- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
إنتاج العسل اليمني: حرفة قديمة تلفت انتباه العصر الحديث
لا شك أن دعم التنمية الاقتصادية وسُبل العيش يُعدان وسيلة لإخراج اليمن من دائرة العوز والصراع، لكن في الوقت نفسه ينبغي ربط تلك التنمية بثقافة المجتمع وتحدياته البيئية لجعلها أكثر استدامة.
في شهر نوفمبر من كل عام، يتجمع مربو النحل في محافظة حضرموت، جنوب شرق اليمن، لجني عسل السِدر، ليواصلوا بذلك حِرفة مارسها أجدادهم منذ القرن العاشر قبل الميلاد على الأقل، لكنها ترزح اليوم تحت وطأة الحرب، والتدهور البيئي، وممارسات الجنى غير المستدام. ومن ثم، وفي ضوء الظروف المحلية والعالمية التي لا يمكن التنبؤ بها، يُشكل موضوع التنمية المستدامة أمر حيويا.
يُعد شهر نوفمبر من كل عام موسم الحصاد المتأخر الأول لعسل السِدر في حضرموت، الذي يبدأ باكِراً، في سبتمبر، في محافظات أخرى مثل عمران وصعدة. لا تزال مواسم جني العسل كما هي، منذ قرون، لكن الحرب المستمرة في اليمن منذ 2014 تجعل هذه الحرفة صعبة ومهددة.
يُعد عسل السدر أجود وأغلى أنواع العسل اليمني الشهير، وتُعد محافظة حضرموت الأكبر من حيث الإنتاج لمختلف أنواع العسل في البلاد. يُقدر حجم التداول في سوق العسل في اليمن بحوالي 500 مليون دولار سنوياً، كما يوفر قطاع النحل دخلاً لحوالي 100 ألف مربي نحل في مختلف المحافظات اليمنية. ارتفع إنتاج العسل في اليمن من 679 ألف طن في 2002 إلى 2.614.000 طن في 2013، لكنه اليوم يُقدر فقط بـ 1500 طن. ونتيجة الأوضاع الاقتصادية المزرية، يدخل المزيد من الأفراد إلى قطاع تربية النحل في محاولة لتغطية نفقاتهم. ومع تزايد الداخلين في قطاع تربية النحل، تتناقص المراعي ويقل الإنتاج، ويفاقم الصراع وتغير المناخ تدهور حالة القطاع الحيوي الذي يعد فخر اليمنيين.
علاوة على ذلك، تسلط قصص مربي النحل في اليمن الضوء على الوضع المزرى الذى تمر به هذه الحرفة. لقد عاد مربي النحل سعيد كنيد من المملكة العربية السعودية إلى مسقط رأسه، وادي العين في حضرموت، مفضلاً تربية النحل عن الاغتراب، أما أحمد بن بكر، من وادي العين أيضاً، فهو يعمل في تربية النحل منذ خمسين عاماً، وهي أكثر من مجرد حِرفة بالنسبة له؛ فهو إرث الآباء وذكريات الصبا. التقيت بسعيد وأحمد في حقل فسيح للنخيل في وادي العين هذا الموسم أثناء جني العسل، وتبين لي كم هو كبير حجم التحديات التي يواجهونها، وكيف أن الصراع وتراجع القدرة على الصمود يهددان بالفعل مهنة تُعد ممارستها جزءاً من هوية اليمنيين وتراثهم الثقافي.
عندما يواجه مجتمع ما خطراً محدقاً بتراثه الثقافي الحي فإنه لا يصبح ضحية لتراجع التنمية الاقتصادية وسبل العيش فحسب، بل أيضاً أكثر عرضة لمخاطر التفكك الاجتماعي والصراع، وهو آخر ما يرغب به المرء لليمنيين الذي يعيشون بالفعل عدم استقرار منذ أكثر من عقد من الزمان. عندما يفقد المجتمع الإحساس بالهوية، جزئياً نتيجة عدم استمراره في ممارسة المهارات والمعارف المتوارثة، والتي تمنحه الإحساس بالفخر والانتماء أيضاً، فإنه يخاطر بتعريض فئات متنوعة منه للاغتراب وحتى التهميش، ويترك الأفراد، وحتى مجتمعات بأكملها، على غير هدى وسط حالة من عدم اليقين.
لطالما كان العسل غذاءً أساسياً لليمنيين، إنه جزء من الفطور، خصوصاً في فصل الشتاء، وطعاماً مغذياً للمرأة، بالذات بعد الولادة، وللتحلية، ومكوناً أساسياً للعديد من الوصفات في المطبخ اليمني. ناهيك عن كونه علاجاً شعبياً للعديد من الأمراض، ولا تقتصر الفوائد العلاجية - كما يقول أحمد بن بكر - على العسل وحده، فحتى لسع النحل مشهود له بعلاج آلام الركبة وفقاً لتجربته وتجارب آخرين. تزداد الثقة في العسل كغذاء وعلاج بفضل مباركة القرآن الكريم له، والذي يُعد مصدراً أساسياً للعديد من ثقافات اليمنيين الراسخة. علاوة على ذلك، تشير أدلة علمية إلى منافع العسل في التخفيف من أمراض الجهاز الهضمي، كما أن له فوائد مضادة للاكتئاب ومضادة للاختلاج ومضادة للقلق.
