- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
"حكومة إقليم كردستان" والسلطة الفلسطينية: إعادة إعطاء الأولوية للحوكمة على حساب الرمزية
رغم تراجع السياسات الفلسطينية والكردية لتصبح لعبة غير فعالة لإلقاء اللوم على الأخرين، فإن وجود سياسات أمريكية جديدة تركز على بناء المؤسسات يمكن أن يعيد التقدم الى مساره في كلتا القضيتين.
لدى الشعبين الفلسطيني والكردي الكثير من القواسم المشتركة: فكلاهما يملك رغبة شديدة في الاستقلال وإقامة دولة، وكلاهما رأى طموحاته المشروعة تحبَط مرارًا وتكرارًا بسبب المشهد السياسي المعقد سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو المحلي. ولكن في الحالتين، أدت هذه الحقائق إلى نشوء ثقافة سياسية وثقافة حكم تركز على الرمزية ودور الضحية.
فقد رسا القادة السياسيون، الأكراد والفلسطينيون على حدٍّ سواء، على ذهنية غير منتجة تقوم على الاشتكاء من ظلم واقعهم الحالي وإعطاء الأولوية لرونق الدولة ومظاهرها على حساب الاستثمار الرتيب، ولكن الضروري في بناء المؤسسات. والمثال على ذلك هو الضغط الفلسطيني للانضمام إلى الأمم المتحدة في عام 2011، والاستفتاء على الاستقلال الذي أجرته "حكومة إقليم كردستان" عام 2017. وقد ساهم هذا الأمر بدوره في التسبب بركودٍ، لا بل تآكل، دبلوماسي وإداري وسياسي أبعدهم أكثر بعد عن تحقيق أهدافهم.
على الصعيد الأمريكي، يبدو أن إدارة بايدن لا تملك سياسة واضحة تجاه الفلسطينيين أو الأكراد في ما يتعدى الحفاظ على حد أساسي من العلاقات. لكن التحول نحو سياسات تركز على الحوكمة الرشيدة وبناء المؤسسات لن يتناسب مع أهداف السياسة الخارجية لبايدن التي تهدف إلى صون حقوق الإنسان فحسب، بل سيساعد أيضًا الفلسطينيين والأكراد على بناء الأسس اللازمة لتحقيق أهدافهم الوطنية بطريقة تسهم في الاستقرار الإقليمي أيضًا.
القضية الكردية: سلطة مهدرة
لن يتوانَ أي محاور كردي عن تذكيرك بأن الأكراد هم أكبر قومية في العالم لا تملك دولة خاصة بها، وهذه حقيقة حوّلت الشعب الكردي إلى أقلية عرقية مضطهدة ومظلومة في أربع دول شرق أوسطية. ومع ذلك، يملك الأكراد في العراق، وبشكل متزايد في سوريا، قدرًا كبيرًا من السلطة على الناس وعلى مساحات شاسعة من الأراضي، مع أنهم لا يملكون دولة لهم.
وفي العراق على وجه الخصوص، كان وضع الأكراد يؤهلهم لاغتنام فرص فريدة للاستحواذ على مساحة أكبر يمارسون فيها الحكم الذاتي. ومع إضعاف نظام صدام حسين بسبب حرب الخليج الأولى، ثار أكراد العراق وتمكّنوا، بفضل الملاذ الآمن الذي فرضه المجتمع الدولي، من إنشاء "حكومة إقليم كردستان." ومنذ الانتخابات التي أجريت عام 1992، أصبحت "حكومة إقليم كردستان" تحكم اسميًا المحافظات الثلاث ذات الغالبية الكردية في شمال العراق. ولكن الجماعات السياسية المسلحة المختلفة انخرطت خلال السنوات اللاحقة في سلسلة من الحروب الأهلية كانت أشبه بلعبة إقصاء انتهت بانتصار حزبين، يحتكر كل منهما إقطاعية تديرها عائلة مدعومة من قوة إقليمية هي إما تركيا أو إيران. وبعد نحو ثلاثة عقود، لم ينتقل الحكام الأكراد بعد من مناضلين مسلحين إلى رجال دولة. وحتى الآن، لا تملك "حكومة إقليم كردستان" دستورًا أو قوة مسلحة موحدة، في حين أن الحزبين اللذين وصلا إلى السلطة في تسعينيات القرن الماضي لا يزالان في الحكم.
