- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بعد إطلاق شرارة الربيع العربي، هل ما زالت تونس قصة نجاح؟
الجمود السياسي والركود الاقتصادي يختبران الديمقراطية الوحيدة العاملة في العالم العربي.
في 14 كانون الثاني/يناير 2021، احتفلت تونس بالذكرى العاشرة لنهاية نظام زين العابدين بن علي الاستبدادي، بعد ثورةٍ أدت إلى التزام راسخ بعملية التحول الديمقراطي في البلاد. ولكن في حين أحدثت الثورة تغيرات مهمة وتطورات إيجابية على درب الديمقراطية في تونس، ها هو الشعب التونسي يفقد ثقته في الاتجاه الذي تسلكه حكومته في ظل الصعوبات التي تواجهها المؤسسات الديمقراطية التونسية في التعامل مع الجمود البرلماني والضيق الاقتصادي– والبرهان على ذلك هو الاحتجاجات التي انطلقت في شوارع تونس خلال الأيام القليلة الماضية. فقد تتالت أعمال الشغب والتظاهرات في العاصمة وعدة مدن أخرى متحديةً قرار الإغلاق الكامل وحظر التجول في كل البلاد الذي اتخذته الحكومة بسبب وباء "كوفيد-19" وتعبيرًا عن خيبة أمل الشباب بشكل عام. وفي حين أكّد رئيس الوزراء على "شرعية" هذا الغضب، جوبهت الاحتجاجات بأعمال عنف من قبل الشرطة وأدت إلى اعتقال أكثر من 600 شخص تتراوح أعمارهم بين 14 و25 عامًا.
مع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن تونس خطت في العقد الذي تلا الثورة خطواتٍ هادفة وبنّاءة نحو الحكم الديمقراطي، حيث اتسمت العديد من الانتخابات الوطنية والمحلية بالتداول السلمي للسلطة ووُصفت بالانتخابات الحرة والنزيهة على المستويين الوطني والدولي. وخلال السنوات العشر الماضية، انبثق مجتمعٌ مدني حيوي وفعال فلعب دورًا مهمًا في تعزيز الشفافية والفعالية في المؤسسات والعمليات السياسية الناشئة. والواقع أن فعالية المجتمع المدني في تونس بلغت حدًا كبيرًا إلى درجة أن إحدى مجموعات المجتمع المدني، المعروفة باسم "الرباعي الراعي للحوار الوطني" فازت عام 2015 بجائزة نوبل للسلام لمساعدتها على وضع خارطة طريق للانتقال السياسي السلمي في وقت كانت فيه البلاد على مشارف حرب أهلية. كما أشارت منظمة "فريدوم هاوس" أو "بيت الحرية" في تقرير "الحرية في العالم" لعام 2020 إلى أن تونس هي الدولة "الحرة" الوحيدة في العالم العربي.
ويُذكر أيضًا أن الحكومة التونسية الجديدة قامت ببعض الخطوات لتصحيح الانتهاكات المرتبكة في عهد نظام بن علي وتحسينها، حيث دعت إلى تطبيق عملية العدالة الانتقالية في العام 2013 بهدف التصدي للقمع السياسي السابق وانتهاكات حقوق الإنسان وإساءة استخدام المال العام. وفي العام 2016، استكملت "هيئة الحقيقة والكرامة" أعمالها المتعلقة بعملية العدالة الانتقالية، بحيث وثّقت وأرشفت قضايا عديدة مع 62 ألف شكوى للتعويض والمصالحة الوطنية، كما أفادت تقارير الهيئة أنها أمّنت 700 مليون دينار تونسي لميزانية الدولة وأحالت 72 قضية إلى القضاء. وصحيح أن البلاد لا تزال بحاجة إلى إيجاد النهج الأفضل لتنفيذ استراتيجية شاملة للمصالحة الوطنية مع ضمان المساءلة، إلا أن إنجاز هذه العملية يشكل محطة بارزة في رحلة انتقال تونس إلى نظام جديد من الحكم.
