- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
أمننة أزمة فيروس كورونا في الأردن: النجاحات والقيود
مع انتشار وباء فيروس كورونا عالميًّا، تواجه عدة دول تحديات وخيارات مماثلة في كيفية الاستجابة، مع ثلاثة احتمالات أساسية هي: الاستسلام والموت، أو النضال والعيش، أو منح الأولوية للاقتصاد بدلًا من الصحة العامة. وتبرز هذه الخيارات الصعبة في كل دولة، وترتبط الآن نتائج كلٍّ منها أكثر من أي وقتٍ مضى بالنظام المُعَولَم.
اختار الأردن إعطاء الأولوية بشدة للصحة العامة الخاصة بحياة الناس على حساب الاقتصاد، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة في الأردن التي يعكسها كلٌّ من مؤشرات البطالة المرتفعة، ونسبة المديونية المرتفعة، والنمو الاقتصادي البطيء، والركود الاقتصادي في هذا البلد. وبسبب الإغلاق المبكر وإحدى أقوى ردود الفعل في المنطقة، ما زال عدد الحالات والوفيات في الأردن ضئيلاً، مع (562) حالة مسجَّلة و9 وفيات ابتداءً من 11 أيار/مايو 2020. وباشرت الدولة في معالجة النتائج الاقتصادية المترتّبة عن هذا القرار وفي الاهتمام بالشعب الأردني، لا سيّما أولئك المحرومين اقتصاديًّا، على غرار المياومين وأصحاب المهن الحرّة.
أنجزت الدولة هذه التدابير عبر عملية الأمننة. وفي الإطار النظري العام للأمننة، بحسب "مدرسة كوبنهاغن" لنظرية العلاقات الدولية التي تركّز على الأمن وأشهر المنظّرين فيها مثل أولي ويفر (Ole Wæver) وباري بوزان (Barry Buzan)، إنها العملية التي تعيد فيها الجهات الفاعلة السياسية تصنيف موضوعٍ ما كمسألة أمنية، ثمّ تستخدم فعل الكلام لإقناع الناس بأهمية المسألة والحاجة إلى تكريس موارد غير متماثلة لها. وإذا نجحت عملية أمننة موضوعٍ ما، يصبح من الممكن تشريع وسائل غير عادية من أجل حلّ إحدى المشاكل التي يجري لحظها. وقد تشمل هذه العملية بالتالي إعلان حالة الطوارئ أو القانون العرفي، بالإضافة إلى حشد القوات العسكرية.
يعتبر منظّرو الأمننة أنّ مجموعةً متنوّعةً من المسائل، مثل الإرهاب أو الهجرة، ستحظى بقدرٍ غير متناسب من الانتباه والموارد عندما تجري أمننتها مقارنةً بالمواضيع التي لم تجرِ أمننتها، حتّى عندما قد تسبب هذه المواضيع الأخرى بضررٍ أكبر.
لا تتّضح هذه المسائل بذاتها ببساطة؛ فلا بدّ أن تقوم الجهات الفاعلة المنفِّذة للأمننة بالتعبير عن كونها مشاكل. فعلى سبيل المثال، إنّ الخطاب السياسي الذي يحدد الإرهاب على أنه " تهديد للأمن القومي" يحوّل الإرهاب من هاجس سياسي له أولوية منخفضة إلى مسألة ذات أولوية عالية تقتضي التحرّك، مثلًا عبر تأمين الحدود.
أثبتت تحركات الأردن استجابةً للوباء كيف أنّ أمننة هذا التهديد يمكن أن تستثير الناس. ففضلًا عن تنفيذ تدابير الصحة العامة مثل الحجر والفحوصات وعمليات الإغلاق والتدابير الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، لم يكن أمام الأردنيين– كالجهات الفاعلة السياسية– سوى خيار شنّ حربٍ غير تقليدية على فيروس كورونا، من خلال وضعه في إطار التهديد الأمني، حيث يشكّل كلّ فرد في الأردن "جنديًّا" في هذه الحرب.
استخدم الملك عبد الله الثاني ضمن ملاحظاته في الخطاب الذي توجّه فيه إلى الأمّة بتاريخ 23 آذار/ مارس لغةً تندرج في هذا السياق فقال: "إخواني وأخواتي، عائلتي الكبيرة، أبناء شعبي الذين أستمدّ منهم كلّ العزيمة، اليوم كلّ واحدٍ منكم جنديٌّ لهذا الحِمى، كلٌّ من موقعه".
