قبل عقود قليلة، كانت كل من مصر وسوريا والعراق توافق بين الهوية الوطنية المتميزة والتنوع والثراء في تركيبتها الثقافية. والعلم المصري لمعظم القرن العشرين كان أخضر الخلفية يتوسطه هلال يحضن ثلاثة نجوم. وفي حين أن هذا العلم يعود في أصوله إلى الحقبة العثمانية، إلا أنه شهد إعادة تعبير لرموزه بعد الاستقلال، فالهلال هو الوطن والنجوم هي الأديان الرئيسية الثلاثة الحاضرة فيه، الإسلام والمسيحية واليهودية. أي أن الهوية الوطنية، إذ ترتقي إلى ما يتعدى الانتماء الديني، هي الحامية للجماعات. وفي العراق، كانت بغداد في مطلع القرن الماضي مثلثة في توزيعها السكاني، ثلث مسلم وثلث مسيحي وثلث يهودي. والتنوع كان كذلك حال سوريا، فحلب إلى أن أطاحت بها الأحداث الأخيرة، كانت مدينة تتراكم فيها الهويات الدينية والثقافية، بين العربية والكردية والسريانية والتركمانية وغيرها، والانتماءات الإسلامية والمسيحية المختلفة.
أما اليوم، فإن الدولة الجامعة في كل من سوريا والعراق، واللتين أثخنت كل منهما الحروب، قد أمست طرحاً نظرياً وحسب، فيما الواقع أن الغلبة على الأرض للجماعات المتصارعة والسائرة على ما يبدو باتجاه إنكار التنوع عند اعتبار التسويات المرتقبة لحل الأزمات. وحتى مصر، وهي وفق قراءات عدة الدولة الوطنية الأعمق حضوراً في تاريخ الإنسانية، تبدو وكأنها في خضم تحولات على مستوى هويتها، تضع آخر معاقل التنوع فيها ضمن دائرة الخطر. ومن الصعب تصور بقاء كل من لبنان والأردن، إذ هما اليوم الإطارين الوطنيين المحتفظين بالتنوع والمتبقيين في المنطقة، على ما هما عليه من الاستقرار الثقافي في حال استمرت التطورات السلبية في تجريد مصر وسوريا والعراق من طابعها التعددي. فإنقاذ التنوع الثقافي والاجتماعي في الشرق العربي هو مسألة بالغة الأهمية ترتقي في خطورتها إلى مستوى ما تشهده المنطقة من مواجهات ميدانية. وحل هذه المسألة قد لا يكون مستعصياً بقدر ما تثيره التقارير الإعلامية من مخاوف. ولكن الأمر قد يتطلب مقاربة بعيدة المدى، وهذه غير متحققة إلى اليوم.
وقد تكون مصر، وهي الأكبر من حيث عدد السكان، والأكثر استقراراً ضمن الدول الثلاثة المعرضة للخطر، المكان الأنجع للتطرق إلى مسألة التنوع.
فالمصريون المسيحيون الأقباط هم الهدف المعلن الجديد لتنظيم «الدولة الإسلامية» الإرهابي. وفي سيناء، يعمد هذا التنظيم إلى حملة قتل وترويع لإرغام الأسر المسيحية على الهروب، فيما كل من القاهرة، ثم طنطا والإسكندرية، قد شهدت تفجيرات انتحارية في كبرى كنائسها، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى. وعلى فداحة الأفعال، فإن الأقوال التي تنتظم في السردية المصاحبة للجريمة تدعو إلى توجه لا يقتصر على الإجراءات الأمنية الصلبة التي تعتمدها الحكومة المصرية.