فضلاً عن ذلك، كان المجتمع الدولي متحمسًا للخطوات التي اتخذتها تونس لحماية حقوق المرأة وتعزيزها خلال العقد المنصرم. ولطالما تميزت تونس عن الدول العربية الأخرى في دعمها الرسمي لحقوق المرأة، وقد حافظ دستور العام 2014 على مكانة تونس الإقليمية في هذا المجال. كما أن قانون الانتخابات الذي يحدد أطر الانتخابات التشريعية ضَمن التكافؤ العمودي في قوائم المرشحين، أي تناوب الرجال والنساء على القوائم الانتخابية. بعد ذلك، أجريت الانتخابات المحلية عام 2018 بموجب قانون انتخابي أكثر تقدمًا يتضمن حكمًا حول التكافؤ الأفقي، ما ضمن ظهور أعداد متساوية من النساء والرجال على القوائم الانتخابية.
وبفضل هذه القوانين، أصبح قرابة نصف المسؤولين المحليين المنتخبين من النساء. كما أقرت تونس عام 2017 قانونًا شاملاً بشأن القضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة، لتعزز بذلك روح الدستور التقدمية. وفي حين أن التنفيذ الصحيح لكل الآليات المطروحة في القوانين، ولا سيما توفير الدعم الحكومي للناجين من العنف، لا يزال يشكل تحديًا في البلاد، إلا أن العنف المعنوي والنفسي والاقتصادي وحتى السياسي القائم على النوع الاجتماعي أصبح مجرّمًا للمرة الأولى في تاريخ تونس.
لكن للأسف أنّ التقدم الملحوظ الذي أحرزته تونس في مجال تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان على مدى العقد المنصرم لا يبعث على الرضا أو التفاؤل وسط غالبية التونسيين. ففي الاستطلاع الوطني الذي أجراه "المعهد الجمهوري الدولي" في الفصل الأخير من عام 2020، تبين أن 87 في المائة من التونسيين يعتبرون أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ.
والأرجح أن هذه المخاوف تعود إلى ما تشهده البلاد من محن اقتصادية ونمو متعثر منذ عام 2011. فقد أدت عدة عوامل مجتمعةً، وهي ارتفاع معدل بطالة بين الشباب والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الإقليمية وتدهور الرفاهية وتفشي الفساد، إلى واقع اقتصادي قاتم. أضف إلى ذلك أن الإضرابات العمالية والهجمات الإرهابية المستمرة أثّرت على إنتاج وتصدير الغاز والنفط والفوسفات، وألحقت هذه الهجمات أيضًا الضرر بقطاع السياحة التونسي وزادت الإنفاق العسكري والأمني. كما أن الحرب الأهلية في ليبيا، وهي ثاني أكبر شريك تجاري لتونس بعد الاتحاد الأوروبي، ساهمت بشكل رئيسي في تباطؤ الحركة الاقتصادية في تونس.
بالرغم من التوافق الواسع على ضرورة الإصلاحات لتخطي هذه الحالة من الجمود وعدم الاستقرار، فإن الانقسامات السياسية وضعت عمليًا البرلمان التونسي أمام طريق مسدود وأدت إلى تغيير التشكيلة الحكومية أكثر من اثنتي عشرة مرة، وبذلك أصبح تبني الإصلاحات اللازمة وتنفيذها على النحو السليم تحديًا حقيقيًا. زد إلى ذلك أن ضعف حكومات الائتلاف والوحدة الوطنية التي تم تشكيها أثّر سلبًا على الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الجريئة وظهور معارضة قوية.
