- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيان فوق الشبهات أم جسد من الأكاذيب
بدأت الميليشيات الشيعية تفقد السيطرة على روايتها وأظهرت دوافعها الحقيقية.
في منتصف عام 2018 اتصل بي عدد كبير من المطرودين من الحشد الشعبي للوقوف معهم من اجل إرجاعهم الى وظائفهم، وكان اغلبهم من حملة الشهادات وممن يعملون بوظائف إدارية ولوجستية، وكانوا مستقلين لا يرتبطون باي حزب أو مليشيا أو فصيل، ولم ينضموا للحشد عن طريق عشيرة أو بتوصية من رجل دين أو زعيم متنفذ.
إن ما دفعهم للانضمام للحشد الشعبي هو فتوى المرجع السيستاني، وطلبهم لمرتب شهري يستعينون به على المعيشة وبعضهم كان يعيل زوجة وأولاد، تقصيت عن أحوالهم فوجدت انهم لم يحصلوا على تعيين حكومي لا في زمن المالكي ولا في زمن العبادي لان الوظائف في ذلك الوقت كانت تقسم بين الأحزاب والكتل السياسية.
هؤلاء انفسهم كان لهم دور كبير فيما بعد في المشاركة بانتفاضة أكتوبر 2019، فقد شعروا بانهم تم قذفهم خارج مؤسسة الحشد الشعبي وإبقاء من يثقون بولائه وطاعته والتزامه بالتعليمات المليشياوية، وقفت مع هؤلاء الشباب وأجريت عددا من الاتصالات لإيصال مظلوميتهم الى جهات متنفذة في الحكومة والحشد والمرجعية، كما تحدثت في عدد من اللقاءات التلفزيونية والإذاعية عن معاناتهم، ونشرت على صفحتي على الفيسبوك عددا كبيرا من المنشورات بين فيها أهمية إنصافهم، ولكن بلا جدوى ، كان القرار قد اتخذ بحقهم وتم إبعادهم بلا رجعة، وكانت هذه أول شبهة بالنسبة لهؤلاء الشباب حول كيان ينظرون له على انه فوق الشبهات- وهو اتجاه متزايد يشير إلى حدوث انشقاقات في سمعة قوات الحشد الشعبي التي لم يكن من الممكن تعويضها.
هكذا أراد المصرون على قدسية الحشد الشعبي أن ينظر الجميع للمليشيات، (كيان فوق الشبهات)، كيان مبارك ومقدس بل معصوم، لا يجوز انتقاده أو توجيه أي عتاب لقادته أو عناصره، بل يجب دعم هذا الكيان على أي حال وبكل الطرق، حتى لو تضمنت طرقا غير قانونية وغير إنسانية وغير شرعية.
وفى هذه الرواية، ينظر للحشد الشعبي على انه كيان حامي للعراق ومدافع عن الشيعة المظلومين المقهورين، لقد خلقوا منه دولة موازية لإلغاء الدولة الانتخابية التي تمثل الشعب، ومذهب بديل ينتحل صفة الشرعية ويأخذ دور المرجعية الدينية ، وكان كل ذلك يجري في اطار عملية إيهام منهجية تدعمها متواليات إعلامية تركز على الضغوطات النفسية وتتضمن تشويه سمعة كل من يحاول النقد من اجل التصويب فضلا عن من يوجه نقدا لاذعا للممارسات اللاإنسانية أو نقدا ساخرا للسلوكيات غير المحسوبة، والهدف من صناعة كيان فوق الشبهات كان لحماية المليشيات وضمان عدم المساس بسمعتها فضلا عن اتهامها بجرائم القتل وعمليات الفساد الممنهج ، وهذا ما تحقق على ارض الواقع بالفعل في ما بين عامي 2014 و 2019 فقد تصاعدت شعارات (حماة الأعراض) وأصبحت هذه العبارة مرادفة للمليشيات المحمية بقدسية الحشد الشعبي.
الرسالة المستدامة لابي مهدي المهندس
في الثالث عشر من شهر يناير عام 2019 جمعنا لقاء بابي مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، وكان من بين الحضور المرحوم هشام الهاشمي، تحدثت شخصيا مع أبي مهدي المهندس عن إشكالات في هيئة الحشد الشعبي كتشكيل هيئات اقتصادية لبعض الفصائل في المناطق المحررة تنافست مع جهود موازية لإعادة إرساء سيادة القانون. وذكرت له مسألة المطرودين من الحشد وذكرته بتضحياتهم، لكنه لم يبالي وعد هذه المسائل صغيرة لا تستحق المناقشة ودعا الى التركيز على حماية الحشد الشعبي والوقوف معه لأنه حامي العراق.
