- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بعد عامين من الحراك الجزائري … ما الذي تحقق؟
تحتاج حركة الحراك المنقسمة في الجزائر إلى قدر أكبر من الوحدة حتى يتسنى لها تقوية المؤسسات الديمقراطية الحقيقية.
قبل عامين، أطاحت حركة الحراك الجزائرية بمشروع الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، بعد حٌكم دام عشرون عاماً. حركة الحراك هي انتفاضة شعبية غير مسبوقة في التاريخ الجزائري هزت الجزائر ودفعت بالآلاف إلى الشوارع للاحتجاج. ثمة تساؤلات بارزة في المشهد السياسي الجزائري، حول ماذا تحقق بعد عامين من هذا الحراك الشعبي ؟، هل حقق الجزائريون حٌلمهم في التغيير الجذري للنظام؟، وهل أحدثوا القطيعة قولا وفعلا مع ممارسات النظام السابق الغارق في الفساد؟، وما هي فرص نجاح الحراك في تحقيق كل مطالبه؟ أدت هذه التساؤلات إلى اندلاع تصدعات داخل الحركة وأصبحت تعاني من جدالات وشكوك داخلية. ومع ذلك، ومع استئناف الاحتجاجات هذا العام، فمن المهم أكثر من أي وقت مضى الحفاظ على الطابع الشعبي الموحد للحركة.
ومثلما كان متوقعاً، شهدت العاصمة الجزائر، ومختلف المدن الكبرى تظاهرات حاشدة بمناسبة مرور الذكرى السنوية الثانية للحراك الذي انطلق في الـ 22 فبراير/ شباط 2019. وفي الواقع ثمة مؤشرات عديدة كانت توحي بعودة قوية للحراك الذي توقف لمدة تسعة أشهر بسبب جائحة كورونا، بعد لجوء السلطة إلى إقرار حجر صحي كامل على البلاد مطلع شهر مارس/ آذار 2019، كما جعلت السلطة هذه المناسبة للاحتفال بما أسمته (ذكرى التلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية (، في رسالة واضحة لدور المؤسسة العسكرية خلال المرحلة التي أعقبت الإطاحة بالرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة.
وعلى الرغم من موقف المؤسسة العسكرية المؤيد للديمقراطية خلال العامين الماضيين إلا أنه كانت هناك حالة من عدم الرضا بين قطاعات واسعة من الجزائريين عن الإصلاحات السياسية التي أقرتها السلطة ، حيث انعكس ذلك في تدنى نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي عقدت في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2019 ، حيث لم تتجاوز 39.8% في المائة، وتم بعد ذلك وضع دستور جديد للبلاد، في عملية أيضا شهدت مقاطعة واسعة من طرف الجزائريين بنسبة اقتراع لم تتجاوز الـ ، 23.7 % ثلثهم صوت بلا للدستور المقترح، ما يطرح تساؤلات وانتقادات بشأن مسألة شرعية الدستور والرئيس المنتخب.
يوضح هذا التراجع الملحوظ في نسبة المشاركة أن الحكومة لم تنجح بعد في استرضاء المحتجين مهما بذلت من محاولات، فبعد أن نجح الحراك في إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة، وضعت الحكومة خارطة طريق للاستجابة لمطالب ملايين المحتجين كل جمعة في العاصمة، وكبريات المدن، تتضمن عدة قرارات أبرزها تدشين حملة كبيرة لمتابعة الفاسدين من رموز النظام، من أمثلة أحمد اويحي وعبد المالك سلال، والفريق محمد مدين المشهور بلقب الجنرال توفيق، رفقة الجنرال طرطاق. كما طالت الحملة السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، والذي اتهم باستغلال مرض شقيقه، ومنصبه كمستشار في رئاسة الجمهورية لإصدار قرارات وتعيينات غير مشروعة باسم شقيقه المريض.