وكان المسيحيون المصريون قد ساروا في درب طويل لإحقاق حقّهم بالمساواة. فمن موقعهم كأهل ذمة في مراحل سابقة إلى اعتبارهم رعايا ضمن ملة خاضعة للأمر السلطاني أيام الدولة العثمانية، تدرج المسيحيون في مصر بارتقائهم نحو الحقوق في القرن التاسع عشر، مستفيدين من جهد محلي لتطوير البلاد، ومن الحداثة التي جاءت بها القوى والجاليات الأوروپية. وفيما يتعدى المكاسب الحسّية، فإن المسيحيين المصريين قد تدرجوا في الوجدان العام نحو اعتبارهم أهل بلد أصليين مشاطرين للمسلمين في مواجهة جشع الطارئين الساعين إلى امتصاص الازدهار الجديد الذي تحققه مصر، وهؤلاء الطارئون هم على التوالي قوى الاستعمار، ثم النخب الحاكمة الدخيلة، فالجاليات الوافدة. وعلى مدى القرن الماضي، سجّل التاريخ تساقط هذه الطبقات المتهمة. فثورة ١٩١٩والتي شهدت مشاركة شعبية واسعة شكلت انتصاراً أول إزاء الاستعمار البريطاني. وفي ١٩٥٢ أطاح انقلاب «الضباط الأحرار» بالملكية، والتي كانت تمثل استمراراً لحكم النخب الدخيلة لقرون عديدة. كما شهد عقد الخمسينات الطرد الجماعي لجاليات وافدة، بل أيضاً لجماعات محلية غير حائزة على الجنسية المصرية، بعد أن كانت هذه الأوساط عنصراً أساسياً في ارتقاء مصر كدولة وكمجتمع: فكان على جموع غفيرة من اليونانيين والأرمن والشوام واليهود والأوروپيين من أصول مختلفة الرحيل. ومع غياب هؤلاء، انتقل الأقباط ضمنياً إلى خانة «الآخر» ولا سيما إزاء فتورهم تجاه الهوية العربية الجديدة والتي سعت مصر إلى اعتناقها في الستينات تأكيداً لطليعيتها في المنطقة. أما في الخطاب العام، فإن استعداء اليهود ككم جماعي، وإن أعيد صياغته على أنه عداء للصهيونية، قد ساهم في المحافظة على سردية «الآخر في الخارج»، بما يحيد الأنظار عن تنامي الشرخ في الداخل. وجاءت اتفاقية السلام مع إسرائيل عام ١٩٧٨ لتبدل من نكهة الخطاب المعادي لليهود، مع الاحتفاظ بزخمه. وحيث أن العداء للصهيونية لم يعد موضع ترحيب رسمي تلقائي، فقد تمّ اللجوء إلى مضمون مستورد مباشرة من الرصيد التاريخي الأوروپي بالعداء للسامية. ومع فذلك فإن الترويج الناجع لمقولة «اليهودي هو الآخر» تطلّب اعتماد مادة من المصادر الإسلامية، وفق ما شذّبته وهذّبته العقيدة الإسلامية القطعية المتنامية. واشترك في اعتماد هذه المادة كل من القوميين والإسلاميين. وفي حين أن الإسلاميين سعوا من خلال ذلك إلى تحقيق رؤية بعيدة المدى قائمة على البراء من غير المسلمين عامة، فإن القوميين ارتضوا بالفوائد الآنية لهذا الاعتماد، أي تحويل الأنظار عن التجاذبات الداخلية. إلا أن رهان القوميين كان خاسراً، فالمصلحة الآنية كان ثمنها الضرر الطويل الأمد، حيث أن اعتماد المادة الإسلامية دفع باتجاه تعزيز الطابع المسلم الحصري للهوية المصرية. فالصفة اليهودية التي ألزم بها «الآخر» غير المسلم تصبح عَرَضية، واستبدال العداء لليهود بالعداء للأقباط يمسي أمراً معقولاً. فلزمن طويل قبل أن يجاهر تنظيم الدولة بعدائه العقدي للأقباط من خلال إلصاق صفة الكفار الحربيين بهم، كان النتاج الفكري المصري من مختلف التوجهات العقائدية قد حضّر الأرضية، سهواً أو عمداً، لإخراج الأقباط من الهوية الجماعية.