كنتيجة لذلك، أدرج الأردن بعض أقسى التدابير لمكافحة فيروس كورونا في العالم ونفّذها. وشملت هذه التدابير حظرًا للتجول غير محدَّد المدّة، وحُكمًا بالسجن لمدة عام على الذين انتهكوه، وإغلاق كافة الشركات في المملكة. وتُنفَّذ كافة هذه التدابير بواسطة وزير الداخلية بالتعاون مع "القوات المسلّحة الأردنية"، ما يسلّط الضوء أكثر فأكثر على أمننة التهديد.
بالنسبة إلى الأردنيين، إن رؤية القوات المسلّحة إلى جانب انتشار الشرطة في الشوارع– بما فيها نقاط المراقبة في كافة المحافظات الأردنية الثلاث عشرة– رسّخت هذه الصورة لفيروس كورونا كتهديد عسكري. وشمل الإشراف العسكري على التباعد الاجتماعي في الشوارع وعلى الحركة التجارية رصدًا شخصيًّا وعبر الطائرات بدون طيّار لامتثال المواطنين لقوانين الدفاع وعدم انتهاك حظر التجول. وكانت صفّارات الإنذار تدعو إلى الحظر الكامل للتجوّل كلّ يوم بعد الساعة السادسة مساءً.
إنّ مظاهر الأمننة الواضحة هذه غير مسبوقة بشكلٍ ملحوظ بالنسبة إلى الكثير من الأردنيين الأصغر سنًّا. فلم يحدث منذ السبعينات أن ظهر مشهد دوريات الجيش التي تجوب الشوارع وتقف على نقاط المراقبة، إلى جانب عزل عمّان عن باقي المحافظات وإغلاق محافظات أخرى. فقد طُبِّقت هذه التدابير السابقة للمرة الأخيرة خلال أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 وعقب طرد العصابات الفلسطينية من الأردن. وتُذكّر صفّارات الإنذار بحرب الخليج الثانية، عندما أطلق صدّام حسين صواريخ "سكود" ضد إسرائيل في أوائل عام 1991. وهكذا، تكون التدابير الراهنة المتَّخذة لمكافحة فيروس كورونا شبيهة باستجابة الدولة إزاء الأحداث الأمنية الكبيرة عبر التاريخ الأردني، ما يعزّز أكثر فأكثر حسّ الأمننة.
مع ذلك، تطبّق الدولة أيضًا تدابير أخرى من أجل التصدّي للآثار الثانوية الناتجة عن الإغلاق، وتركّز بشكلٍ خاص على تبعاته الاقتصادية. فالتمست بعض الجهود الخاصة الرامية إلى جمع الأموال الحصول على مبالغ مالية من المؤسسات والأفراد على حدٍّ سواء، فأنشأت ثلاثة صناديق متخصصة من أجل دعم وزارة الصحة والقطاعات المتضررة.
يُنشئ "البنك المركزي الأردني" أيضًا رزمةً من التدابير الاحترازية بهدف احتواء التداعيات السلبية للوباء على أداء الاقتصاد المحلّي. فيُسمَح للمصارف الآن بإعادة هيكلة قروض الأفراد والشركات، خاصةً القروض الصغيرة والمتوسطة الحجم، التي تأثّرت بتداعيات هذا الفيروس. وقرر البنك المركزي أيضًا ضخّ المزيد من السيولة في الاقتصاد الوطني بقيمة 500 مليون دينار عبر تخفيف الاحتياطات النقدية الإلزامية، وتخفيض كلفة التمويل، وزيادة المهل الزمنية للمنشآت القائمة والمستقبلية للقطاعات الاقتصادية. ويُضاف إلى كل ذلك الدعم المقدَّم لإجراءات الشركة الأردنية لضمان القروض من خلال تقليص عمولات برامج الشركة ورفع نسبة تغطية التأمين لبرنامج ضمان المبيعات المحلية.