وبالطبع، لاقت الإجراءات السابقة ترحيبا واسعاً لدى الجزائريين، لكنها بالمقابل كانت بمثابة الصدمة التي كشفت عن هول وحجم الفساد الذي كان مستشرياً داخل دواليب السلطة، ما دفع بالجزائريين للمطالبة والإصرار أكثر على رحيل كل رموز نظام بوتفليقة، باعتبارهم فاسدون جميعاً. ومن ثم، رفض المشاركون في الحراك خارطة الطريق المقترحة من قبل السلطة نظرا لأنهم يطالبون بإجراء بتغيير جذري وكلي للنظام.
ومع ذلك، فإن فضح الفساد المستشري والمطالب المتزايدة من قبل المشاركين في الحراك لم تؤدى الى إحداث أي تغيير جذري، حيث وفر تفشى وباء كورونا هامشاً للسلطة للمناورة، وللتعامل مع الموقف باتخاذ خيارات تحتوي سقف المطالب المرفوعة في الحراك، واتخذت السلطات عدة خطوات للتخفيف من الصدمة غير المتوقعة الناتجة عن حملة مكافحة الفساد. وخلال التسعة أشهر الماضية، تمكنت السلطة من تمرير الدستور الجديد، ووضع قانون انتخابات جديد، كما استبق الرئيس عبد المجيد تبون الذكرى الثانية للحراك بقرار حلّ البرلمان الذي كانت تلاحقه اتهامات كبيرة متعلقة بالرشاوى والفساد في قوائم الترشيحات للنواب خلال انتخابهم، كما أعلن الرئيس تبون عن تعديل حكومي جزئي، وإعلان العفو الرئاسي عن مجموعة من المعتقلين السياسيين، أو معتقلي الرأي.
ونظرا لأن هذه الإجراءات لم تكن كافية لتلبية مطالب ناشطي الحراك، اتهم نشطاء من الحراك النظام القائم باستغلال توقف المسيرات السلمية لتمرير مشاريعها، والالتفاف على مطالب الشعب. علاوة على ذلك، ومنذ خريف 2019، شنت السلطة حملة اعتقالات واسعة للنشطاء، وبلغ عدد المتعلقين أكثر من 65 معتقلاً حسب تنسيقية معتقلي الرأي، حيث أصبحت تهمة إهانة مؤسسة نظامية تلاحق كل ناشط انتقد النظام السياسي عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وبالفعل أصبحت قضية نشطاء الرأي من أبرز القضايا التي عصفت بالثقة ما بين السلطة والحراك، كما أن التضييق الممارس على وسائل الإعلام كان سبباً في عدم اقتناع نشطاء الحراك بنوايا السلطة في الاستجابة لمطالبهم. وللأسف، أدت تلك القضايا الى إفساد فرصة الحكومة لفتح حوار حقيقي وجدي حول الإصلاح السياسي يشمل الطبقة السياسية والمعارضة المستقبلية. ورغم إعلان النظام عن بدء مشاورات سياسية، إلا أن طريقة التنظيم وإشراك رموز النظام السابق في هذه المناقشات أساءت إلى مصداقيته.
وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية ساد جدل واسع بشأن جدوى العودة للمسيرات، فهناك من يعتبر أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد تستدعي من الجميع التحلي بالمسؤولية، وعدم الدفع بالأوضاع عن تعقيدات قد تهدد الأمن والسلم الاجتماعيين. كما يزعمون أن أي اضطرابات أخرى قد تهدد الأمن والسلام الهشين أصلا في الجزائر. في حين يرى آخرون أن السلطة القائمة تستعمل فزاعة العنف والتهديدات الخارجية للالتفات على مطالب الحراك بإحداث القطيعة الفعلية مع النظام السابق، وليس تغيير أشخاص بأشخاص مع استمرار نفس الممارسات في التعتيم الإعلامي، والتضييق على الحريات، واستمرار حكم الأشخاص على حساب المؤسسات وغيرها من المطالب التي تهدف إلى إقامة دولة ديمقراطية بمؤسسات قوية.