وبعد الاعتداء الأخير على الكنيستين في طنطا والإسكندرية، توجهت أصابع الاتهام نحو الأزهر بصفته المؤسسة الدينية، لمسؤوليته في تمكين الإرهاب. والنصوص التي تدرّس في الأزهر، كما أشير بالفعل، تبيح وتندب وتفرض العدوان على غير المسلمين في ظروف معينة ووفق قيود محددة. ولا شك أن الأزهر، لوصايته الضمنية على العلوم الإسلامية ونصوصها، مطالب بالمراجعة لسياقات العديد من هذه الأحكام. غير أن هذه المراجعة، إن حدثت، سوف تشكل وحسب إعادة اعتبار منهجية بتأثير محدود، ولن تكون إصلاحاً دينياً. فالإصلاح الديني يتطلّب رؤية متكاملة لا يمكن استدعاؤها بالإكراه كردة فعل على النوازل، بل لا بد أن تتشكل في أوساط مهيأة لها وداعمة لتحققها. والواقع أن شيخ الأزهر اليوم، أحمد الطيب، والذي يلتزم النهج الوسطي صراحة يبذل الجهود للتأكيد على دور مؤسسته في احترام الآخر كوسيلة لتحقيق العيش المشترك، وعلاقته مع البابا تواضرس الثاني، رأس الكنيسة القبطية تجسد هذا التوجه. وتواصله مع البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، إذ قام الشيخ بزيارته في الڤاتيكان العام الماضي وهو يعدّ لاستقباله للتوّ في مصر، قد يشكل أقصى ما يمكن توقعه من المؤسسة الدينية في هذه المرحلة.
غير أن السؤال الأكثر ارتباطاً بالموضوع والذي تتخلف الأصوات الداعية إلى الإصلاح الديني عن الإجابة عليه هو: لماذا يقع على عاتق المؤسسة الدينية، بقصورها وقيودها، ولا سيما أنها مرجعية فئة من المجتمع، لا كل المجتمع، وإن كانت هذه الفئة هي الغالبة عدداً، أن تكون هي المسؤولة عن انتاج رؤية للوفاق الوطني؟
ورغم توقعات القيادة السياسية في مصر، وآمالها في هذا الشأن، فإنه من المستبعد أن ينجح الأزهر في المستقبل المنظور باجتراح علاج للتشدد والقطعية الرائجة في أوساط الناشطين. ليس هذا عائداً إلى عجز أصلي في الفكر الديني، بل هو ناتج عن الظروف التاريخية الطارئة. إذ خلال التدرج غير المكتمل نحو الحداثة، ضاعفت المؤسسة الدينية من اعتمادها على البعد النصّي، وأصبحت بالتالي أقل ليونة وأكثر التزاماً بفتوى من سلف. وعلى أهميته، فإن ما طرأ على المؤسسة الدينية ذو تأثير أقل من الفشل الذي أصاب المشاريع السياسية الوطنية المتعاقبة، في عجزها عن تحقيق موعودها من التقدم والازدهار والكرامة، وفي تجويفها لتجربة نهضة تعليمية واعدة.
فالدولة العربية الحديثة، ولا سيما مصر كنموذجها الأكثر اكتمالاً، ومن خلفها على مسافة في الموقع الثاني كل من العراق وسوريا في ظل حكم البعث، كانت قد قدّمت للمواطنين فيها ميثاقاً شبه معلن، يتخلى معه المواطن عن حقوقه السياسية مقابل الوعد بخدمات تمنحه إياها الدولة، بما فيها الرعاية الصحية والتعليم والتوظيف. ووفق الرؤى الاشتراكية والمركزية السائدة، فإن التوظيف بطبيعة الحال يكون في أحضان الدولة. فكان أن تآكلت المؤسسات التعليمية والجامعات من دورها المنتج في مراحل سابقة لكي تصبح أقرب إلى المطبعة للشهادات الضامنة للوظائف الحكومية، فأهدرت بالتالي مكاسب هامة في عقود ماضية باتجاه تحقيق نهضة علمية وأدبية صادقة. فالمادة الدينية لم تغزُ وتدمّر صرح الثقافة العامة ولم تختطف الخطاب العام، بقدر ما جاءت لتشغل مكاناً أخلاه أصحابه.