الجدير بالملاحظة هو أنّ الاستجابة القوية على صعيد الصحة العامة، وعملية الأمننة، والجهود الاقتصادية المتزامنة يقابلها تأييد الناس؛ فزادت استجابة الدولة إزاء الأزمة شعبية الملك عبد الله الثاني. كما برز عددٌ من الأبطال الشعبيين داخل الدولة، من بينهم وزير الصحة ووزير الدولة لشؤون الإعلام.
حدثت أيضًا تغييرات اجتماعية إيجابية وسط سعي البلاد إلى الاستجابة للأزمة. ففي أعقاب الأزمة، يمكن ملاحظة زيادة كلٍّ من التضامن الاجتماعي والتعاون بين الجيران والمواطنين، لا سيّما في ما يتعلق بالمجتمعات العربية المختلفة في الأردن كالعراقيين والمصريين. وإلى ذلك، كان الالتزام بالأنظمة والقوانين الأردنية قويًّا، ووصل الكثيرون إلى حدّ التبرّع للصناديق السيادية الأردنية. وتتمتّع هذه التوجهات بإمكانية الاستمرار حتى بعد انتهاء الأزمة إذا تم ترسيخها والتشجيع عليها.
حدود الأمننة
ذهب فيروس كورونا في الأردن إلى أبعد من تحديد المرض كـ"أزمة حرجة في مجال الصحة العامة" بسبب التخوف من عدم توفير حالة الطوارئ الطبية للسرعة والرشاقة الضروريتَين للتعامل مع الفيروس في مرحلة مبكرة كفاية لمنع الانتشار الكثيف. وأثبت "نموذج الأمننة" الأردني نفسه بعدة طرق كوسيلة فعّالة وسريعة وصارمة لحشد كافة الموارد اللازمة المتاحة في وجه الوباء من أجل الحفاظ على الأرواح والأملاك قبل تمكّن المرض من إصابة نسبة كبيرة من السكّان.
تكثر العلامات التي تشير إلى أنّ استراتيجية الأمننة التي اتّبعها الأردن شكّلت نجاحًا نسبيًّا في وجه أحد التهديدات الكبرى. ومع ذلك، لا يجوز تفسير قرار الدولة بمقاربة التحدي من منظار الأمننة على أنه ببساطة يشكّل استجابةً لدولة قوية قادرة على حشد جيشها وقواتها الأمنية بسرعة، وفرض الإغلاق، والحفاظ على الاستقرار المحلي في وجه أزمة عالمية على غرار "كوفيد-19".
بالأحرى، اعتُبرت الاستجابة السريعة والحاسمة إزاء الأزمة بمثابة ضرورة من أجل منع التفشي الكثيف للوباء بسبب إدراك الحكومة لنقص الموارد الضرورية من أجل التعامل مع أزمة "كوفيد-19".
على نحوٍ مماثل، فيما يتطلّع الأردن للحفاظ على نجاحاته، سيواجهه تحدٍّ جديد يتمثّل في كيفية إعادة فتح العالم الخارجي وتوقيتها. فالوباء عالمي، ولا تستطيع أي دولة التخلص من التهديد من دون الجهد الدولي والمنسّق. وقد يفسّر ذلك الدعوة التي وجّهها الملك عبد الله الثاني وقادة أربعة بلدان أخرى بقيادة ألمانيا في مقالٍ مشترك تضمّنته صحيفة "فاينانشال تايمز" إلى إنشاء تحالف عالمي جديد من أجل تسريع البحث العلمي وتعزيز تمويله بهدف الحصول على اللقاحات الجديدة لفيروس كورونا.
إلى ذلك، ما زالت التأثيرات الدائمة لهذه الأزمة في طور بروزها. فعلى غرار معظم البلدان، ستعاني القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية في الأردن من جرّاء الأزمة من دون شك. وستكون التحديات ملحوظة في كافة القطاعات، ابتداءً من حالات الإفلاس ووصولًا إلى معدلات البطالة المرتفعة والنمو الاقتصادي البطيء والخلل في قطاع السياحة الذي عَمِلَ الأردن جاهدًا لبنائه وانخفاض التحويلات من العمّال في الخارج.