في حين يعتقد الكثير من التونسيين والمراقبين أن التوافق القائم على "التقارب الإسلامي-العلماني" هو المحرك الرئيسي للنجاح الديمقراطي في تونس، إلا أن التوافق الحكومي الراهن الذي تم التوصل إليه من خلال مجموعة من الأحزاب الصغيرة- والذي أصبح ممكنًا بفضل نظام القائمة الانتخابية التناسبية- حال دون انبثاق أكثرية ثابتة ومتجانسة قادرة على دعم الإصلاحات وتمريرها. ونتيجةً لهذا الجمود، لم يتم بعد إنشاء المحكمة الدستورية التي نص عليها الدستور والتي تُعتبر من ركائز النظام الديمقراطي السليم، علمًا أنه كان يُفترض إنشاؤها عام 2015، ذلك لأن المشرعين ما زالوا يعرقلون تسمية أعضاء المحكمة الأربعة الذين يفترض أن يعينهم مجلس نواب الشعب.
علاوةً على ذلك، يستمر هذا الجمود السياسي في إشعال التظاهرات المناهضة للحكومة بانتظام، وقد تسبب بشكل خاص في تعميق هوة الثقة بين المواطنين والمؤسسات. ولذلك ليس مفاجئًا أن يتبين في استطلاع "المعهد الجمهوري الدولي" أن 85 في المائة من التونسيين يعتبرون أن الحكومة لا تفعل الكثير أو لا تفعل شيئًا لتلبية احتياجات المواطن العادي، في حين يعتبر 88 في المائة أن الأمر نفسه ينطبق على مجلس النواب.
وإذا بفشل الحكومة في التجاوب مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي كانت "سبب وجود" الثورة، يثير الحنين إلى النظام القديم. فأخذت الأحزاب السياسية المدافعة عن إرث الماضي، سواء ماضي بن علي أو سلفه الحبيب بن علي بورقيبة، تكتسب ثقلاً سياسيًا وانتخابيًا أكبر على حساب أحزاب المعارضة التي تعود إلى حقبة ما قبل الثورة.
وأكثر هذه الأحزاب تطرفًا هو "الحزب الدستوري الحر" المناهض للثورة. فهذا الحزب يشيد علنًا بالنظام القديم ويقترح استبدال النظام البرلماني بنظام رئاسي، وقد أصبح عاملاً مسببًا للركود والصراع داخل مجلس النواب حيث تستمر الجدالات المفتوحة بين موسي وأعضاء المجلس الآخرين في تصوير المجلس التشريعي كهيئة للجدال وليس هيئة للعمل. وبالاقتران مع المشاكل الاقتصادية، بدأ هذا الاقتتال الداخلي في الحكومة يلقي بثقله على آفاق الديمقراطية في تونس.
يبدو على المدى القريب أنه يصعب التغلب على هذه التحديات، ومن المؤكد أن الوضع الاقتصادي المتفاقم بسبب جائحة "كوفيد -19" سيجعل الإصلاحات أصعب، وهذا سيؤدي بدوره إلى ازدياد الخيبة من الحكومة التونسية. من هنا، ستكون الحكومة بحاجة إلى وحدة وطنية أعمق ودعم دولي أكبر لتعمل بفعالية.
وجدير بالذكر أن العمليات الانتقالية السياسية والاقتصادية تتطلب أجيالًا عدة لتصبح مستدامة وقوية. وحاليًا أدى الخوف الأوروبي من وجود الإسلام السياسي في حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، علاوة على الخوف في دول الخليج من نشوب ثورات مماثلة داخل أنظمتها، إلى ترك العملية الانتقالية في تونس من دون دعمٍ قوي وعرضةً للتحديات المستمرة. والواقع أن النموذج التونسي الناجح نسبيًا لا يزال يتحدى النظريات والشكوك المتعلقة بالديمقراطية والإسلام، ولا يزال في دائرة الضوء ليس بسبب مساره الديمقراطي الاستثنائي فحسب بل أيضًا بسبب قربه من ليبيا والدول الأخرى، وحتى الساحل الأفريقي، والدور الذي يمكن أن يلعبه فيها، مع التضخم المستقبلي في الفئة الشبابية الذي يدعو إلى المزيد من ثورات الربيع العربي وثورات جديدة للربيع الأفريقي.