- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كردستان في الصين: هل العلاقة مع بكين تهم أكراد العراق؟
يتوسّع وجود الصين في العراق وكردستان العراق بوتيرة سريعة في وقت ترسّخ فيه وجودها في مختلف أرجاء الشرق الأوسط.
وعليه، أصبح عهد تدخل الصين المحدود في المنطقة من الماضي وتوطدت علاقاتها بالمنطقة في خلال وباء كورونا إذ زوّدت الدول باللقاحات والإمدادات الطبية وعبّر مسؤولو المنطقة وشعوبها عن قلقهم المتزايد إزاء الانسحاب الأمريكي من المنطقة.
وتجلى هذا الاتجاه أيضًا في "إقليم كردستان العراق" حيث وسّعت الصين علاقاتها لتتجاوز سوق النفط التقليدي. فقد صدّرت إمدادات طبية إلى الإقليم، كما عقد القنصل العام الصيني ووزير الصحة في الإقليم مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا في أربيل، ووقعت كذلك شركات صينية عقودًا لبناء مدارس في أرجاء العراق وأصبح تعليم اللغة الصينية شائعًا على نحو متزايد في أربيل. وحاليًا، تتنافس الصين مع قوتيْن إقليميتيْن، هما إيران وتركيا، لإغراق السوق الكردي المحلي بالسلع. وتزداد أهمية الشركات الصينية أكثر فأكثر لتتفوق على الشركات القائمة منذ فترة طويلة، ولا سيما الغربية منها، من خلال توقيع عقود في مجالات مختلفة، ولا سيما في قطاع النفط.
وفي هذا السياق، أوضح أحد المستشارين في شركة نفط دولية للكاتبيْن أن الشركات الصينية تفوز بالمناقصات بشكل أسهل من الشركات الغربية في العراق لأنها شركات مملوكة للدولة وتتمتع بمرونة كافية تخوّلها إيلاء أمن الطاقة الأولوية على الأرباح. وفي المقابل، تقيّد الأنظمة الشركات الغربية وتثنيها عن ممارسة الأعمال في بيئة محفوفة بالمخاطر والفساد. وخلال السنوات القليلة الماضية، ما عادت شركات نفط عالمية كبرى تبدي اهتمامًا كبيرًا بالاستثمار في العراق وقد غادرت البلاد بشكل كلي. وعلى الرغم من القلق الذي ينتاب الحكومة العراقية، فهي عاجزة عن ردع الشركات من مغادرة البلاد بسبب طبيعة عقود النفط العراقية (عقود خدمة) وتأميم النفط.
العلاقات بين الصين وإقليم كردستان العراق
كما هو الحال مع باقي العراق، فإن العلاقات الصينية مع "إقليم كردستان" متباينة. ففي الآونة الأخيرة، وقعت وزارة الزراعة في حكومة الإقليم والمجموعة الدولية لشركة "باور تشاينا" مذكرة تفاهم لبناء أربعة سدود في الإقليم. وصرّحت وزيرة الزراعة والموارد المائية في إقليم كردستان بيكرد طالباني بأن الشركة الصينية قدّمت صفقة أفضل تكبّد الإقليم تكاليف أقل. وفي عام 2020، وقعت الصين عقدًا لتطوير مشروع سكني وترفيهي بقيمة 5 مليارات دولار في أربيل أُطلق عليه اسم هابي ستي (المدينة السعيدة).
مع ذلك، وفي حين تتوسّع الصين في المجالات كافة ضمن الإقليم، تبقى العلاقة أحادية الجانب بشكل ملحوظ. ويُذكر أن الصين فتحت قنصليتها العامة في أربيل في عام 2014 حين كان "إقليم كردستان العراق" يحارب تنظيم "داعش". فبالنسبة إلى الصينيين، شكلت هذ الخطوة فرصة لإظهار التضامن. وفي المقابل، وصف مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية الخطوة بأنها استغلال صيني لضعف الإقليم في وقت يبذل فيه جهوده كافة للبقاء والاستمرار. ولكن بغض النظر عن الدافع، تكتسي العلاقات الثنائية مع الصين أهمية بالنسبة إلى النخبة الدبلوماسية في الإقليم التي تدرك أهمية عضوية الصين الدائمة في مجلس الأمن. ومن خلال محادثات خاصة ومقابلات، علمنا أن الصين هي الدولة العضو الدائمة الأخيرة في المجلس التي تفتح قنصلية في أربيل، وقد فعلت ذلك نزولًا عند رغبة كبار الدبلوماسيين في الإقليم وإصرارهم.
ولكن بعد مرور سبع سنوات على افتتاح القنصلية العامة للصين في أربيل، لم يفتح "إقليم كردستان العراق" بعد مكتبًا له في بكين. وتشرح النخبة التي تُعنى باتخاذ القرارات هذا التباين بطرق مختلفة. ففي خلال محادثة خاصة أجريناها مؤخرًا مع السفير العراقي السابق لدى الصين، محمد صابر، أعرب هذا الأخير عن حماسه الكبير إزاء الصين وثقافتها. فضلًا عن ذلك، شرح صابر أنه بعد طلب الأكراد من بكين السماح بتمثيل سياسي كردي في الصين في عام 2007، أجاب المسؤولون الصينيون الرئيس العراقي جلال طالباني، الذي لطالما أعلن انتماءه للفكر الماوي، أن الإقليم يستطيع أن يفتح مكتبًا تجاريًا ليس إلا مسجلًا باسم شركة.
