- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
عباس وادعاء الخزر: فصل الأسطورة عن الحقيقة
ينبغي أن يكون الدرس المستخلص هو أن الأمر يستدعي المزيد من البحوث لإلقاء الضوء على هذا الفصل شبه المنسي من التاريخ. وحدها المعلومات الدقيقة يمكن أن تساعد في إخراج الخزر من كنف الغموض حتى يتم فهمهم في السياق التاريخي الصحيح.
يثير رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الآن وعلانية ادعاءً قد طُرح جانبًا منذ زمن بعيد يهدف إلى إنكار حق إسرائيل في الوجود، وهو الحق الذي اعترف به الرئيس السابق ياسر عرفات باعتباره ركيزة أساسية من ركائز "اتفاقيات أوسلو". فقد قال عباس في خطاب ألقاه في 24 آب/أغسطس أمام المجلس الثوري لحركة "فتح" المنعقد في رام الله إن اليهود الأشكناز الذين قاد أسلافهم الحملة الصهيونية لإنشاء الدولة اليهودية لا يتحدّرون من القبائل العبرية القديمة، أي بني إسرائيل في العهد القديم، وبالتالي لا يحقّ لهم المطالبة بالأرض المتنازع عليها.
وبينما أفاد عبّاس أيضًا بأن هتلر لم يقتل اليهود "سوى لأنهم عملوا كمرابين للمال"، فقد تبنى النظرية المدحضة علميًا بأن يهود أوروبا جاؤوا منذ آلاف السنين من إمبراطورية الخزر التي تقع في جنوب شرق أوروبا المعاصرة، واعتنقت سلالتها الملكية وطبقتها الأرستقراطية شكلًا من أشكال اليهودية بحسب ما أوردته مصادر من القرون الوسطى، وأعلن قائلًا: "الحقيقة التي يجب أن نوضحها للعالم هي أن يهود أوروبا ليسوا ساميين ولا علاقة لهم بالسامية. فقد بدأت القصة في عام 900 ميلادي، وفي مملكة الخزر بحر قزوين، وهي إمبراطورية تتارية أصبحت يهودية، خرج سكانها جميعًا باتجاه الشمال والغرب وذهبوا إلى روسيا وأوروبا الغربية وأوروبا الشرقية وانتشروا هناك، وهؤلاء هم أصل اليهود الأشكناز".
يبدو أن عباس، من خلال إثارته هذه القضية، يتراجع عن الرسالة التي وجهها عرفات إلى رئيس الوزراء رابين بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر 1993 قبل أربعة أيام من حفل التوقيع في البيت الأبيض، ويصعّد حملته لنزع الشرعية عن ركيزة الروابط اليهودية بالأرض المقدسة. وقد جاء في رسالة عرفات: "تعترف منظمة التحرير بحق دولة إسرائيل في الوجود في سلام وأمن... إن منظمة التحرير تؤكد أن بنود الميثاق الوطني الفلسطيني [لعام 1968] التي تنكر حق إسرائيل في الوجود، وبنود الميثاق التي تتناقض مع الالتزامات الواردة في هذا الخطاب، أصبحت الآن غير ذات موضوع ولم تعد سارية المفعول". ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الادعاءات ليست بجديدة - بل لها تاريخًا خبيثًا خاصًا بها - ولكن فصل الأسطورة عن الحقيقة عندما يتعلق الأمر بالخزر ينزع شرعية هذا الادعاء.
وتجدر الإشارة إلى أن حقائق عباس بشأن سلالة الخزر خاطئة، إذ لم يكن الخزر من التتار، بل هم أتراك، ووفقًا لمعظم المؤرخين، اعتنقوا اليهودية في مرحلة ما بين العامين 740 و865 م. كما أخطأ رئيس وزرائه محمد اشتية في تواريخه عندما أعلن في 26 حزيران/يونيو 2021 أن "يهود اليوم هم من يهود الخزر الذين تهوّدوا في القرن السادس". وبغض النظر عن المغالطات التاريخية المتعلقة بسلالة الخزر نفسها، فإن التصريحين هما نتاج اتجاه تاريخي أكثر حداثة وخطورة ويعيدان إحياء المسألة التي طرحها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد لمواجهة مسوّغ إقامة وطن لليهود. كما تأتي هذه الأقوال في سياق الكثير من الكتّاب العرب الذين أصدروا على مدى العقود الخمسة الماضية عددًا من المجلدات التي تعرّف المجتمعات الأشكنازية كلاجئين بعد تدمير خزر كاغاناتي على يد الأمير سفياتوسلاف أمير كييف في حوالي عام 965م.