لم تنجح كل المحاولات المباشرة وغير المباشرة لوضع الحشد الشعبي تحت مجهر النقد الموضوعي والتقييم المهني والتقويم المنتج ، بل تصاعدت جهود غسيل الأدمغة وقامت مديرية إعلام الحشد الشعبي برفد عملية تقديس الحشد الشعبي عبر إضافة لمسات إبداعية كالحرص على انضمام فنانين وشعراء ورياضيين وشخصيات حقوقية وإنسانية وإعلاميين فضلا عن المدونين الى برامجها الإعلامية والدعائية ، فقد انضم كل من الفنانة عواطف السلمان واللاعب بسام رؤوف ومدير البيت الأمن للأيتام هشام الذهبي وعدد أخر من الشخصيات المعروفة في مشاريع تدعيم سمعة الجناح المليشياوي من الحشد التي هي عبارة عن ألية فريدة من نوعها لحماية المليشيات ، كما انتفع عدد من الوجوه الليبرالية من الهبات المالية التي يوزعها مهند العقابي مدير إعلام الحشد على من يريد استمالتهم أو انصهارهم في مشروع التلقين الجماهيري.
قنوات فضائية بصبغة ليبرالية لخدمة المليشيات
وبموازاة العمل المكشوف لخلق كيان فوق الشبهات كانت هناك خطة موازية اعتمدت على ركيزتين، الأولى: إدامة جهود الجيوش الإلكترونية وإضافة عناصر جديدة لعملها، وقسم من هؤلاء العناصر يسمونهم التائبين الذين عرفوا الحقيقة واهتدوا إليها كالكاتب والمدون اسعد البصري الذي تحول من التهجم على الحشد والشيعة الى مدحهم واللقاء بقادتهم وكوادرهم، وكاد أن ينزلق في هذا الاتجاه الدكتور يحيى الكبيسي الذي حضر اجتماع تحالف البناء الذراع السياسي للحشد الشعبي.
أما الركيزة الثانية: فكانت إنشاء قنوات متحررة مغلفة بإطار ليبرالي أو علماني ولكنها مجرد واجهات لمليشيات كقناة (أي نيوز) التابعة لكتائب سيد الشهداء المنشقة عن كتائب حزب الله، وقناة (الولاء) التي تحولت الى قناة (وطن) والتابعة لابي تراب التميمي المنشق عن منظمة بدر والملتحق بكتائب حزب الله، وفي هاتين القناتين توجد خلايا إعلامية وجيوش الكترونية يديرها جواد الحلفي وعبد الأمير العبودي.
ولكن كل هذا العمل الذي تطلب أموالا وجهودا كبيرة من اجل خلق كيان فوق الشبهات بدأ يتعرض لضربات موجعة جعلته يترنح ويتشكى. بدءً من سوء التقدير القيادي الذي كان يشرف عليه أبو مهدي المهندس في مسالتي السيطرة على فصائل العتبات المقدسة ، وعدم تأثير الضغط الأمريكي على الواقع السياسي العراقي ، ومرورا بمغامرة المليشيات لدعم حكومة عبد المهدي وانتهاءً بالمشاركة المباشرة بضرب الاحتجاجات الشعبية ، ففي اللقاء المذكور أعلاه قال أبو مهدي المهندس بوضوح :( أننا مع الحكومة ولا نسمح لاي احد بإسقاطها ولا نسمح بحل الحشد الشعبي أو تجميده أو إيقاف تمويله ، والأمريكيين لا يستطيعون السيطرة على نشاطنا ، وأضاف : طورنا صواريخ ونشرناها في غرب العراق واذا ضربنا الأمريكان سنرد ، ولكن استبعد أن تضرب أمريكا الحشد أو الفصائل.
كل ذلك كان اعتمادا على أن الحشد الشعبي كيان فوق الشهاب ومدعوم شعبيا وشرعيا ويتمتع بغطاء قانوني وثقل سياسي، ولكن الذي حصل هو أن الحشد الشعبي تحول الى كيان من الأكاذيب وتستغل المليشيات هذا الكيان لتمرير مشاريعها وتنفيذ مصالحها، والكثير من الناس داخل الحشد الشعبي يعرفون هذه الحقيقة حاليا، ولكن يرافق الوعي بالحقيقة خوف من القمع وقطع الأرزاق.