وصحيح أن الصين لم تكن ترغب فعلًا في فتح المكتب، ولكنها أرادت إنشاء قناة تواصل مع كردستان العراق، في إطار علاقة لا تقوم على الاعتراف بالإقليم. وتنبع التحفظات الصينية إزاء الروابط الدبلوماسية الرسمية مع "إقليم كردستان العراق" من المخاوف بشأن انعكاسات الاعتراف بحكومة إقليمية ضمن دولة.
فمن جهة، تخشى الصين من أن الاعتراف بالإقليم قد يدفع بالمقاطعات الصينية إلى المطالبة بدور في سياسة الصين الخارجية. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الحكومة المركزية في بكين تحتكر كل جانب من جوانب الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يمنع حكومات المقاطعات من إبداء رأيها في صنع القرارات الخارجية، وبالتالي، لن ترغب الصين في اتخاذ قرار بشأن السياسة الخارجية قد يهدّد هذا الترتيب المحلي. علاوةً على ذلك، فإن مواقف "الحزب الشيوعي الصيني" إزاء تايوان وهونغ كونغ ورفضه الشديد للنزعة الانفصالية، تجعله يخشى إقامة علاقات مع كيان شبه حكومي. وفي حين تزعم الصين عدم تسييس نفوذها، أدركنا في خلال المقابلات التي أجريناها أنها تمنع "إقليم كردستان العراق" من إقامة علاقات مع تايوان.
غير أن الدبلوماسيين الصينيين يروون قصة مختلفة تمامًا لدى سؤالهم عن هذا التباين. ففي عام 2021، قال القنصل العام الصيني لدى أربيل، ني روتشي، إن الإقليم لم يفتح مكتبًا في بكين لأنه لم يقدّم طلبًا بهذا الخصوص. وأفاد السفير السابق محمد صابر من جهته أن هذا الحديث دبلوماسي أكثر منه واقعًا.
أما فلاح مصطفى، كبير مستشاري رئيس "إقليم كردستان العراق"، فقال إن للإقليم خططًا لزيادة عدد ممثليه عالميًا، بما في ذلك في شرق آسيا، ولكن هذه المبادرة واجهت عدة تحديات وانتكاسات. وشرح مصطفى أن تخفيض بغداد حصة كردستان من الميزانية الوطنية وغزو "داعش" وتدفق اللاجئين والمشردين داخليًا إضافةً إلى تراجع أسعار النفط عالميًا، شكلت عوامل حالت دون تقديم الإقليم طلبًا لفتح مكتب رسمي في بكين.
وأكّد دبلوماسيون رفيعون آخرون من الإقليم هذا التبرير، قائلين إنهم لم يقدموا طلبًا إلى بكين نظرًا إلى أن الإقليم يخضع لتدابير تقشف صارمة ولا يملك الأموال والموارد الضرورية لهذه الخطوة.
واستنادًا إلى الباحث في شؤون الصين والشرق الأوسط إسحاق شيشور، "يتمثل أحد أبرز مكونات سياسة الصين المحلية والدولية ما بعد ماو في معارضة الانفصالية. وتنطبق هذه القواعد أيضًا على الأكراد". ولكن الأحداث الأخيرة تفسح مجالاً إضافيًا أمام الصين للمناورة في ما يتعلق بتمثيل رسمي لإقليم كردستان في بكين. واستنادًا إلى اعتراف العراق الدستوري بالكيان الكردي وردّ الفعل الدولي على استفتاء عام 2017، يمكن للصين تهدئة مخاوفها السابقة بشأن أي تداعيات قد تضر في أي تمثيل كردي في بكين.
وفي حين لا تزال الصين حذرة من إقامة علاقات رسمية مع الإقليم، تسعى القنصلية الصينية في أربيل إلى تمتين علاقتها معه من خلال قنوات غير رسمية، إذ تصبّ تركيزها على إقامة روابط مع الأحزاب السياسية أكثر منه مع الحكومة. وتسعى الحكومة الصينية بشكل خاص إلى استقطاب كوادر الأحزاب السياسية البارزة، أمثال "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني وحركة التغيير المعروفة باسم " گۆڕان". وبحسب مقابلات مع كبار المسؤولين الحزبيين، تتمّ دعوة وفدين كل سنة إلى الصين، أحدهما يضمّ كبار أفراد الحزب والآخر مسؤولين حزبيين من المستوى المتوسط. وفي الواقع تحيط شكوك متزايدة بوجود الصين وتوسعها في كردستان والعراق. ففي حين أن المشاريع الصينية الضخمة تستقطب العراق وكردستان على السواء، وأن الكثير من القوى السياسية العراقية تفضّل مسار التنمية على الديمقراطية، تقضّ التوترات العالمية المتنامية بين الصين والولايات المتحدة مضجع القادة المحليين.
في هذا السياق، قد يُعزى عدم فتح "إقليم كردستان العراق" مكتبًا تمثيليًا له في بكين إلى عدم اهتمام متبادل من الجانب الصيني والكردي لأسباب تخصهما. فلا يمكن للأكراد أن يضحوا بالتنمية الاقتصادية، ولا سيما في وقت تستعد فيه قوى إقليمية أخرى للتدخل والتوسع في العراق.