لم يقتصر الترويج لهذه الرواية على السياسيين الفلسطينيين والسوريين، بل انضم الكثير من المثقفين المصريين والسعوديين واللبنانيين إلى القافلة إذ استرعتهم الرواية التي تحرم اليهود المعاصرين من الدم اليهودي والتاريخ اليهودي في فترة ما قبل العصور الوسطى، علمًا أن الكتب التي تتناول هذا الموضوع لا تزال معروضة للبيع في جميع أنحاء المنطقة، وهذه النظريات متاحة على نطاق واسع عبر الإنترنت.
إن هذا النهج متجذر بعمق في موضوع شائع على نطاق واسع وهو معاداة السامية في الاتحاد السوفياتي والذي ساد في الكثير من المؤسسات التي درس فيها عدد من المثقفين العرب. ففي دولة أصبح فيها التاريخ خاضعًا للأيديولوجية السائدة، صوّر المؤرّخون السوفياتيون اعتناق الخزر لليهودية على أنه مهانة للرّوس وأنه سمّم قيمهم ومعتقداتهم وزرع الفساد في المجتمع. وفي مقالة شهيرة نُشرت في صحيفة برافدا (في عام 1951) تحت الاسم المستعار "إيفانوف" - يُفترض أنه ستالين نفسه - تم طرح ادعاء مفاده أنه سيكون من "العار" قبول أن تحكم إمبراطورية يهودية المنطقة الشاسعة الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود قبل ظهور الأمراء الروس الأوائل. وقد صار ذلك التفسير الرسمي للخزر، الذي اختلط بشكل خطير مع الاتهامات المعاصرة بوجود "مؤامرة قومية يهودية".
ولعلّ عباس اطّلع على هذه المفاهيم أثناء كتابته رسالة الدكتوراه في موسكو التي تنكر حادثة المحرقة الجماعية بعد عشرين عامًا. ومن الناحية العملية، ربطت مثل هذه الادعاءات المجتمع اليهودي الروسي بماضي اعتبرته الدولة حقيرًا، في حين قامت بتَثْبيط البحث الأكاديمي الجاد حول هذا الموضوع حتى يومنا هذا. تم منع إجراء عمليات حفر في مواقع الخزر بينما جرى تخزين النتائج التي عُثر عليها سابقًا في أقبية المتاحف ولم يتم عرضها قطّ أو تم وصفها على أنها مرتبطة بثقافات أخرى، ما يحول في كثير من الأحيان دون إجراء بحث لاحق في معتقداتهم ومجتمعاتهم الفعلية. ومن الجدير بالذكر هنا أن قلعة ساركل الخزرية الرئيسية غرقت تحت بحيرة صناعية على نهر الدون. وقد أصبح السباق لاكتشاف عاصمة الخزر الأسطورية، إتيل، القابعة في مكان ما في دلتا نهر الفولغا (أو الغارقة تحت مياه بحر قزوين الآخذة في الارتفاع) دائرًا الآن في الغالب بين فرق "غير رسمية" من علماء الآثار، بينما يتم تهريب كميات كبيرة من القطع الأثرية المستخرجة من القبور (الكورغان) إلى أوروبا الغربية لضمها إلى مجموعات خاصة.
في الوقت عينه، استند ستالين إلى تاريخ عميق من السياسة الروسية التي تستهدف اليهود بشكل واضح، من بينهم أولئك المتهمون بالتخطيط "لمؤامرة قومية يهودية".
وكان لبعض المنشورات غير العلمية التي أصدرها كتّاب يهود تأثير كبير في الترويج لوجهة النظر القائلة إن أصول الأشكناز تركية وليست يهودية، وفي مقدمتهم الصهيوني الراحل آرثر كويستلر وكتابه "القبيلة الثالثة عشرة" (1976)، ومؤخرًا، وبدرجة أقل بكثير، شلومو ساند "غير الصهيوني" وكتابه "اختراع الشعب اليهودي" (2008). وفي العالم العربي، وخصوصًا في أوساط الفلسطينيين، اعتُبرت هذه المنشورات المثيرة للجدل على أنها اعتراف من قبل بعض اليهود بأن الادعاء قائم على وقائع.
