خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمصر؛ نشر مؤيدي ومعارضي السيسي صور لمراكز اقتراع محتشدة وأخرى للجان فارغة. ولم يكتفى معارضي السيسي فقط بنشر صور اللجان الفارغة وقصص الحشد الإجباري من قبل الجهاز الحكومي؛ بل إنهم تحركوا أبعد من ذلك، متهمين كل من شارك أو صوت بأنه "قواد، أفاق، مرتزق، ووصولي."
وترسخ تلك الاتهامات في الأذهان صورة لرجل يحكم بالحديد والنار، وأن أي شخص يدعمه إما خائف أو مقموع أو باحث عن مكاسب شخصية. ولكن ليس من الدقة أو النزاهة القول بأن السيسي لم يعد لديه أي دعم شعبي؛ فالاعتقاد بأن كل مؤيد للسيسي هو "قواد" وصولي؛ هو اعتقاد خاطئ، ولعل ما ساهم في خلق ذلك الانطباع عن أنصار السيسي هو طريقة تعامل الإعلام، فكثير من الذين يملؤون الشاشات وصفحات الجرائد مدحا في الرئيس اليوم، هم أنفسهم من سبحوا بحمد الإخوان، ولو تولى الحكم غدا، يساري فسوف ترى أغلبهم يحملون صور ماركس يطوفون بها الشوارع.
إن هؤلاء "الإعلاميين" ليسوا سوى مؤيدين للسلطة بغض النظر عن صاحب هذه السلط، ولذلك لا يمكن التعويل عليهم أو حصر أنصار السيسي عليهم، فهناك أطياف أوسع من المجتمع تقف معه لأسباب مختلفة. ولفهم المشهد السياسي المصري الراهن؛ يستوجب علينا تقسيم تلك الأطياف بشكل يسمح لنا بالوقوف على حقيقة الأسباب الكامنة وراء دعمهم للرجل. وتشمل تلك الأطياف العاملين بمؤسسات الدولة خاصة (الشرطة، الجيش، القضاء)، والأقباط، وحزب الكنبة.
أولاً: مؤسسات الدولة
1- الشرطة
يمثل رجال الشرطة وأسرهم نسبة لا بأس بها من الشعب، فهم وأسرهم يشغلون مراكز مؤثرة وحساسة في الشارع. أغلب رجال الأمن يدينون بولاء للرجل الذي أعاد لهم هيبتهم في الشارع التي تآكلت بفعل ثورة 25 يناير وما تلاها من حرق مقرات الداخلية، الهيبة التي تعد أبرز ما تميز به الضباط على مر العصور في مصر، واستعادتها يمثل نوعا من "الجميل"؛ يستوجب تقديم الشكر والعرفان للسيسي من الضباط وأسرهم على حد سواء.
2- القوات المسلحة
ضباط وصف ضباط القوات المسلحة وأسرهم لديهم أسباب أخرى لدعم السيسي وتأييده، فالرجل رفع مرتباتهم بشكل ملحوظ، كما أنه أعاد ترتيب هرم القيادة مرة أخرى، معيدا للبذلة العسكرية مكانتها التي فقدتها، لصالح الداخلية في الشارع خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، والأهم من ذلك، أن السيسي نجح في ربط نفسه "كحاكم" بالمؤسسة العسكرية، وبذلك ترسخ شعور في العقل الجمعي أنه "واحد مننا"، وعليه فدعمه وتأييده من وجهة نظرهم، هو واجب وطني يتجاوز شخصه، لأنه دعم للدولة وللجيش الذي يحميها في الأساس.
3- القضاء
هناك أيضا شريحة تشمل القضاة ووكلاء النيابة، والذين من المفروض عليهم عدم الاقتراب من السياسية وأهلها، بل و"محرم" عليهم التورط فيها، إلا أن التوسع في أحكام الإعدام والحبس في قضايا ذات طابع سياسي، بشكل غير مسبوق (900 حكم إعدام خلال 4 سنوات)، خلق انطباعا لدى البعض أن القضاة يقفون مع الرئيس، و يدعمونه في صراعه ضد معارضيه، وقد تعزز هذا الشعور؛ بما ترسخ في السابق من صدام علني بين القضاء والرئيس الأسبق محمد مرسي إبان فترة حكم، والذي وصل إلى حد محاصرة المحكمة الدستورية في يناير 2013 من قبل أنصاره الذين منعوا يومها، القضاة من الدخول ومباشرة عملهم؛ للفصل في الدعوى المطالبة ببطلان مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور.
