- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الوجود العسكري التركي المتزايد في اقليم كردستان العراق
تُعتبر الحملات العسكرية التركية المستمرة في إقليم كردستان العراق جزءًا من استراتيجية تركيا الإقليمية الأوسع وتوسعها.
يوم الاثنين 18 نيسان/أبريل، اجتاح الجيش التركي مرة أخرى إقليم كردستان العراق ونشر قوات برية وجوية في الجبال. وعلى غرار الغزوات السابقة، تذرّعت تركيا هذه المرة أيضًا بمحاربة "حزب العمال الكردستاني". غير أن تركيا تنشئ منذ عام 2018 عددًا متزايدًا من القواعد والمراكز العسكرية بعد كل حملة عسكرية تقوم بها. وفي عام 2020، أصدرت الرئاسة التركية خريطة تحدد أربعين قاعدة عسكرية داخل الإقليم. وعلى الرغم من حذف المنشور بعد فترة وجيزة، إلا أن الخريطة بقيت موجودة على الإنترنت.
في الواقع، تشن تركيا حملة جديدة داخل إقليم كردستان كل ربيع، وتترجَم هذه الحملات إلى ازدياد عدد الأراضي التي تستحوذ عليها القوات التركية في الإقليم . وصحيحٌ أن "حزب العمال الكردستاني" موجود فعليًا منذ ثمانينيات القرن العشرين، إلا أن اجتياح الإقليم ينطوي، بالنسبة لتركيا، على حصيلة أهم وأكبر من "حزب العمال الكردستاني". على سبيل المثال، فقد هذا الحزب قدرته على شن الهجمات داخل تركيا، ولكنه حصر أعماله بالدفاع عن النفس. ومع ذلك، لن تتوانَ تركيا التي تحتل هذه المناطق عن استهداف كيان حكومة إقليم كردستان وقمع رغبتها في الاستقلال ولو فكرت مجرد تفكير في تكرار ما يشبه الاستفتاء على الاستقلال.
وجديرٌ بالذكر أن سياسة التوسع في العراق هي جزءٌ من أهداف تركيا في المنطقة وخارجها منذ عام 2018. إذ لا تزال تركيا تتدخل بشكل مباشر في الشؤون السورية والليبية، وتواصل دعم القادة المصريين لـ "جماعة الإخوان المسلمين" و"حماس". كما أنها انحازت على الفور مع أذربيجان، وشنت حربًا على أرمينيا في ناغورنو كاراباخ، وبدأت بترسيخ نفوذها في أفريقيا. والواقع أن تركيا تلعب على الحبلَين في ما يخص الغزو الروسي، لكن المجتمع الدولي يغض النظر طالما أن الطائرات التركية المسيّرة (بدون طيار) تُباع لأوكرانيا.
وما تسعى إليه تركيا هو تأمين خط أنابيب النفط الحالي الممتد من كركوك إلى ميناء جيهان. وربما يجري العمل على إنشاء خط أنابيب مستقبلي للغاز على غرار خط حكومة إقليم كردستان بمساعدة تركيا. إذ يهم تركيا أن تضبط أمنها عبر السيطرة على هذا الإقليم الغني بالغاز الطبيعي. فقد تعهد مؤخرًا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحل مشاكل الغاز الطبيعي في تركيا من خلال إبرام اتفاق مع العراق.
ومع أنه قد لا يكون من السهل على تركيا الحصول على الغاز الطبيعي الكردي نظرًا للخلافات بين الأكراد أنفسهم ومع بغداد، تبقى تركيا المكان الوحيد الذي يمكن تبرير تصدير الغاز الطبيعي إليه من أي طرف من الطرفين. لذلك، فإن صفقة الغاز ضرورية لتركيا كونها تحظى بتأييد دولي وتستطيع التعويض عن جزء معقول من الغاز الطبيعي الذي تورّده روسيا إلى أوروبا، خاصة بعد تراجع التوقعات بزيادة الإنتاج من قبل كل من الجزائر وليبيا. من الناحية الجيوسياسية، تعارض إيران مثل هذه الصفقة مع تركيا. لكن بفعل القيود المفروضة على إيران من قبل الولايات المتحدة يجعل من غير الواقعي استثمار الغاز الطبيعي الكردستاني فيها.
ولا بد من الإشارة إلى أن العراق شكل هدفًا مهمًا في سياسة التوسع التركية، بما تضمنه ذلك من محاولة السيطرة على عدد كبير من الكيانات السياسية فيه. فتركيا تستغل مثلاً غياب القيادة السنية في العراق منذ عام 2003. وبعد قرابة العقدين من الزمن، تمكّن أردوغان مؤخرًا من توحيد السُّنة تحت رايته. في الواقع، بدأت محاولات تركيا من نينوى بعد عام 2003 ثم توسعت لتشمل السُنة في غرب العراق. واليوم، تتأثر الكتلة السنية شبه الموحدة في البرلمان العراقي بشكل مباشر بتركيا. وعلى النحو نفسه، استخدمت تركيا الأقلية التركمانية في كركوك ونينوى لمصلحتها السياسية، فأنشأت مثلاً حزب "الجبهة التركمانية العراقية" في أربيل عام 1995. ومنذ ذلك الحين، دعمت تركيا "الجبهة التركمانية" التي تُستخدم في أجندات مختلفة، بما في ذلك استهداف الأكراد وأحزابهم السياسية في الأراضي المتنازع عليها. حتى أن تركيا ذهبت إلى حد إنشاء ميليشيات لكل من السُنة و"الجبهة التركمانية". وعام 2015 على سبيل المثال، وبدون أي اتفاقيات مع بغداد أو التحالف الدولي الذي يقاتل "داعش" بقيادة الولايات المتحدة، شكلت تركيا قوة سنية بعد إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة بعشيقة في نينوى. كما درّبت وسلّحت في كركوك مئات المقاتلين التركمان للضغط على الأكراد بحجة محاربة "داعش".