وحتى من دون إقامة دولة، أخذت سلطة الأكراد السياسية تتنامى في العراق. فقد خففت الحماية والمساعدات الدولية من تداعيات العقوبات المفروضة خلال تسعينيات القرن الماضي على أراضي "حكومة إقليم كردستان." وهناك، استخدم الناس عملة مختلفة عن بقية العراق واحتفلوا علنًا باللغة والثقافة الكردية. ومن العام 2003 فصاعدًا، ساعدت قوات "البشمركة" الكردية الولايات المتحدة عند غزوها العراق ومحاربة "القاعدة" في ما بعد. وفي وقت لاحق من عام 2014، أصبحت القوات الكردية شريكة في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش."
وفيما كان العنف الطائفي يجتاح سائر أنحاء العراق، كانت كردستان مستقرة واقتصادها مزدهر. وبفضل نحو أربعين عقدًا موقعًا مع شركات نفط دولية، تنتج "حكومة إقليم كردستان" اليوم قرابة نصف مليون برميل من النفط يوميًا. وقد بدأ القادة الأكراد يروجون أربيل، عاصمة "حكومة إقليم كردستان"، على أنها دبي الثانية. وازدهر المجتمع المدني والصحافة الحرة أيضًا في هذه الفترة. حتى أن المعارضة السياسية المهمة اكتسبت لمدة وجيزة صلاحية المساءلة في "حكومة إقليم كردستان" وحصلت على فرصة تحقيق انتقال السلطة عن طريق الانتخابات. ولربما أبصرت السلطة الكردية والأمن الكردي النورَ في العراق عن طريق الصدفة ، ولكن لفترة من الزمن، كان لدى القادة الأكراد الرؤية والتركيز اللازمين لترجمتها إلى سلطة ذات مغزى، وهذا بدوره أكسب "حكومة إقليم كردستان" نفوذًا في العراق وعزز سمعتها في العواصم الإقليمية والغربية.
غير أن هذا النهج العقلاني القائم على المصالح في التعامل مع السياسة لم يدم طويلًا. ففي نهاية المطاف، أهدر القادة السياسيون الأكراد هذه السلطة من أجل مآرب شخصية وسياسية قصيرة النظر؛ وحين فشلوا، عادوا إلى ألعاب اللوم المبتذلة وتبادل الاتهامات للتملص من مسؤولياتهم. فأصبحت اليوم "حكومة إقليم كردستان" غارقة في ديون بمليارات الدولارات لعدد كبير من الدائنين، وتعاني من عجز في الميزانية ولا تستطيع دفع رواتب موظفي القطاع العام بالكامل وفي الوقت المحدد، على الرغم من أن أسعار النفط ثلاثية الأرقام. كما أن قوات "البشمركة" الكردية تخضع لإمرة الأسر الحاكمة و"رجالها الكبار" بدلًا من الحكومة، وذلك على الرغم من تهديد "داعش" ومبلغ العشرين مليون دولار الذي يدفعه البنتاغون شهريًا منذ عام 2006 للتحفيز على إجراء الإصلاحات اللازمة. وبالفعل، تكشف علنًا الحكومة الأمريكية والمراقبون الدوليون في تقاريرهم عن تراجع الديمقراطية والحرية في هذه المنطقة. وبعد أن كانت "حكومة إقليم كردستان" تنعم بوضع استثنائي وتسعى إلى الانفصال عن العراق، كل ما تطمح إليه الآن هو أن تُعتبر أفضل من بغداد. ومع تزايد التهديدات المحدقة بها عددًا وشدةً، تتناقص قدرة قادتها ومؤسساتها على التخفيف من حدة تلك التهديدات.
