- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
حول أهمية الحوار
يعتبر التفاهم المتبادل بين طرفي حوار ما أحد أهم المكاسب الأساسية التي يثمرها تبادل الأفكار بينهما، وهذه الحقيقة لا يمكن أن ينكرها أي عاقل. فإذا كان طرفا صراع ما يتشبثان بوجهات نظر متباينة يصعب التوفيق بينهما، فإن فتح قنوات للحوار بينهما يساهم في خلق مناقشات مثمرة وغنية، مما يتيح فرصاً لكل طرف كي يراجع مواقفه، ويعمل على محاولة فهم موقف الطرف الآخر. ومن ثم، التعرف عليه أكثر بصفته "العدو والخصم "، الشيء الذي يخلق نقلة نوعية في عملية تسوية تلك الصراعات. وهذا التفاهم المتبادل هو ما تحتاجه اليوم أطراف الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط والتي باتت تعاني من اضطرابات مستمرة.
وشخصياً، عشت حالة مماثلة، حيث تبادلت أطراف الحديث مع شخص غير مسلم، صرح بأن القرآن يؤيد معاداة السامية، لكونه يصف اليهود بـ "القردة والخنازير". فما كان مني، إلا أن أرد عليه موقفه، حيث أشرت إلى أن الآيتين اللتين تطرقتا إلى ذلك، قد ذكرتا ـ في الواقع ـ معاقبة الله لهؤلاء الذين انتهكوا حرمة العمل يوم السبت، من خلال تحويلهم إلى قردة وخنازير. وهكذا تمت مناقشة وتوضيح سوء الفهم بيننا بالكلمات بدلاً من السيوف، لينتهي الحديث إلى اتفاقنا ـ أنا وهو ـ على أن هؤلاء الذين قصدهم القرآن، قد عوقبوا على تجاهلهم الوصايا العشر، وليس بسبب معتقداتهم الدينية الخاصة.
وللتفصيل أكثر في الموضوع، أشير إلى أن بعض المسلمين وغير المسلمين، ذهبوا أبعد من ذلك في تفسيرهم، معتبرين أن معاداة السامية كانت جلية كوضوح الشمس في أحد أحاديث الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، والذي يرى: "أنه (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر. فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله)، ولن تفعل شجرة الغردق ذلك، لأنها واحدة من أشجار اليهود". لكن المراجعة الشاملة للقرآن الكريم توضح أنه لا وجود لمثل هذه الأفكار بل وانه يتعارض تماماً مع ما ورد من نصوص في القرآن الكريم. ولقد أشرت إلى هذا، وأخبرت هؤلاء الذين ينقلون هذا الاقتباس، بأن الرسول أعطى تعليمات لأتباعه بأن يرفضوا جميع الأحاديث التي تتعارض مع القرآن الكريم. فالحديث هو كلام الإنسان، أما القرآن الكريم فهو كلام الله سبحانه وتعالى. وأكررها مرة أخرى، الحوار سيسمح بظهور بعض التفسيرات الجديدة الأكثر دقة، والتي تشبه التفسير السالف ذكره.
لقد تم تصحيح مثل هذا النمط الافتراضي الخاطئ، من خلال المناقشات التفاعلية التي قمت بها مع بعض المسلمين. ومن أكثر المواقف البارزة التي لازلت أتذكرها، موقف عشته حينما شدَّدَ أحد الزملاء المسلمين في إحدى المرات، على التشبث بالدين، مؤكداً على وجوب الصرامة تجاه أولئك الذين يتركون الإسلام، مُصِرّاً على أن يكون الموت هو العقاب المناسب لهم. فما كان مني إلا أن قرأت له بعض الآيات التي تسلم بأن الله وحده هو من يحق له محاسبة المرتد وقد يعفو عنه.