فضلاً عن ذلك، استفادت تركيا من الانقسام الكردي داخل حكومة إقليم كردستان بين الحزب الديمقراطي الكردستانيوالاتحاد الوطني الكردستاني من جهة، وخارج الإقليم بين حكومة إقليم كردستان، وخصوصًا الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأكراد سوريا وتركيا من جهة أخرى. ولكن بفعل الطبيعة الجغرافية والمنافسة الإقليمية التاريخية بين إيران وتركيا والواقع على الأرض، مال الحزب الديمقراطي الكردستاني بطبيعة الحال إلى تركيا، فيما مال الاتحاد الوطني الكردستاني إلى إيران. واليوم باتت تركيا تعتبر من كبار داعمي الحزب الديمقراطي الكردستاني بحيث تستفيد من صفقات الطاقة والتبادلات التجارية المقدرة بمليارات الدولارات مع "حكومة إقليم كردستان".
وفي ما يتعلق بحكومة بغداد، فقد أرست تركيا مستوى جديدًا من العلاقات مع العراق من خلال الحكومة الحالية التي يرأسها مصطفى الكاظمي. إذ تؤيد بغداد مثلاً القصف التركي المتواصل للمناطق اليزيدية ضد القوات المحلية الموالية لـ حزب العمال الكردستاني. علاوة على ذلك، عمدت تركيا رسميًا في كانون الثاني/يناير 2021، مستفيدة من "عضويتها في الناتو"، إلى نشر قواتها في بغدادفعززت نفوذها في البلاد. وعلى الرغم من التصريحات المنددة التي تصدر عن بغداد بين الحين والآخر، تتفق الحكومة الحالية مع تركيا بشأن "القتال" ضد حزب العمال الكردستاني. فبغداد تعتبر أن تنامي النفوذ التركي على الأكراد "مربح للجانبين". على سبيل المثال، لطالما كان الهدف من سياسات بغداد هو تقويض حكومة كردستان العراق خاصة بعد الاستفتاء الذي أجري بخصوص استقلال الإقليم. كما لم تدفع سيطرة تركيا على أراضي إقليم كردستان العراق بغداد لاتخاذ أي إجراء سوى الإدانة. ورغم العداء التاريخي بين أنقرة وطهران، اتفقت كلا القوتان مع بغداد على ضرورة سحق التطلعات الكردية بالاستقلال. علاوة على ذلك، يُترجم ضعف إقليم كردستان العراق مقارنة ببغداد إلى المزيد من الاعتماد الكردي على الحكومة المركزية. في الوقت عينه، سيجعل ذلك من بغداد الطرف الوحيد الذي يتعامل مع أنقرة، على عكس الترتيب الحالي حيث تتعامل تركيا مع حكومة إقليم كردستان، بشكل أساسي من خلال الحزب الديمقراطي الكردستاني مباشرة.
ولا يخفى على أرض الواقع أن نفوذ تركيا المائي على البلاد يقيّد بغداد نتيجة قلة تخطيط الحكومات التي تعاقبت على العراق منذ عام 2003. فقد تأثر مثلاً العراق فورًا حين قطعت تركيا مؤقتًا المياه من دجلة والفرات، وأصبح الحدث جزءًا من الخطاب السياسي فيما عانى المزارعون من الشمال إلى الجنوب من الجفاف.
وإزاء النفوذ الإيراني السلبي في العراق ودعمها للميليشيات الخارجة عن القانون، بدت تركيا أكثر جاذبية لحكومة الكاظمي. يضاف إلى ذلك أن تركيا أقرب من إيران إلى المجتمع الدولي ويمكن أن تقدم أكثر من أي قوة إقليمية أخرى. إذ تزود تركيا حاليًا العراق بطائرات بدون طيار، وقد ألغت بغداد عقدها مع روسيا لشراء طائرات "ميغ-29" مقابل صفقة لشراء طائرات تركية بدون طيار، بمباركة الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر العراق السوق الأساسية للبضائع التركية، بحيث تشكل العلامات التجارية التركية نحو 90 في المائة من العلامات الموجودة في مراكز التسوق العراقية.
تشير كل هذه العوامل إلى أن نفوذ تركيا وتدخلها في العراق سيستمر في النمو، حيث تعاني تركيا اليوم من عدة مشاكل اقتصادية وسياسية ناتجة عن حكم أردوغان الاستبدادي. ولكن لا يمكن إيقاف التوسع التركي لأسباب عدة، من بينها الافتقار إلى الوحدة في العالم العربي، ما يجبر تركيا على محاولة طرح نفسها كقائد للعالم الإسلامي. علاوة على ذلك، ساعدتها أهميتها الجغرافية وتطورها العسكري خلال السنوات الأخيرة على بسط نفوذها. ومن المرجح أن تستمر هذه السياسات التوسعية بعد رحيل أردوغان في حالة عدم إعادة انتخابه كرئيس مرة أخرى. وقد ثبُت مرارًا وتكرارًا أن المعارضة تتفق مع أردوغان بشأن غالبية تدخلاته الإقليمية، خصوصًا حيثما يتواجد الأكراد، وتلك سياسة سيتعين على إقليم كوردستان العراق التعامل معها على المدى الطويل.