في الواقع، قد يعدّد قادة "حكومة إقليم كردستان" الكثير من الأسباب والأعذار لتفسير هذا التراجع، ألا وهي أن الحكومة العراقية عادت إلى سياسات المركزية التي كانت متبعة في عهد صدام حسين ضد الحكم الذاتي الذي حصل عليه الأكراد بصعوبة شاقة، وأن بغداد خفضت حصة "حكومة إقليم كردستان" من الميزانية الوطنية، وأن قوات "البشمركة" لا تحصل على حصتها العادلة من موارد ومعدات الأمن القومي، وأن العيش بجوار تركيا وإيران صعبٌ جدًا، كونهما تهاجمان كردستان بانتظام من دون التعرض للعقاب.
هذه الأمور كلها صحيحة، ولكنها ليست جديدة. ولا ينقص على قائمة الملامة هذه سوى "حكومة إقليم كردستان" نفسها. غير أن إخفاقات الحوكمة هذه تخلّف عواقب حقيقية. فرأسمالية المحسوبية والفساد والسياسات الزبائنية ليست مجرد أوجه قصور، بل هي ثغرات كبيرة في جدران الأمن القومي والحوكمة في "حكومة إقليم كردستان." على سبيل المثال، يقرّ القادة الأكراد بأن عدد جنرالات "البشمركة" يفوق عددهم في الجيش الأمريكي، في حين أن القطاع الخاص لا يستطيع ببساطة أن ينافس القطاع العام المتضخم والعديم الكفاءة.
لطالما كان بناء الأمة هو الهدف المعلن لـ"حكومة إقليم كردستان." ومع ذلك، أهدر القادة الأكراد سلطتهم الجديدة، إذ اختاروا مشاريع قومية ضخمة بدلًا من تسخير السلطة لتحقيق أهداف ممكنة تؤسس لبناء دولة مستقبلية. وأحد الأمثلة على ذلك هو الاستفتاء على الاستقلال الذي أجرته "حكومة إقليم كردستان" عام 2017. ففي مرحلة كانت تشهد نقصًا سياسيًا كبيرًا في الشرعية والوحدة، استجاب الشعب لدعوة زعمائه القومية وصوّت لصالح إقامة دولة كردية. ولكن سرعان ما أصيب الشعب بخيبة أمل من القيادات نفسها التي خسرت نصف الأراضي وقدرات إنتاج النفط التي كانت تسيطر عليها الحكومة قبل الاستفتاء بينما بقيت في السلطة بدون محاسبة.
وبخلاف الحالة الفلسطينية، لا يوجد دعم دولي رسمي لإقامة دولة كردية. وعوض الحصول على تأييد دولي، قوبل الاستفتاء الكردي بمعارضة محتدمة من الدول المجاورة لكردستان. وحين تصدت بغداد لجهود الاستفتاء، ما لبثت أن تصدعت خطوط الدفاع الكردية أمام القوات العراقية الزاحفة نحوها. إلا أن قادة "حكومة إقليم كردستان" يلومون الجميع وكل شيء، إلا سوء تقديرهم، على هذه الخسارة الفادحة التي منيوا بها على صعيد السياسة والاقتصاد والسمعة. ومتى طال الحديث أفعالهم الخاصة، يشيد قادة "حكومة إقليم كردستان" بالاستفتاء باعتباره مثالًا للقومية الكردية.