ويمكن القول بأن هناك سوء فهم عام بين جميع أطياف المجتمع المسلم في العديد من القضايا. فمثلاً، هناك تسليم عند البعض بأن اتباع "يسوع المسيح" هم من غير المؤمنين، وقد أشرت في ردي على ذلك الى الآية القرآنية التي تصف أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقرر يوم القيامة في الأمور التي نختلف بها فيما يخص إيمان المسلم، وأيضاً فيما يتعلق بعدة قضايا خلافية أخرى، حتى يزول الالتباس، وينتفي سوء الفهم. كما أن في إحدى الاوقات أكد شيخ مسلم على أن عقاب المرأة الزانية بالرجم بالحجارة الى أن تموت وعندما ناولته المصحف الشريف ليحدد لي الآية ارتبك ولم يجدها.
ومثلما يساهم الحوار في توضيح النقاط الخلافية المتعارف عليها والمتعلقة بالاختلاف الديني، يمكن أيضاً، لأي حوار جاد أن يساعد في سد النزاعات الشخصية والفجوات الدينية والسياسية وخاصة ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فإذا ما اكد الفلسطيني بأن إسرائيل هي "دولة فصل عنصري"، وفي المقابل، رد عليه الإسرائيلي بأن إسرائيل هي "دولة ديمقراطية "، فينبغي على كلا الطرفين على حد سواء، أن يُقَدٍّمَا أدلة وحججاً تدعم ادعاءاتهما ووجهة نظرهما. وقد نجد أن كلا الطرفين على حق، بمعنى: أن هناك بعض القوانين في إسرائيل تعطي أفضلية لليهود على حساب غير اليهود، كما أن هناك أيضاً، قوانين تتطلب أن يعامل جميع المواطنين على قدم المساواة أمام القانون والمحاكم. ومن خلال ذلك الحوار، يمكننا كشف التناقضات ومعالجتها، بغية الوصول إلى تفاهم مشترك حول القضية موضع النقاش.
إن إنشاء قنوات إضافية للحوار، يمكن أن يؤدي إلى كشف المزيد من الحقائق التي قمنا على أساسها ببناء أنظمة متفاوتة، ومن شأن المناقشة التي تدور حول رؤيتنا ورؤية الآخر، أن تدفع هؤلاء الذين يصفون إسرائيل بالدولة العنصرية، إلى أن يفسروا سبب اعتقادهم بذلك. ومن ثم، يمكن لهذا التفسير أن يوضح الرؤية أمام الديمقراطيين داخل إسرائيل، مما قد يشجعهم على العمل من أجل تغيير تلك القوانين التي يرى فيها الفلسطينيون تمييزاً ضد غير اليهود، أو ضد اليهود أنفسهم. والأمر نفسه ينطبق على الطرف الآخر، فعندما يوصف الفلسطيني بأنه إرهابي، فلا داعي إلى أن نستبعد على الفور تلك الادعاءات الإسرائيلية، وإنما يستوجب علينا أن نناقش المسألة، فنعمل على فحصها وتمحيصها، حتى ندرك مدى صوابها، أو مجانبتها للحقيقة للرد عليها وشرح موقفنا منها.
إنني أدرك تمام الإدراك، بأن هناك من سيختلفون معي من كلا الجانبين، لكن بدلاً من أن ندعم معسكراً ضد معسكر أخر، وبدلاً من أن نخضع لمتلازمة "أنا على حق، وأنت على باطل"، يمكننا أن نصطف بجانب الحقيقة. فتمحيص الادعاءات والبحث عن الحقائق سيساهم في تمهيد الطريق أمام المصالحة والسلام، ولا سبيل إلى الوصول لتلك الغايات، إلا من خلال الحوار ونبذ العنف.
وأخيراً، ربما قد يؤدى الإرهاب والعنف إلى إسكات الباحثين عن الحقيقة في زمن ما لفترة ما، لكن الحقيقة دائماً هي التي تسود في نهاية المطاف.
محمد سليمان الدجاني الداودي هو مؤسس حركة الوسطية للإسلام المعتدل ومدير معهد الوسطية الاكاديمي لدراسات الدكتوراة في التسامح والوسطية والاخلاق في القدس. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"