يكشف هذا الجدل الطبيعة المتصدعة لحركة الحراك، فبالإضافة إلى الجدل الدائر حول استئناف المسيرات، لا يتفق نشطاء الحراك أيضًا على شكل الخطاب المستخدم في رسائلهم ومطالبهم. وعلى سبيل المثال، وصف بعض النشطاء بعض مؤسسات الدولة بأنها مؤسسات إرهابية بسبب ممارستها القمع والتعذيب ضد النشطاء وهي الشعارات التي لاقت أيضا انتقادات واسعة حتى من رموز الحراك الذي اعتبروا أن مثل هذه الشعارات تتنافى والشعار الأبرز للحراك وهو السلمية. هذا أيضا يؤشر على وجود تصدع وعدم تطابق الرؤى داخل الحراك ذاته، فالواضح أن هناك محاولات للسيطرة عليه من طرف عدة قوى إسلامية متطرفة، تمثلها شخصيات مقيمة خارج الجزائر، وقوى علمانية داخل الجزائر تتحدث عن محاولات لقيادات إسلامية قيادة وتوجيه الحراك تحقيقاً لأجندتها، وبالمقابل هناك مخاوف توجه للتيار البربري أيضا في نفس السياق.
في الأخير ينبغي التأكيد على أن الحراك الشعبي هو بمثابة علامة فارقة في التاريخ الجزائري الحديث، وسلميته سرٌّ قوته، فليس سهلا أن يجتمع ملايين الناس في مظاهرة وبقعة جغرافية ضيقة في توقيت واحد دون تسجيل ولو حادثة عنف واحدة، الجزائريون عبروا خلال العامين السابقين عن وعي سياسي غير مسبوق، وعلى المؤثرون في الحراك ألا يستدعوا صراعات قديمة لتصفيتها على حساب الحراك، الجزائريون خرجوا قبل عامين من أجل دولة ديمقراطية، يمتعون فيها بهامش واسع من الحريات إعلاميا وسياسيا، وتكون لهم كامل الحرية في اختيار ممثليهم في مؤسسات الدولة بكل شفافية ونزاهة.
وحتى يتسنى الحفاظ على قوة وشمولية حركة الحراك ،يجب أن يتجاوز السياسيون حساباتهم الضيقة، وعلى الكتاب والمفكرون أن يضعوا جانباً خلافاتهم ومشاريعهم الأيديولوجية، والأهم الآن البحث عن وسائل تمكن من انتخاب مؤسسات دولة تحظى بالشرعية، وتكريس قوانين تدفع باتجاه فتح المجال الإعلامي والسياسي، مع بحث بدائل اقتصادية تمكن الجزائريين من تجاوز صدمة أسعار النفط وتحقيق نمو اقتصادي يساعد على تحسين الأوضاع الاجتماعية، وهذا لا يكون إلا عن طريق فتح نقاش حقيقي وواسع لكيفية مجاراة النظام القائم، ومحاولة الضغط عليه، مع ضرورة الابتعاد عن الشعارات الإقصائية أو تلك تستهدف مؤسسات الدولة، فلا يمكن تعميم ممارسات أشخاص على مؤسسات قائمة بذاتها.
وبالمقابل أمام السلطة الحالية وتحديدا الرئيس عبد المجيد تبون فرصة قوية لدخول التاريخ بالمساهمة في الانتقال الديمقراطي الحقيقي والسلس، برفع القيود على الحريات، وفتح المجال الإعلامي والسياسي بشكل يسمح في تنظيم المجتمع بعيدا عن هيمنة النظام، وهو الأمر الذي سيدفع حتما نحو ظهور بدائل توافقية نابعة من إرادة الشعب، توجهها نخب فعلية متحررة، وهو المناخ الذي سيساهم فيه الجميع في إعادة الاعتبار والشرعية لمؤسسات بانتخابات نزيهة تحظى بالشفافية والمشاركة الشعبية القوية.