- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التوتر العرقي في كركوك يشير إلى شرخ في العلاقات بين أنقرة وأربيل
إن التوترات القائمة منذ فترة طويلة في مدينة كركوك العراقية المتعددة الأعراق قد تشعل مرة أخرى المواجهات بين تركيا وإقليم كردستان العراق، وهي الأحدث في سلسلة من النزاعات حول المدينة.
وتتمحور الخلافات الأخيرة حول قرار عودة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" لمقره السابق في كركوك، وهي الخطوة التي أججت التوترات بين المجموعات العرقية. حيث احتج العرب والتركمان معًا على عودة الحزب المحتملة، بينما نظم الأكراد احتجاجات مضادة أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا إثر لجوء قوات الأمن العراقية إلى العنف المفرط لفض الاشتباكات.
في أعقاب الاحتجاجات، دافعت حكومة إقليم كردستان عن القرار بزعم أن المدينة جزء من "كردستان." كما أكدت تركيا، التي تلعب دور حامي التركمان في العراق، على أهمية كركوك في الحفاظ على وحدة وسلامة العراق، ووصفت المدينة بأنها "موطن التركمان."
على الرغم من علاقات تركيا الودية عمومًا بـ"الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي تقوده عائلة بارزاني وحكومة إقليم كردستان التي يهيمن عليها الحزب، خاصة في ما يتعلق بالصراع مع "حزب العمال الكردستاني" على الأراضي والسياسة والتجارة العراقية، إلا أن انتخابات كركوك المحلية المزمع إجراؤها في 18 كانون الأول/ديسمبر قد تشعل فتيل الاضطرابات بين مختلف الأعراق وتضع العلاقات بين أنقرة وأربيل أمام اختبار صعب.
نقطة خلاف
وفقًا للمادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005، فإن كركوك هي إحدى "المناطق المتنازع عليها" بين الحكومة المركزية العراقية وحكومة إقليم كردستان. ولتحديد وضعها الرسمي، نصت المادة على عدد من الأحكام مثل إعادة دمج المناطق النائية في محافظة كركوك، وإجراء إحصاء سكاني، ثم إجراء استفتاء شعبي لتحديد ما إذا كانت المدينة ستنضم إلى أربيل أو بغداد. ومع ذلك، فإن الجبهة التركمانية العراقية المدعومة من تركيا تعارض علنًا تنفيذ المادة 140 وضم كركوك إلى أراضي إقليم كردستان العراق، واصفة الفترة التي حكم فيها الأكراد المدينة مع الحكومة المركزية العراقية بين عامي 2003 و2017 بأنها كانت "أيام غير آمنة ومضطربة ومظلمة."
ومن الواضح أن التركمان الذين يشكلون جزءًا من "قوات الحشد الشعبي" المدعومة من إيران في المدينة لن يدعموا عودة "البيشمركة." وتعارض "الجبهة التركمانية العراقية" كذلك عودة "البيشمركة" إلى كركوك، والتي أصبحت تحت سيطرة الجيش العراقي و"قوات الحشد الشعبي" في أعقاب استفتاء استقلال إقليم كردستان المشؤوم في عام 2017. وعلى الرغم من معارضة "الجبهة التركمانية العراقية" لوجود هذه القوات في كركوك، فهي لم تنتقد قط الأحزاب العربية ولا "الحشد الشعبي" علنًا كما تفعل مع الأكراد. وقد لوحظ أن امتناع الجبهة عن توجيه الانتقادات بدأ منذ هجوم الميليشيات المدعومة من إيران على القاعدة العسكرية التركية في الموصل وتهديداتها المستمرة لأنقرة. وتتعامل "الجبهة التركمانية" بهذا الحرص الشديد ليس بسبب خوفها من "الحشد الشعبي" الذي يحظى بسطوة كبيرة في المدينة فحسب، ولكن بسبب وجود التركمان الشيعة ضمن قواته أيضًا. ومع ذلك، فإن الوجود الإيراني المتزايد في كركوك عبر "وحدات الحشد الشعبي" والتركمان الشيعة الموالين لها يقوّض أيضًا خطط تركيا لترسيخ نفوذها في المدينة ويعرقل محاولاتها لتأسيس وحدة تركمانية.
