- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
"حماس" مهتمة بالمفاوضات، لكن مستقبل غزة لا يزال مجهولاً
يرزح قطاع غزة منذ فترة طويلة تحت وطأة ضغوطات داخلية نجمت عن موارده المحدودة، بما فيها نقص المياه والأراضي القابلة للزراعة وضعف البنى التحتية وكثرة العوائق الداخلية والخارجية الناتجة عن الحصار الإسرائيلي المستمر منذ اثنتي عشر سنة، حصارٌ حوّل قطاع غزة إلى أكبر سجنٍ مفتوح في العالم.
وبدأ الأمر حين صنّفت إسرائيل غزة بالكيان المعادي بعد أن وضعت حركة "حماس" يدها على السلطة في هذا القطاع الساحلي في صيف 2007. ومنذ ذلك الحين، تكافح حركة "حماس" للصمود وسط بيئة سياسية معادية للغاية، حيث أن كل الأطراف المجاورة – من إسرائيل إلى مصر فـ"السلطة الفلسطينية" – تتخذ تدابير هدفها إضعاف الحركة وحثها على التخلي عن سيطرتها الأمنية على غزة. ولكن "حماس" نجحت في إحكام قبضتها على القطاع بالرغم من الضغوطات الإقليمية، علمًا أن سكان القطاع الفلسطينيين والبالغ عددهم مليونَي نسمة هم من يدفعون ثمن الحصار والعزلة وتدهور ظروف المعيشة. ومع ذلك، وجدت غزة أسلوبها الخاص في الصمود.
وقد بذلت حركة "حماس" مؤخرًا عدة جهود لتغيير مواقف الدول الإقليمية منها، وفي مقدمتها تعاونها مع تنظيمات فلسطينية أخرى أمثال "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" لتنظيم مسيرة العودة الكبرى في 30 آذار/مارس 2018. ويُذكر أن المسيرة كانت في بدايتها عبارة عن احتجاج شعبي لاعنفي ضد الحصار الإسرائيلي، ولكنها تطورت تدريجيًا إلى محاولات لاختراق السياج الفاصل بين غزة وإسرائيل وإلى أعمال عنف أخرى مثل إشعال الحرائق بواسطة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة. وفي آخر التطورات، صدر تقرير عن الأمم المتحدة في 28 شباط/فبراير يذكر أن إسرائيل استخدمت النيران بشكل غير متناسب مع حجم التهديد وتعمّدت إطلاق النار على الأطفال والصحفيين. والواقع أن هذا التقرير الأخير سيكون في عيون الحركة وأهالي غزة على حدٍّ سواء بمثابة انتصار لحركة "حماس" ومنظّمي الاحتجاجات، لا بل إن "حماس" تعهّدت بألا تنتهي المسيرة إلا برفع الحصار الإسرائيلي عن غزة.
وفي النهاية، لا بد من فهم هذه الاستراتيجية في سياق الآمال التي تعقدها حركة "حماس" على إقامة هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل ووضع حد للحصار الإسرائيلي. فهذه الهدنة ستخفف عن كاهل الحركة بعض الشيء بعد اثنتي عشر سنة من الحصار وثلاثة هجمات عسكرية شنتها إسرائيل بين عام 2008 و2014 وكبّدت البنى التحتية المتداعية في غزة أضرارًا جسيمة. ولكن في آب/أغسطس 2018، هددت "السلطة الفلسطينية" بقطع مساعداتها المالية عن الخدمات التعليمية والصحية في غزة لتترك مسؤولية هذين القطاعين على عاتق إسرائيل بهدف منعها من التفاوض. وما يدفع "السلطة الفلسطينية" إلى مثل هذا التصرف هو اعتقادها أن أي صفقة منفصلة بين "حماس" وإسرائيل قد تقوّض شرعيتها وتؤدي إلى قيام كيان ذي استقلال دائم في غزة وخاضع لحكم حركة "حماس". ولكن، مع أن "السلطة الفلسطينية" نجحت حتى الآن في عرقلة مساعي "حماس" لعقد هدنة طويلة الأمد، لا تزال "حماس" مقتنعة بإمكانية حدوث هدنة طويلة مع إسرائيل – وهذا رهنٌ بنتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة.