ثانياً: الأقباط
السواد الأعظم من الأقباط يؤيد الرئيس السيسي، بل ويحبه، فالرجل يمثل لهم "المُخلص" من خطورة حكم الإسلاميين، التي دفعت الكثير منهم لترك البلاد؛ بعد ثورة 25 يناير وصعود تيار الإسلام السياسي الذي أصبح آنذاك، متصدرا للمشهد السياسي، في عام 2012، حيث دعا السلفيون بعدها إلى مليونيه "الحفاظ على الهوية الإسلامية لمصر". وقد كان ذلك المشهد مرعبا للأقباط، وهم يرون الأعلام السعودية والرايات السوداء ترتفع في التحرير، ومنظر اللحى والجلابيب القصيرة، وهتافات "قادم، قادم يا إسلام" تصم الآذان. فوصول الإخوان للحكم، وسيطرتهم مع السلفيين على البرلمان كلها عوامل ساهمت بشدة في ذعر الأقباط، وتعاملهم مع السيسي كمُخلص لهم. ومن جانبه، نجح السيسي في تقديم خطاب أفضل من سابقيه للأقباط، فهو يتحدث عنهم بمودة أكبر، مؤكدا دوما، على أنه مسؤول عن كل قبطي يذهب للكاتدرائية في الأعياد، كما أنه كان دائم التأكيد أمام الكاميرات، على أن يكون بناء الكنائس في المدن الجديدة متاحا.
وباختصار، لقد نجح الرجل في إرسال رسائل طمأنة للقطاع الأكبر من الأقباط، وبذلك ضمن ولاءهم ككتلة داعمة لا يستهان بها، وطبعا، هناك نسبة من الأقباط المعارضين له، أغلبها من الشباب الذين يغلب عليهم الميل الثوري، ومن الرافضين لسطوة الكنيسة والدولة، لكن الغالبية العظمى من الأقباط يدعمون الرئيس ويحبونه.
ثالثاً: حزب الكنبة
أما حزب الكنبة، فهم الكتلة الأهم والأكبر بين أنصار السيسي، ولقد أطلق عليهم الإعلام هذا اللقب "حزب الكنبة"؛ للدلالة على أولئك الأشخاص العاديين غير المنخرطين في الحياة السياسية أو المشتبكين بقوة مع الشأن العام. والذين غالبا ما تكون روافدهم المعرفية هي بالأساس، برامج "التوك شو". فهؤلاء لا يُدفعون إلى الإذعان السياسي بسبب الخوف من الاعتقال أو التصفية، إذ لا يشكلون تهديدًا أمنيًا بأي شكل من الأشكال يبرر استهدافهم. فهم لهم مخاوف أخرى: منهم فصيل يخشى أن تواجه مصر مصير سورية والعراق، حيث شبح الحرب الأهلية ومناظر طوابير اللاجئين. لقد ربطوا - بفعل الخوف والإعلام - بين الثورة والحرب الأهلية، لتصبح كلمة "التغيير" مرعبة منبوذة، حلت محلها كلمة "الاستقرار"، وتم بشكل مباشر ربط الاستقرار بالجيش الذي تم ربطه بالسيسي، لتصبح القناعة المترسخة في العقل الجمعي، أن وجود السيسي (ومعه الجيش) هو الضمان الوحيد لحماية البلاد من مصير سوريا والعراق، وعليه فدعمه السيسي هو دعم لبقاء مصر وحمايتها.
وهناك فصيل آخر أصابه الذعر من برلمان اللحى والآذان، حيث انتابهم شعور بأن مصر على مشارف التحول لإيران أخرى. نسبة كبيرة من هؤلاء كانت من مؤيدي الثورة، لكن بعد مضى عامين وشعورهم أنها سرقت من قبل الجماعات الإسلامية التي لا تقبل بالدولة المدنية والتي تسعى إلى فرض حكم ديني في مصر؛ دفعهم إلى دعم حركة "تمرد" وإلى الانضمام إلى التظاهرات المناهضة التي أدت إلى الإطاحة بحكم الإخوان. هذا الفصيل يميل إلى السيسي ويؤمن بأن غيابه يعني عودة الإخوان، خاصة مع اندحار "التيار المدني" الذي لم يستطع حتى تقديم تصور متماسك عن المستقبل.
إننا اليوم، أمام رئيس مدعوم بمؤسسات حيوية وهامة، فرغم تردي الأوضاع الاقتصادية في عهده والتي أثرت بشكل كبير على شعبيته، إلا أنه مازال يحظى بتأييد نسبة غير قليلة من الأقباط والأغلبية المسلمة. المفارقة هنا، هو إصرار معارضيه على أنه يحكم بقوة السلاح فقط، من غير أي ظهير شعبي، والأغرب من ذلك، أنهم بدلا من التحرك في المناطق الدافئة لجذب أنصار جدد، فإنهم يعملون على سب وشتم كل من يؤيد السيسي، ونعته بالنفعي والوصولي، متجاهلين أن الخوف من الحكم الديني أو مصير سورية والعراق هو خوف طبيعي منطقي له ما يبرره، ويقتضي خطاب الطمأنة والشروحات الهادئة الرزينة بدل خطاب الشتم والسخرية.