وقد يستبان من هذه القراءة السبيل الممكن لإنقاد التنوع الثقافي والاجتماعي وللعودة إلى صيغة وطنية جامعة. وهذا السبيل ليس من خلال دعوات ردود الفعل إلى إصلاح ديني، بل عبر تنشيط التعليم العام المنتج، كجزء من دورة اجتماعية اقتصادية تسعى نحو التطور وصولاً إلى الازدهار. فالمحافظة على التنوع في مصر وفي عموم الشرق العربي قد لا تتطلب ظهور خطاب إصلاحي ديني. فواقع الأمر هو أن هذا الخطاب سوف يقدم وحسب مادة دينية إضافية لساحة ثقافية متخمة بالمواد الدينية ابتداءاً. قد يكون المطلوب الاستعادة التدريجية للساحة العامة والتي تم تسليمها للخطاب الديني من خلال تجويف المؤسسات التعليمية. والدعوة هنا ليست إلى إرساء نظام علماني، وهو في التجربة العربية المعاصرة قد ارتبط بالطغيان والإكراه، بل إلى الإقرار بالحاجة إلى الأمن الثقافي. إذ بالإضافة إلى توقعات المواطن في الشرق العربي أن توفر له الدولة الأمن الصلب، أي أمن الأشخاص والممتلكات، فإنه من حق هذا المواطن في مواجهة السرديات الكبرى والتصورات القطعية أن يحصل على ضمان أمنه الثقافي، أي أن يطمئن إلى أن إيمانه وعاداته وطريقة حياته ليست مستهدفة، لا من الدولة ولا من أطراف فاعلة خارجها.
والنموذج الذي قد يصلح كدليل ليس لبنان، حيث الدولة مكبّلة بالاعتبارات الطائفية، بل هو أقرب إلى ما كانت عليه مصر وسوريا والعراق بعيد الاستقلال. فالدولة، سواءاً ملكية أم جمهورية، قدّمت الهوية الجامعة والحاضنة، لا الناقضة، للهويات الدينية المتواجدة في المجتمع. ولا شك أن هذه التصور السياسي المنفتح في مطلع عهد الدولة المستقلة في الشرق العربي كان قاصراً وعاجزاً عن تحقيق التوقعات الاقتصادية لعموم المواطنين، فكان اتهامه بالنخبوية وكان التحدي له شعبوياً. وفي كل من مصر وسوريا والعرااق، مهّدت الشعبوية الطريق لقومية تأحيدية تعتبر التنوع تخلفاً وضعفاً. إلا أن السرديات الكبرى المتعاقبة من القومية وصولاً إلى الإسلامية بدورها قد فشلت في تحقيق الازدهار الموعود. فقد يكون الأوان قد آن لإنقاد التنوع، هذه الضحية العرضية للسعي التعسفي إلى التقدم، من خلال العودة عمّا ضيّق عليه وعطّله.
وبطبيعة الحال، ليست هذه مقاربة مستقلة، إذ هي تتطلب خطة نهوض اقتصادي يصاحب الكسب الثقافي، كما أنها ليست مقاربة فورية، بل تحتاج إلى النفس الطويل لأجيال. غير أنها تقوم على التصور أنه على مصر، ومن ثم العراق وسوريا، ألا تلزم نفسها بمهمة إصلاحية فوقية خارجية للدين، تاركة هذا الأمر للفكر الإسلامي وفق اعتبارات أهله وأصحابه، وأن تعمد بدلاً من ذلك إلى إعادة استشفاف السبيل للازدهار كما كان في الرؤية الصادقة، وإن كانت تبسيطية إلى حد ما، في زمن الفكر المنفتح والمتنور والذي انقضى قبل عقود.