وفي أعقاب هذه المحاولة الفاشلة بالتوصل إلى هدنة، كانت مصر والأمم المتحدة وقطر تبذل كلٌّ منها المساعي لصون اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت له مصر في نهاية الحرب الإسرائيلية على غزة في صيف 2014. واضطلعت مصر بالتحديد بدور محوري في إخماد الأزمة، ويعود ذلك جزئيًا إلى تخوفها من اندلاع أعمال عنف بين "حماس" وإسرائيل تترك تداعيات سلبية على أمنها في سيناء التي تمتد حدودها المشتركة مع غزة على مسافة 14 كيلومتر. وتجسّد هذا الخوف في سياسة اتخذتها مصر بفتح معبر رفح بين غزة ومصر في منتصف أيار/مايو 2018، علمًا أن "السلطة الفلسطينية" سحبت أجهزتها الأمنية من المعبر في مطلع كانون الثاني/يناير 2019 احتجاجًا على المعاملة السيئة التي تلقتها هذه الأجهزة على يد "حماس"، لكن مصر قررت إبقاء المعبر مفتوحًا لتفادي تأجيج التوتر بين "حماس" وإسرائيل وحدوث أزمة إنسانية في غزة.
ويبدو أن مساعي التفاوض المصرية لا تزال تلقى تجاوبًا كبيرًا من "حماس". فقد عاد أحد كبار مسؤولي الحركة وهو اسماعيل هنية لتوه من زيارة إلى القاهرة دامت 24 يومًا وتخللتها لقاءات مع كبار المسؤولين الأمنيين وزيارات إلى أهم المؤسسات الدينية في مصر كالجامع الأزهر. واختتم هنية جولته بضمان الإفراج عن أربعة من عناصر القوات الخاصة التابعة للحركة – وهم ينتمون إلى الجناح العسكري لحركة "حماس" وألقي القبض عليهم في سيناء في آب/أغسطس 2015 في طريقهم من معبر رفح إلى مطار القاهرة. وبالنسبة إلى هنية وغيره، تُعتبر عودة هؤلاء العناصر إلى غزة إنجازًا مهمًا لـ"حماس" من شأنه التخفيف من حدة التوتر مع إسرائيل، فيما يعتبره آخرون تمهيدًا لتبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل. هذا وترسخ هذه الزيارة الأخيرة الاعتقاد السائد في غزة بأن العلاقة بين "حماس" والقاهرة تحسنت بشكل كبير في السنتين الماضيتين.
وعلاوةً على دورها في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، تلعب مصر أيضًا دور الوسيط بين "حماس" وغريمتها حركة "فتح" منذ سنوات. لكن هذه المساعي لم تحرز أي تقدم حتى الآن، علمًا أن روسيا انضمت إلى مصر من أجل إنهاء الانقسام السياسي الفلسطيني ووجهت في هذا الإطار دعوةً إلى مجموعة من الفصائل الفلسطينية، من بينها "حماس" و"فتح"، في منتصف شباط/فبراير، لكن هذا الاجتماع لم يفضِ حتى إلى بيان مشترك.
إذًا يمكن القول إن "حماس" و"فتح" وصلتا إلى نقطة اللاعودة. فإمكانية إنهاء الخلاف السياسي وإعادة الوحدة الفلسطينية معدومة في المستقبل القريب. ذلك أن المنافسة السياسية بين "فتح" و"حماس" ومذهبهما السياسي المتباين ومصالحهما الخاصة قضت على فرص المصالحة بينهما، أضف إلى ذلك أن "السلطة الفلسطينية" ليست مستعدةً لمناقشة مسألة تشارُك السلطة في غزة مع "حماس". ونظرًا إلى فشل المصالحة الفلسطينية وتدهور المعيشة في غزة، قد تضطر كل الأطراف المعنية – أي إسرائيل ومصر وقطر والأمم المتحدة و"حماس" – إلى السعي مجددًا لإقامة مفاوضات مباشرة حول غزة.
والأرجح أنه يجدر الانتظار لما بعد الانتخابات الإسرائيلية المرتقبة في 9 نيسان/أبريل وتشكيل حكومة ائتلاف جديد قبل إجراء أي تغيير كبير في الوضع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في غزة. ولعل خطة السلام التي وضعتها الولايات المتحدة وروجت لها بصفتها الصفقة المثلى تحمل معها بعض الراحة وبعض الأمل للفلسطينيين اليائسين في غزة، ولكن من المستبعد أن يتم الكشف عنها قبل الانتخابات الإسرائيلية. وحتى ذلك الحين، يجب على الولايات المتحدة أن تشجع مصر وقطر والأمم المتحدة على الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس"، وينبغي أيضًا على الإدارة الأمريكية أن تشجع قطر والدول الخليجية الأخرى على المساهمة في تفادي تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة عبر الاستمرار بدفع تكلفة الوقود اللازم لمحطة الطاقة في القطاع وغير ذلك من المشاريع الملموسة القادرة على التخفيف من حدة الفقر والبطالة فيه. من هنا، وإلى حين حدوث تغيرات على الساحة الدولية، ستظل غزة مضطرةً للكفاح من أجل البقاء في ظل بيئة سياسية متقلبة.