ونظرًا لعلاقتها الوطيدة بحكومة إقليم كردستان، لا تدين تركيا علنًا عودة "البيشمركة" إلى كركوك أو ضم المدينة المحتمل إلى إقليم كردستان العراق، بيد أن تصرفات حلفاء تركيا تعكس موقفها الحقيقي من هذه القضية. فهناك دلالات بالغة تنعكس في انتقادات زعيم "الجبهة التركمانية العراقية" للسياسات التي ينتهجها كل من "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" في كركوك، وتأييده الشديد لضم كركوك إلى الحكومة المركزية. وتثير تداعيات الاستفتاء السابق مخاوف تركيا من أن تؤدي سيطرة الأكراد على محافظة كركوك الغنية بالنفط إلى تحقيق مستوى من الاستقلال الاقتصادي الذي من شأنه أن يحفز مرة أخرى محاولات الانفصال السياسي.
كما تستخدم أنقرة كركوك كأداة سياسية، ويحظى دعم تركمان العراق بشعبية كبيرة في تركيا، حيث يدافع القوميون والمحافظون من الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة عن التركمان ويؤكدون على الأهمية التاريخية لكركوك في أوقات الأزمات. ومع ذلك، فإن حقيقة تركيز تركيا على تركمان كركوك وليس تركمان أربيل تشير إلى أنها تقبل سيطرة الأكراد على هذا الجزء من البلاد. وتتجلى هذه العلاقة الوثيقة بوضوح شديد من خلال القواعد العسكرية التركية الدائمة في دهوك وأربيل الخاضعتين لسيطرة "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وقدرتها على إجراء عمليات جوية وبرية ضد "حزب العمال الكردستاني" كما يحلو لها، وموقف إقليم كردستان العراق المتسامح بشكل ملحوظ تجاههم. مرة أخرى، إن الود الذي تبديه كوادر "الجبهة التركمانية العراقية" في أربيل تجاه حكومة إقليم كردستان وعدم توجيه انتقادات لها، يظهر أن سياسات "الجبهة التركمانية العراقية" في كركوك وأربيل متناقضة وتعكس سياسة أنقرة المتباينة تجاه هذه المناطق.
ولكن يبدو أن معارضة تركيا لعودة السيطرة الكردية على كركوك لها أنياب أيضًا. ويكشف التصريح الأخير لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان الذي يدعم فيه "التمثيل المتساوي ومشاركة جميع الشرائح" في إدارة كركوك، أن لدى أنقرة مخططات أخرى للمدينة غير المادة 140. علاوة على ذلك، حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من أنهم "لن يسمحوا بزعزعة أمن وسلامة تلك المنطقة الجغرافية"، واصفًا كركوك بـ"موطن التركمان."
ولن تتراجع حكومة إقليم كردستان كذلك عن موقفها. ففي أعقاب التوترات العرقية في كركوك، أصدرت حكومة إقليم كردستان طابعًا بريديًا رسميًا يحمل تمثالًا للـ"بيشمركة" وعلم إقليم كردستان العراق، مع جملة "كركوك هي كردستان" أسفل الصورة. تشرح هذه الخطوة التي جاءت في الوقت المناسب وبعبارات لا لبس فيها قناعة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بأحقية الأكراد في المدينة. وتجدر الإشارة إلى أن حكومة إقليم كردستان تطالب باستمرار بتنفيذ المادة 140، وتعتبر المدينة ضمن "المناطق الكردية الواقعة خارج نطاق الإقليم"، بينما يؤكد الأكراد أن "كركوك هي قدس كردستان."
يشير هذا الاختلاف الحاد بين أنقرة وأربيل إلى أنه على الرغم من علاقتهما التي يغلب عليها التعاون، فإن موقف تركيا تجاه إقليم كردستان العراق وكركوك والسكان التركمان يمكن أن يتغير بشكل جذري كما حدث إبان الاستفتاء. وتشير العلاقة المتغيرة باستمرار بين أربيل وأنقرة إلى انعدام الثقة القائمة على مجموعة ثابتة من المصالح المشتركة، ويتبنى الطرفان نهجًا براغماتيًا قائمًا على التعاون شريطة أن تتداخل مصالحهما، التي تتضمن على سبيل المثال صادرات النفط والتجارة والعمل ضد "حزب العمال الكردستاني." وتشير العلاقة الوثيقة بين الرئيس أردوغان ورئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان البارزاني، الذي يتميز بمواقفه السياسية المعتدلة مقارنة برئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني، المعروف بنزعته القومية كوالده، إلى توقعات أنقرة من أربيل.