الحالة الفلسطينية: إنجازات رمزية وواقع متدهور
على غرار الأكراد، يدرك الفلسطينيون تمامًا أنهم من الأمم القليلة التي لا تزال تحت الاحتلال وأنهم لا يستطيعون إقامة دولتهم المستقلة. وخلال معظم تاريخ الحركة القومية الفلسطينية، اضطر القادة السياسيون الفلسطينيون إلى اللجوء إلى الرمزية. فمن ناحية، كانت هذه الرمزية أداة فعالة لبناء الهوية وتعبئة الشعب، وكانت واحدة من الساحات السياسية القليلة المتاحة لهم نظرًا لعدم امتلاكهم سيطرة على الأراضي والسكان.
وعلى منوال الأكراد أيضًا، أصبح الفلسطينيون محط الأنظار على المسرح الدولي نتيجة غزو الكويت، مع أنه في الحالة الفلسطينية لم يترك لهم قرار ياسر عرفات غير الحكيم بدعم صدام حسين سوى خيارات قليلة جدًا، ما اضطرهم إلى إجراء محادثات مباشرة مع إسرائيل. ولكن مع توقيع "اتفاقيات أوسلو" وتأسيس السلطة الفلسطينية، أصبح الفلسطينيون في قلب الدبلوماسية الدولية، فقد تباهى عرفات بأنه كان من أكثر الزوار ترددًا إلى البيت الأبيض في العالم، وتلقوا مساعدات دولية ضخمة تتوافق مع هذا الاهتمام الدبلوماسي.
واستخدم القادة الفلسطينيون، مثل نظرائهم الأكراد، الوسائل الدبلوماسية لتحقيق الاستقلال مع استبعاد جميع الأولويات الأخرى تقريبًا. ولكنهم، بخلاف الأكراد، أحرزوا تقدمًا يمكن قياسه مع اكتساب حل الدولتين تدريجيًا توافقًا دبلوماسيًا دوليًا. ومع ذلك، سرعان ما تلاشى الأمل الذي راود الكثيرون من الفلسطينيين في إنشاء أول دولة ديمقراطية عربية. فالسلطة الفلسطينية التي انبثقت عن ذلك كانت مصممة على طراز الحكومات العربية التقليدية التي كان قادة "منظمة التحرير الفلسطينية" متآلفين معها، من تونس التي يحكمها بن علي إلى مصر التي يحكمها مبارك. وأصبحت المحسوبية والفساد واستخدام التوظيف في القطاع العام كشكل من أشكال الضمان الاجتماعي هي القاعدة السائدة.
وكان الشعب الفلسطيني مستعدًا من نواحٍ كثيرة، ولو على مضض، للتسامح مع قادته بشأن مسائل الحوكمة طالما كان الأمل بالاستقلال عبر الدبلوماسية قائمًا. ولكن مع الانتفاضة الثانية وانهيار عملية السلام، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها أمام أزمة شرعية: فوعدها بالتحرير من خلال الدبلوماسية أصبح باطلًا، وتاريخها في الحوكمة أيضًا لا يدعو للفخر. وفي نهاية المطاف، ساهم الإحباط الشعبي من الحكم في فوز حركة "حماس" في الانتخابات النيابية الثانية، والأخيرة، التي أجرتها السلطة الفلسطينية في عام 2006 واستيلاء "حماس" لاحقًا على غزة بالقوة.
مع ذلك، انخرطت السلطة الفلسطينية لفترة في الإصلاحات وبناء المؤسسات تحت وطأة الضغوط الدولية بقيادة الولايات المتحدة، وحققت نتائج ملحوظة في هذا الإطار. ولكن بما أن هذه الإصلاحات مثلت تهديدا على الوضع القائم، فقد حارب الكثيرون من قادة السلطة الفلسطينية (و"حماس") هذه العملية، ما أدى في النهاية إلى الإطاحة برئيس الوزراء الإصلاحي سلام فياض.
