين عن الدولة كعنوان لحماية كل من الدين والدولة من التجاوزات.
غير أن هذا التصور المثالي يحتاج دون شك لجهود فائقة كي يقترب من التحقيق. ولا يمكن إغداق الثناء على كردستان العراق، كمجتمع وكمؤسسة سياسية، دون التيقن من مصابه من المعضلات العميقة والمزمنة. فيبدو أن ثمة خلفية عشائرية متأصلة في كافة ما يشهره كردستان العراق من مؤسسات سياسية بالمفهوم المعاصر. بل بوسع المنتقدين، فيما يتعدى المزايدات السجالية، أن يحاجّوا أن الشريحة السياسية القائدة في كردستان العراق هي حكر على أصناف عشائرية محددة، والدوائر الحكومية أقرب إلى الإقطاعات، فيما سير العمل في المؤسسات العامة الأساسية، في شؤون الدفاع والقضاء والصحافة والمجتمع المدني خاضع لإرادة القيادات السياسية. بل الأصناف الحاكمة على خصومة وصلت بالإقليم إلى أوضاع الحرب الأهلية في التسعينات، وأفسدت مفهوم الانتخابات النيابية حين قررت التراضي بالتقاسم دون اعتبار لحكم الناخبين. ولهذا، فإن دعاة التغيير والإصلاح في كردستان العراق قد حاولوا الاستفادة من دور حكومة بغداد لتحدي الوضع القائم. ولا بد من الإقرار بجانب من الصواب في هذه الاعتراضات، ولكنه من الصعب المحاجّة أن الإطار العراقي الأوسع، بما يعاني منه من الوهن والارتباك، هو السياق الأنجع لمعالجة هذه العلل. بل الواقع أن قبول كردستان العراق برقابة دولية، فيما هي تتقدم باتجاه الاستقلال، قد يحفّزها نحو الإصلاح، بعد أن غابت حوافز الإصلاح عن العراق ككل لعقد ونيّف من الزمن منذ سقوط النظام الاستبدادي. وإذا استقرت الحكامة الراشدة في كردستان العراق، فإنها قد تكون مدعاة سعي إلى التماثل في سائر العراق.
الأعباء الملقاة على عاتق كردستان العراق كثيرة، وقد لا يبدو أن تاريخ الإقليم يهيؤه لإنجازها. ولكن من جبال كردستان هذه قد تخرج المعادلات الجديدة التي لم تكن في الحسبان. هل يستطيع كردستان العراق أن يقدم لهذه المنطقة الفائضة بالتجاذبات والكيديات والهويات المتنافية مثالاً جديداً؟ هل يتقدم كردستان العراق بطلب عضوية لجامعة الدول العربية، وإن كانت قد عجزت عن الارتقاء إلى المقام الموعود، فيضخّ فيها الدم الجديد، بمعانٍ جديدة لماهية التواصل العربي؟ هل تصدر من أربيل الدعوة إلى جامعة دول كردية، توجه إلى كل من العراق وإيران وتركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل، إذ في كل منها حضور كردي في صلبها الثقافي والاجتماعي، للشروع بمتابعة الطموحات التي شاء البعض أن يرى فيها أسباب تنافر وإذ هي مقومات تواصل؟
التحديات التي تقف بوجه تحقيق التصور الوردي لمستقبل كردستان العراق كثيرة وعلى مستويات، والمستوى الأول أي ترتيب البيت الداخلي أهمها وأخطرها، فمعه الانتقال من إمكانية استقرار النظام التمثيلي إلى تحقيقه، ومن شبه الاستقلال للمجتمع المدني إلى تمامه، ومن قرابة إنجاز التوحيد في المؤسسة الأمنية إلى إنجازه.
والمستوى الثاني هو توضيح العلاقة العضوية مع سائر العراق من خلال الإقرار بالحق التاريخي دون انتقاء، وبالواقع الاجتماعي دون إجحاف. طبعاً الملفات شائكة، وأصعبها كركوك والنفط والماء، ولكن تذليل صعوباتها هو لصالح الجانبين عند الإقرار بالطبيعة المرحلية لما تبقى من عمر الثروة النفطية على مستوى الكرة الأرضية ككل. فالإسراع بالحل وتعزيز البنى التحتية لاستثمار بالانتقال إلى ما بعد النفط مسألة يستفيد منها الجميع.
أما المستوى الثالث، فهو خشية الدول التي تتقاسم كردستان الطبيعية من تداعيات الاستقلال في أحد الأجزاء. والمسألة ذات بعدين نظري وعملي، الأول صارم في إثارته القلق، أما الآخر فأكثر مدعاة للتسويات. ففي سوريا، حيث الدولة الجامعة غائبة، يشهد الواقع تجربة تحتاج إلى توضيح يستفيد دون شك من نضوج الحالة العراقية. أما الوضع التركي، فلا شك أن أنقرة تدرك أن معالجة هذا الملف الجوهري، أي المسألة الكردية، أمر لا بد منه وأن التأخير لا يزيده إلا استفحالاً. ومن شأن أربيل أن تكون الوسيط في السعي إلى إيجاد الصيغ المرحلية والدائمة وصولاً إلى تحقيق هذه المعالجة. وحدها طهران قد تعتبر أن سيطرتها على كردستان الإيرانية ثابتة وأن قيام دولة كردية مستقلة يشكل هزّة لهذا الاستقرار. ولكنها قناعة واهية، والهدوء في كردستان إيران معرّض تلقائياً للاهتزاز بفعل عوامل تزداد حدة، ولا سيما منها التعبئة الجهادية. فقيام كردستان العراق المستقل من شأنه أن يشكّل مرجعية قادرة على توجيه النهضة الكردية الإيرانية بعيداً عن التشدد والقطعية.
أما المستوى الربع، وهو البعد العالمي لقيام دولة كردية مستقلة، فيحتاج إلى جلاء الرؤية أميركياً وأوروپياً إلى ضرورة الدعم للتجربة وتأطيرها بما لا يثير خشية عدوى الانفصالية ويتميّز عن تجارب التقسيمية السيئة أو الملتبسة التي شهدها العالم في المرحلة الماضية (السودان الجنوبي، إريتريا، تيمور الشرقية). والدور القيادي للولايات المتحدة في هذا الشأن يندرج في إطار إيفاء الوعود، المصرحّ بها والمومأ إليها.
الطريق طويل ومليء بالعقبات، ولكن مسار كردستان العراق نحو الاستقلال أصبح واضح المعالم. والتعويل أولاً هو على المواطن الكردستاني، الكردي كما من سائر الأطياف، أن يترجم سمو القيم لديه إلى نموذج جديد في عالم بأمس الحاجة إليه.