تراجع خيارات المليشيات العراقية لحماية وجودها
توظف المليشيات العراقية الكثير من العوامل الحيوية للدفاع عن وجودها في العراق وحماية قياداتها وعناصرها، وفي خضم الصراع بين هذه المليشيات والعراقيين الشرفاء التواقين لنصر وطني حقيقي يعيد للعراقيين الإحساس بانتمائهم تتساقط أوراق القوة التي تحتمي بها هذه المليشيات واحدة بعد الأخرى.
كان خط الدفاع الأول لهذه المليشيات لحماية تحركاتها هو ترويج مساهمتها في إجلاء القوات الأجنبية لتحقيق السيادة العراقية مطلع العام 2012، إلا أن العراقيين عرفوا بعد ذلك بان أهدافهم من إخراج القوات الأجنبية كانت من اجل توسيع النفوذ الإيراني في العراق، وهذا ما حصل بالفعل، وسقط قناع الوطنية الذي ترتديه هذه المجموعات المليشياوية.
ثم جاءت الموجة الثانية من تبرير وجودهم المسلح وعبروا عنها طائفيا ومذهبيا فقد أعلنوا عن حمايتهم للشيعة في مقابل الهجمة العربية والسنية وصرحوا علنا برغبتهم بمهاجمة المملكة العربية السعودية، إلا أن هذا التبرير غير الموضوعي سقط بسرعة عندما اتفقوا سياسيا مع شخصيات سنية كخميس الخنجر واحمد أبو ريشة كانوا يتهمونها بالإرهاب والإضرار بمصالح الشيعة الاستراتيجية.
لقد تبين للشيعة بان قادة هذه المليشيات يتاجرون بقضيتهم ومستعدين للتخلي عن مصالح الشيعة لصالح إيران ومنافعهم، ثم سقطت هذه الورقة بالكامل عند اندلاع انتفاضة أكتوبر/تشرين التي كان عمقها الحقيقي وامتدادها الطبيعي هو المناطق الشيعية حيث ضربت هذه المليشيات المتظاهرين الشيعة واردتهم قتلى أمام أنظار العالم اجمع.
أما ورقة تخفيهم بجلد الحشد الشعبي الذي تشكل بفتوى السيستاني كانت مكشوفة منذ البداية ويعرف الكثير من العراقيين أن التحاقهم بالحشد ما هو إلا تضليل ونفاق الهدف منه توسيع أنشطتهم وتقليل انتقادهم، لكن هذه الورقة سقطت مؤخرا على يد ألوية العتبات حيث انقسم الحشد الشعبي الى حشد العتبات المقربة من المرجعية والمعروفة بتوجهاتها الوطنية وانتقاد قادتها لإيران ورموز المليشيات.
وحاليا تقوم احدى اكبر المليشيات وأقواها وهي كتائب حزب الله بتوظيف خيار جديد لحماية قادتها وعناصرها وهو الاحتماء بالعشيرة والتهديد القبلي، حيث يقوم كل قيادي في الكتائب بعملية ترغيب لرئيس العشيرة التي ينتمي إليها والتقرب منه لكسب وده ومن ثم الدفاع عنه عند محاولة إلقاء القبض عليه أو مضايقته من قبل الحكومة أو القضاء أو مليشيا أخرى، وكذلك تهديد أبناء القبيلة الذين ينتقدون الكتائب عن طريق رئيس قبيلتهم، كما يفعل أبو حسين الحميداوي الأمين العام لكتائب حزب الله بتهديد أبناء عشيرته عن طريق رئيس العشيرة سامي الحميداوي، وهذا الخيار هو أخر ما ابتكرته العقلية المليشياوية في العراق.
لقد أصبح واضحا أن هذه المليشيات التي تتخفى تحت عباءة الحشد الشعبي لا تعترف بفتوى السيستاني وتمارس دورا لصالح إيران وهي على استعداد للإضرار بمؤسسات الدولة والقوى الأمنية خصوصا بعد تهديد تسمياتها الجديدة كمجموعة قاصم الجبارين وأصحاب الكهف لجهاز مكافحة الإرهاب بالابتعاد عن الأرتال المدنية التجارية التي تنقل الاحتياجات اللوجستية للتحالف الدولي، وبهذا تفقد المليشيات الكثير من أوراق القوة وتتراجع خيارات حمايتها لوجودها. إنها فقط مسألة وقت، حيث أصبح هذا النقص في المبررات موضوع النقاش العام، لا سيما بين أولئك الذين انضموا إلى الحشد الشعبي بسبب الشعور بالوطنية والحاجة إلى التوظيف.