ومنذ ذلك الحين، لجأ قادة السلطة الفلسطينية إلى طريقة مجربة ومختبرة، هي التركيز على الرمزية. فاليوم، يركز المسؤولون الفلسطينيون على التحدث علنًا عن المظالم التي يتعرضون لها، والتي يُعتبر الكثير منها مبررًا، وإلقاء اللوم على الجميع، من "سوء نية" إسرائيل و"تحيز" أميركا إلى "تخلي" العرب عنهم. ولكن العنصر الغائب عن هذه السردية هو التأمل في الذات، من أي نوع كان. والخطاب الأخير الذي ألقاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الأمم المتحدة هو خير مثال على ذلك.
حين وجد قادة السلطة الفلسطينية أنفسهم في مواجهة أزمة شرعية، ولكن أبوا إجراء الإصلاحات المحلية المضنية واللازمة لاستعادة هذه الشرعية، اختاروا نهجًا جرّبوه واختبروه، وهو السعي وراء انتصارات رمزية، ولكن مكلفة في نهاية المطاف، سواء في الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات العالمية. وبلغ هذا النهج ذروته مع محاولةٍ متحايلة لاختصار الطريق نحو إقامة الدولة. ففي عام 2011، أطلقت السلطة الفلسطينية حملة للانضمام إلى الأمم المتحدة. وتبنّى الشعب الفلسطيني هذه الدعوة مع أن قادته كانوا يعرفون مسبقًا أن هذه المساعي ستبوء بالفشل لأن الولايات المتحدة كانت ستمارس حتمًا حق الفيتو ضد الطلب في مجلس الأمن. وفي النهاية، لم يحصل طلب الانضمام حتى على تسعة أصوات في مجلس الأمن، ولكنه تسبب بمعاداة الإدارة الأمريكية، وترك انطباعًا سلبيًا لدى بقية المجتمع الدولي، ما عمّق صورة السلطة الفلسطينية كطرف لا يمكن التعويل عليه. وتضاءلت ثقة الشعب الفلسطيني في قادته عندما حطّم هذا الفشل توقعاتهم الكبيرة.
القادة الفلسطينيون والأكراد: يخسرون أهميتهم شيئًا فشيئًا
تتلاشى اليوم تدريجيًا أهمية السلطة الفلسطينية والأكراد مع تحوّل الاهتمام الدولي إلى أماكن أخرى نتيجة الأزمات الإقليمية والعالمية المتضاربة. فقد أدت الفرص الناشئة إلى ديناميكيات أخرى، مثل التنويع الاقتصادي في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية و"اتفاقيات أبراهام"، جذبت انتباه الجماهير وصناع القرار المتشوقين للمشاركة في المبادرات الناجحة. ولم يتجلَّ فقدان الاهتمام على الساحة الدبلوماسية فحسب، بل أيضًا في المجالات الاقتصادية والإنمائية. فالفساد المستشري أدى إلى تقليص المساعدات الأوروبية والعربية للفلسطينيين. كما أن الجهات المانحة الدولية تواجه صعوبة شديدة في إيجاد أسباب تبرر توجيه المساعدات إلى كردستان الغنية بالنفط. فقد أصبحت "حكومة إقليم كردستان" اليوم جزءًا من المشكلة في العراق، وليس الحل. والواقع أن الممارسات الاقتصادية التي تزداد جشعًا تثني الشركات الدولية عن دخول الأسواق الكردية التي كانت تجدها الشركات في السابق مؤاتية وترى فيها بوابة آمنة إلى العراق.
مع ذلك، يبدو أن القادة الفلسطينيين والأكراد ملتزمون بالمسار نفسه: أي الحركات الرمزية، ولعب دور الضحية، والعزوف عن بناء مؤسسات فعالة وغير فاسدة من شأنها أن تعزز شرعيتهم في الداخل وتدعم قضيتهم وتطلعاتهم الوطنية. وفي هذا الصدد، يهدر الأكراد، شأنهم شأن الفلسطينيين، سريعًا شرعيتهم وسمعتهم التي اكتسبوها بشق الأنفس كأطراف عقلانية، ويعطون في المقابل الانطباع بأنهم مشكلة أخرى في منطقة مليئة بالأزمات.