ثمة أيضًا بعض السلبيات الخاصة بالأمننة. فهي تطرح خطر إعاقة التنمية البشرية والتحولات الديمقراطية وتطوّر المؤسسات السياسية والبرلمانية ومؤسسات المجتمع المدني، خاصةً حين تُمدَّد قوانين الطوارئ. وعلى المدى المتوسط، قد يؤدّي حس تراجع الحرّيّات إلى بروز تحديات مجتمعية جدّيّة، مثل ارتفاع معدلات الجرائم والسلب والسرقة وانتشار تعاطي المخدِّرات وازدياد الإصابة بالأمراض العقلية وربما الانتحار.
يمكن أن يتحوّل الاضطراب الاجتماعي في وسط الأزمة إلى حلقة مفرغة. ويزيد الاضطراب المحلّي على الأرجح عبء مختلف الوكالات الأمنية، فيجعلها أكثر عرضة للتهديدات المتأتية من مختلف المجموعات الإرهابية.
يتنبّه الناشطون السياسيون وحركة المعارضة وعدة مفكّرين في الأردن من النتائج السياسية المترتبة عن الأمننة، بما أن الوسائل الاستثنائية المستخدمة للتعاطي مع التهديد الأمني يمكن أن تؤدّي إلى تدهور المعايير الديمقراطية. فيتم التخوّف بشكلٍ خاص من أن يؤدّي استمرار هذه التدابير إلى التضييق على الحريات العامة وحرية الصحافة والإعلام، وإعاقة العملية الديمقراطية الصعبة في البلد. ومع أنه لا يتّضح كيف ينظر المفكّرون الأردنيون في الخارج إلى "نموذج الأمننة"، لا شكّ في وجود جمٍّ من المعلومات التي يتشاركها أولئك الموجودون في الخارج مع من يقيمون في الوطن، وتُظهِر وسائل التواصل الاجتماعي المشاهد الحاصلة في الأردن.
لكن رغم ما قد يشكّل هواجس حقيقية، تشير استطلاعات الرأي المتوافرة إلى أنّ أغلبيةً كبيرةً من الأردنيين (77.9 في المئة) راضية عن أداء الحكومة خلال الأزمة. ويشير ذلك إلى أن معظم الأردنيين، على الأقل حتى الآن، يرون أن المقايضات جائزة وتختلف عن الحسابات الصعبة التي قامت بها معظم البلدان. وتبقى معرفة إذا ما كان هذا الدعم سيدوم إذا استمرت هذه القيود.
في غضون ذلك، يمكن أن يستند الأردن إلى النجاح الذي حققه في مواجهة الوباء عبر عملية الأمننة القصيرة المدى التي اعتمدها، مع ضمان عدم تحول هذه الأمننة إلى حالة مستمرة، ومواصلة طمأنة الناس، من خلال اتّباع استراتيجيتين: فيجب أن تُزيل الدولة أولًا كافة المظاهر العسكرية تدريجيًّا من الشوارع العامة، لا سيما داخل المدن والمجتمعات وأماكن العمل والتسوق، بالإضافة إلى إزالة مظاهر حضور القوات العسكرية. ولا بد من الإعلان عن هذه الخطوات علنًا عبر المؤتمرات الصحافية التي يقوم بها "المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات" ووزير الدولة لشؤون الإعلام ووزير الصحة، والتي كانت تُجرى يوميًّا منذ بداية الأزمة. أما المفتاح الثاني فهو استئناف العملية السياسية. فكان من المقرر إجراء الانتخابات العامة للنواب في الأردن في شهر أيلول/ سبتمبر. وأكّد الملك عبد الله الثاني أن هذه الانتخابات ما زالت ستُقام في أواخر شباط/ فبراير. وعلى البلاد الآن ضمان استمرار العملية السياسية بالفعل، ولو عن طريق تنفيذ معايير السلامة الملائمة.
إن إجراء الانتخابات في الوقت المحدد سيوصل رسالة سياسية هامّة هي أنّ الأردن بلدٌ قويٌّ قادرٌ على التعامل مع الوباء وفي الوقت نفسه مواصلة عملياته السياسية النموذجية. وسيزيد كلٌّ من انسحاب القوات العسكرية وإجراء الانتخابات التأكيد على أنّ استراتيجية الأمننة في الأردن لم تُطبَّق سوى عند الضرورة، ولن تعيق بشكلٍ دائم الحريات المجتمعية في البلد على المدى الطويل.