لكن من وجهة نظر أكاديمية، تدحض الدراسات الوراثية الشاملة وكذلك الأبحاث اللغوية مرارًا وتكرارًا النظرية القائلة بأن يهود أوروبا متفرعون من الخزر الذين اعتنقوا اليهودية. فقد هرب الكثير من اليهود من الإمبراطورية البيزنطية إلى مناطق الخزر المشهورة بالتسامح بسبب تعرضهم للاضطهاد الديني. وهم لا يتحدّرون من أصل تركي. وفي هذا الإطار، توصل أعظم باحث في بداية التاريخ الروسي، الراحل أوميلجان بريتزاك الأوكراني، إلى استنتاج مفاده أن عدد الخزريين الذين اعتنقوا اليهودية لا يتجاوز 30 إلى 40 ألفًا، وهو رقم لا يمكن أن يفسر النمو السريع لمجتمعات أوروبا الشرقية والوسطى، ولا الدليل على الوجود اليهودي في أوروبا قبل سلالة الخزر. في الواقع، باستثناء عدد قليل من شواهد القبور التي تحمل بصمات الشمعدان (المينوراه) في شبه جزيرة كيرتش وشبه جزيرة القرم وتامان، لم يتم العثور على أي آثار يهودية في مناطقهم، كما لا تزال العملات المعدنية التي تم العثور عليها في السويد والتي تحمل عبارة "لا إله إلا الله وموسى رسوله" التي تستخدم لربط الخزر بمفهوم اليهودية، محل نقاش بين الأكاديميين.
وبدلاً من ذلك، يأتي الكثير من الارتباط بين الخزر واليهودية من وثائق العصور الوسطى التي نشأت من خارج أراضي الخزر. وفي هذا السياق، يرى مؤرخون موقّرون، أبرزهم الأستاذان موشيه جيل وشاول ستامفر، أن جميع مؤلفات العصور الوسطى المتعلقة بتغيير الدين - سواء الوثائق العبرية أو روايات الرحالة المسلمين - تعكس تقاليد خيالية غير مؤكدة أو، في بعض الحالات، تمثل افتراءات وأوهامًا وليس وقائع العصر. وبطبيعة الحال، هناك أولئك الذين لا يستطيعون تجاهل مجموعة الأدلة الكبيرة التي تشير إلى أن بعض الخزر اختاروا ممارسة شكل ما من أشكال اليهودية، وعلى سبيل المثال لا شكّ في أن المسلمين كانوا يشكلون الأغلبية في إتيل ويشكلون القوة العسكرية الرئيسية في كاجان.
لقد غذّت القصة المذهلة عن إمبراطورية الخزر خيال أجيال من اليهود وأثارت السخط في روسيا، وبدأ يتم استخدامها مرة أخرى كسلاح سياسي متمثل بتفسير تاريخي زائف للسبب الذي يُبطل وجود إسرائيل. وللأسف لا يتم تعليم هذا الأمر في المدارس أو الأوساط الأكاديمية في إسرائيل ذاتها. أما في العالم العربي، فيتم استخدامه للتأكيد على أن "العرب واليهود ليسوا أبناء عمومة" وأن "يهود اليوم لا علاقة لهم بإبراهيم"، بحسب ما كتب صحافي سعودي.
وفي الوقت عينه، ينبغي أن يكون الدرس المستخلص هو أن الأمر يستدعي المزيد من البحوث لإلقاء الضوء على هذا الفصل شبه المنسي من التاريخ، وكذلك المزيد من الحفريات وإلقاء نظرة جديدة على ما عُثر عليه سابقًا. وحدها المعلومات الدقيقة يمكن أن تساعد في إخراج الخزر من كنف الغموض حتى يتم فهمهم في السياق التاريخي الصحيح. ولكن أيًا كان الواقع التاريخي، فلا علاقة للخزر بالصراع الحالي، ولكن عباس اختار المسار الخطأ.