في مرحلة ما، كانت هاتان القضيتان على رأس جدول الأعمال الإقليمي للولايات المتحدة، وقد انخرط فيهما المسؤولون من أرفع المستويات في الإدارات المتعاقبة منذ رئاسة جورج بوش الأب، بحيث تم التعامل مع كل من القيادتين الفلسطينية والكردية كشريك مستقل وركيزة في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
في المقابل، باتت القضيتان تُعهدان إلى الموظفين العاملين على المستوى التنفيذي في الولايات المتحدة. وبدلًا من دعم دولة كردية مستقلة، أيدت الولايات المتحدة المسعى الكردي للحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي من خلال دعم الفيدرالية في العراق وحقوق إدارة النفط لـ "حكومة إقليم كردستان." في الوقت نفسه، يبدو أن وضع القيادة الفلسطينية أفضل في واشنطن، فالسياسة المعلنة للولايات المتحدة منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن تنص على إنشاء دولة فلسطينية في ظل حل الدولتين. ولكن هذا الهدف هو في الواقع طموحٌ أكثر مما هو عملي. ولا أحد في واشنطن يعتقد أن هذه السياسة قابلة للتحقيق.
عوضًا من ذلك، يتم حاليًا التعامل مع القيادتين باعتبارهما بالدرجة الكبرى عناصر ثانوية في القضايا الإقليمية الأخرى: إذ تُعتبر "حكومة إقليم كردستان" جزءًا من السياسة الأمريكية في العراق، بينما تُعتبر السلطة الفلسطينية جزءًا من سياسة الإدارة تجاه إسرائيل و"اتفاقيات أبراهام." وإذا حدث تعامل مباشر معهما، فهو يبدو من باب الحفاظ على العلاقة في المقام الأول وليس بدافع الزخم إلى التقدم.
وتجدر الإشارة إلى أن ابتعاد الولايات الأمريكية عن إعطاء الأولوية للقضيتين الفلسطينية والكردية أمر مفهوم. فأي محاولة أمريكية لمعاودة الانخراط على مستوى رفيع في أي منهما سيبوء حتمًا بالفشل، في وقت لا تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى فشل آخر في الشرق الأوسط. غير أن التحول من أولوية قصوى إلى ما يشبه الإهمال ليس ضروريًا ولا حكيمًا.
في الحالتين، يمكن للولايات المتحدة بدلًا من ذلك أن تتبنى سياسة تشدد وتعطي الأولوية لبناء المؤسسات التي أُهملت لفترة طويلة في الجانبين الفلسطيني والكردي. ومن المؤكد أن التحول نحو هذا التركيز سيتطلب إنفاق بعض الموارد، وسيستدعي انخراطًا رفيع المستوى لتذليل العقبات السياسية الداخلية وحث الجهات الإقليمية الرئيسية، أي إسرائيل في الحالة الفلسطينية وبغداد في حالة "حكومة إقليم كردستان"، على تسهيل هذه الجهود ومكافأة التقدم.
ولكن انتهاج هذه السياسة الآن سيؤتي ثماره في المستقبل. فقد ترتّبت عن الحوكمة السيئة تكلفة عالية على الولايات المتحدة تمثلت في نفوذ أقل في العراق في الحالة الكردية وفي حظوظ أقل لحل الدولتين في الحالة الفلسطينية. لذلك فإن الجهود التي تُبذل من الجانب الأمريكي لتشجيع الحوكمة الجيدة ستكون ثمنًا زهيدًا يُدفع لقاء سياسات تعود بالنفع على الشعبين الكردي والفلسطيني، وتعيد شرعية مؤسسات الحكم التابعة للسلطة الفلسطينية و"حكومة إقليم كردستان"، وتعزز الاستقرار المحلي والإقليمي، وتساهم في إعادة الفلسطينيين والأكراد إلى مسار قد يقودهم نحو تحقيق تطلعاتهم الوطنية.