إلى عهد قريب، كما يحكي أحمد بن بكر وآخرون، كان الإنتاج الوفير للعسل يدفع مربي النحل إلى إهداء كميات منه إلى الجيران والأحباء في أوقات المواسم، ولا شك أن لذلك دور حيوي في التماسك الاجتماعي. كما لم تكن تربية النحل بغرض التجارة، بل غالباً لممارسة هواية تربية النحل بحد ذاتها أو كمصدر غذاء للأسرة. أما اليوم، فبالكاد يحصل مربي النحل على ما يكفي من الإنتاج لتحقيق الربح الذي أصبح هدفاً أساسياً للتربية بسبب تراجع الوضع الاقتصادي في البلاد. يمكن لهذا التحوّل في ممارسة حرفة تربية النحل أن يفقدها عنصرها التراثي الثقافي ويعرضها لخطر الاستغلال التجاري المفرط، وبالتالي تقليل قيمتها كعنصر تراثي ثقافي يجمع الناس في هدف وتاريخ مشترك وعلاقات اجتماعية راسخة.
يلاحظ بكر أن البطالة تدفع الشباب إلى امتهان تربية النحل كمصدر للدخل، وهي ملاحظة يتفق معه فيها العديد من المراقبين وتدعمها قصص مشابهة. وفي حين أن توفر فرص عمل شيء جيد بلا شك، إلا أن تعريض إنتاج العسل لمخاطر عدم الاستدامة يُعد معضلة حرجة؛ إذ إن تزايد الإقبال على تربية النحل وتناقص الغطاء النباتي في اليمن والأحداث المناخية المتطرفة والتكاليف العالية لا تجعل من تربية النحل حرفة شديدة المخاطرة فحسب، بل تهدد باختفائها في يوم من الأيام.
يفقد اليمن غطاءه النباتي بشكل غير متناسب مع تعويض الفاقد منه؛ بسبب تزايد الإقبال على الحطب كوقود بديل لغاز الطبخ ونتيجة الرعي الجائر. تشير التقديرات إلى أن اليمن فقد ستة ملايين شجرة منذ بداية الحرب في 2014. يعتمد النحل على رحيق الأزهار لإنتاج العسل؛ وعندما يقل الغطاء النباتي، ويزداد عدد مربو النحل في نفس الوقت، لا يعد النحل المتنافس على الأشجار المتناقصة قادراً على إنتاج ما يكفي من العسل. ينبغي أن يترافق تزايد الاقبال على حرفة تربية النحل وإنتاج العسل مع زراعة المزيد من الأشجار بشكل متناسب.
تتسبب التغيرات المناخية في اليمن بالعديد من الظواهر المناخية المتطرفة مثل السيول والفيضانات، وحتى الموجات الطويلة من الجفاف. وبالرغم من أن مستوى معقول من الأمطار يُزهر مراعي النحل، إلا أن تزايد شدتها ووتيرتها، خصوصاً في أوقات جني العسل، يعيق النحل عن الرعي وإنتاج العسل، كما قد تجرف السيول المفاجئة بيوت النحل المتواجدة في الوديان مما يعرض ملاّكها لخسائر فادحة. يعتمد مربو النحل في اليمن على نقل النحل من مكان إلى آخر بحثاً عن المراعي المزدهرة؛ لكن هذه الرحلات تصبح أكثر كلفة نتيجة ارتفاع أسعار الوقود، كما تصبح أكثر خطورة نتيجة حقول الألغام أو عند الاقتراب من خطوط النار في بعض المناطق.
لا شك أن دعم التنمية الاقتصادية وسُبل العيش يُعدان وسيلة لإخراج اليمن من دائرة العوز والصراع، لكن في الوقت نفسه ينبغي ربط تلك التنمية بثقافة المجتمع وتحدياته البيئية لجعلها أكثر استدامة، وهو أمر يمكن تحقيقه من خلال نهج شامل يجمع بين بناء قدرة المجتمع على الحفاظ على التراث الثقافي الحي مع حماية البيئة أيضاً. وتشمل الخطط الخاصة بهذين المجالين، على سبيل المثال لا الحصر، تدريب الممارسين - والمجتمع المحلي - على الممارسات التقليدية بطرق أكثر كفاءة، ونقل المعرفة والمهارات المرتبطة بتراثهم الثقافي الحي إلى الأجيال الشابة، وزيادة الوعي بأهميته ووظيفة الاجتماعية. علاوة على ذلك، ينبغي الاستثمار في حماية البيئة لجعلها أكثر استدامة، مثل زراعة المزيد من الأشجار التي توفر مراعي خصبة للنحل، وإنشاء مستجمعات المياه المناسبة، وبناء السدود والحواجز المائية.
ينبغي أن تكون المجتمعات المحلية ومجتمعات الممارسين، مثل النحالين، منخرطة بفعالية في تخطيط وتنفيذ تلك الاستراتيجيات؛ إذ يجب ألا يكون الهدف من التدخلات توفير الموارد للجيل الحالي من خلال نهج من أعلى إلى أسفل، بل أيضاً تأمين موارد معقولة لجيل الغد من خلال نهج من أسفل إلى أعلى عبر المشاركة المجتمعية من أجل سلام واستقرار أكثر ديمومة ورسوخاً.
Photo courtesy of the author