أزمة وشيكة
إذا كان تركمان كركوك يريدون تعزيز تطلعاتهم السياسية، فلا يمكنهم القيام بذلك بشكل صريح. لقد فاز الأكراد بـ26 مقعدًا من أصل 41 في الانتخابات المحلية لعام 2005، وحصل التركمان على تسعة مقاعد والعرب على ستة مقاعد، ثم خسر التركمان في نهاية المطاف أحد المقاعد الثلاثة التي فازوا بها في الانتخابات البرلمانية لعام 2018 لصالح المرشحين العرب في عام 2021. وعلى الرغم من هذا العائق الديموغرافي، يمكن للتركمان التأثير على توازن مجلس المحافظة الجديد من خلال تشكيل شراكات استراتيجية يمكن أن تؤثر في انتخاب المحافظ الجديد والمناصب المهمة في المدينة.
لكن هذا المسار السياسي لن يحول دون اندلاع احتجاجات أكثر حدة إذا تم انتخاب محافظ كردي في انتخابات مجالس المحافظات وعادت قوات "البيشمركة" إلى المدينة. ومن الممكن أن تستخدم قوات الأمن العنف المفرط للسيطرة على المواجهات بين المجموعات العرقية، ومن ثم تتخذ القضية بعدًا إقليميًا. ويمكن أن تتطور التوترات في كركوك إلى أزمة في العلاقات بين أنقرة وأربيل، خاصةً أنها مبنية على الخلافات المتفاقمة بين بغداد وأربيل حول أمور كالميزانية ووقف صادرات النفط الكردي إلى تركيا. في هذه الحالة، فإن أنقرة التي لا تملك وسائل تأثير فعالة في المدينة مثل إيران، قد تلوّح ببساطة بالتدخل العسكري في المدينة بحجة حماية التركمان واجتثاث عناصر "حزب العمال الكردستاني" المزعومة. وفي الواقع، سلط الهجوم الأخير على مطار في السليمانية والذي أسفر عن مقتل أعضاء مجموعة مكافحة الإرهاب التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني - والذي تم تنفيذه بواسطة طائرة بدون طيار من تركيا، حسب تصريحات مسؤول عراقي - الضوء على التوسع المتزايد لعمليات أنقرة ضد حزب العمال الكردستاني. رغم عدم إعلان تركيا مسؤوليتها عن الهجوم.
أما بالنسبة إلى حكومة إقليم كردستان، فإن السيطرة على كركوك لن تكون بالمهمة السهلة أيضًا، حيث سيكون من الصعب عليها استعادة السيطرة على المدينة من دون وجود قوة عالمية إلى جانبها في مواجهة إيران وتركيا، وهما القوتان الإقليميتان اللتان تطمحان إلى سيطرة الحكومة المركزية على كركوك. علاوة على ذلك، قد تكون الانقسامات الداخلية في الحكومة الكردية كافية لعرقلة طموحاتها، إذ وصل التعاون بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" إلى أدنى مستوياته منذ عام 2003، كما سيخوض الحزبان انتخابات مجالس المحافظات في كركوك بقوائم منفصلة، وهو ما يتناقض مع نظام القائمة المشتركة الذى تم طرحه في عام 2005، وهى المرة الأخيرة التي يتم فيها إجراء انتخابات مجالس المحافظات في المدينة.
في واقع الأمر، قد تتمكن تركيا من الاستفادة من المنافسة بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، وحث التحالف الذي يضم التركمان و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" على انتخاب حاكم تركماني، ولكن من المحتمل أيضًا أن يتعاون "الاتحاد الوطني الكردستاني"، المقرب من الأحزاب الشيعية المدعومة من إيران، مع العرب والتركمان بدلًا من ذلك. ومع ذلك فمن المؤكد أن السيناريوهين سيضران بالأكراد أكثر من الإضرار بالوحدة بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، وسيصبح المجال مفتوحًا أمام الجهات الفاعلة العربية والتركمانية لمنع عودة "البيشمركة" إلى كركوك أو تنفيذ المادة 140.
إذا لم يتم تأجيل الانتخابات في كركوك لمنع حدوث أزمة محتملة، فيجب التركيز على إدارة انتخابات مجالس المحافظات بشفافية مع الاستعانة بوساطة الأمم المتحدة. وفي حال تغيير المحافظ، يجب تسليم المحافظة سلميًا للطرف الفائز. إذا لم يحدث ذلك، فإن التوترات المحتمل حدوثها في أعقاب انتخابات مجالس المحافظات، والتي بإمكانها إعادة التوازن في كركوك، قد تكون لها عواقب وخيمة أشد وطأة من تلك التي حدثت أثناء أزمة مقر "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وتعيد إلى الأذهان تداعيات الاستفتاء.