- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف تساهم أيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية في صموده؟
إن تصور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" الاستراتيجي حول المنطقة الجغرافية والوقت والانتصار يمثل عنصرا حاسما لإمكانية عودة ظهوره في المستقبل.
بالرغم من أن تنظيم "الدولة الإسلامية "قد تعرض لضربات موجعة خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية، إلا أن التنظيم أثبت قدرته الكبيرة على الصمود، حتى أنه قام بتوسيع أراضيه وتنويع عملياته عامي 2020 و2021. نظرًا للتأثيرات الجذرية لتنظيم الدولة الإسلامية على الشرق الأوسط وما بعده، يُعتبر فهم نظرة التنظيم لمكانته في العالم أساسيًا لعمليات مكافحة الإرهاب الحالية والمستقبلية. على وجه الخصوص، في ما يتعلق بالجهود التي قد يبذلها للتوسع في المستقبل القريب، من الضروري توصيف نظرة التنظيم للمعايير العامة المحيطة بنضاله، ولا سيما المكاسب والخسائر في الأراضي، والمثابرة والوقت، والانتصار والهزائم.
عند توصيف هذه الجوانب من الأيديولوجيا العملياتية لـ"الدولة الإسلامية"، من المفيد بصورة خاصة دراسة التصريحات التي أدلى بها قادة التنظيم بأنفسهم. تشير خطابات قادة تنظيم "الدولة الإسلامية" و المتحدثين باسمه إلى أن التنظيم يقدم صورة ذاتية فريدة، وتصورًا فريدًا لساحة المعركة، ومجموعة من معايير النجاح التي تميزه عن المنظمات المماثلة. لا تتناول المؤلفات الأكاديمية الحالية حول تنظيم "الدولة الإسلامية" بما يكفي هذا المنظور الفريد، وبالتالي فهي تفتقد جزءًا كبيرًا من الهيكلية الفكرية للتنظيم. فكما قال أبو محمد العدناني بنفسه، "لفهم برنامج الدولة الإسلامية وسياساته وفتاويه، عودوا إلى قادته وتصريحاته وخطاباته ومصادره".
والجدير بالذكر أن الفهم القوي والمستمر للوقت والانتصار - مقترنًا بموقف مرن ومتأرجح من الطموحات الإقليمية في تعريفه للانتصار - قد سمح بتماسك أيديولوجي قوي حتى في حالة الهزيمة الإقليمية، ما يمكن أن يساعد في تفسير الجاذبية التي يحتفظ بها لدى أعضائه وإمكانية عودة ظهوره في المستقبل.
تصور المكان الجغرافي
تسعى مجموعات التمرد السلفية الجهادية بشكل موحد إلى الاستيلاء على الأراضي التي ستصبح جزءًا من دار الإسلام، والتي يمكن للتنظيم ضمنها فرض نسخته من حكم الشريعة. ولكن بحسب مرحلة تمردهم، تطور تصور جهادي و"الدولة الإسلامية" تجاه الأراضي، وقد تجلى هذا الاتجاه بشكل خاص في خمسة تحولات مميزة في خطاباتهم.
كان أول هذه التحولات الخطاب المتغير لقيادة تنظيم "الدولة الإسلامية" بشأن الأهمية الإقليمية للعراق. حتى العام 2006، لم يكن التنظيم قد عبّر بعد عن طموحات إقليمية علنية في المنطقة. فآنذاك، كان يُنظر إلى العراق على أنه نقطة غير مهمة لإيواء وعبور أبو مصعب الزرقاوي وتنظيمه "جند الشام". على الرغم من أن العراق قد وفر أرضًا خصبة للجهاد بعد أوائل العقد الأول من القرن الحالي ، إلا أن الرسالة العلنية الأولى للزرقاوي بعد غزو العراق كانت الى أبناء قبيلته لدعم الجهاد في الأردن. لم يكن العراق من أولوياته. قبل عقد من الزمن، كانت عودة الزرقاوي من أفغانستان هي "القيام بشيء ما في بلاد الشام ، لا سيما في فلسطين والأردن" ، كما يتذكر. فضلًا عن ذلك، بدت الأرض بحد ذاتها غير مهمة في خطاب الزرقاوي، بحيث صرح في مقابلة عام 2006 أن تنظيمه لم يقاتل من أجل حفنة من التراب أو الحدود الوهمية لاتفاقية سايكس بيكو.
ولكن عندما وفرت الفوضى في العراق أرضًا خصبة لنمو الجهاديين في أعقاب سقوط صدام حسين، غيّر الزرقاوي والتنظيم تعابيرهم لتعكس واقعهم الجديد، مدعين أن "أرض الرافدين [العراق] هي أرض الخلافة"، وعام 2006، أعلن خلفاء الزرقاوي عن قيام "دولة العراق الإسلامية"، التي أصبحت في ما بعد "الدولة الإسلامية في العراق والشام". وهكذا، تحول العراق من ملجأ للمقاتلين الجهاديين إلى ساحة للجهاد بذاته.
بعد التحول في خطابها بشأن العراق، قامت قيادة تنظيم "الدولة الإسلامية" بعد ذلك بتغيير ثانٍ في طموحاتها الإقليمية المعلنة، بحيث أعادت التركيز على بلاد الشام وسوريا على وجه الخصوص، ما يظهر في إشارة الناطق السابق باسم التنظيم أبو محمد العدناني إلى حديث صرح فيه أن "النبي صلى الله عليه وسلم اختار لنا بلاد الشام". تماشيًا مع هذا الخطاب واستغلالًا للفوضى التي أحدثها الربيع العربي، دخل تنظيم "الدولة الإسلامية" سوريا عام 2011، وبعد ذلك بعامين، أعلن مؤسس "الدولة الإسلامية" وخليفتها أبو بكر البغدادي علنًا عن تشكيل تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (المعروف بـ"داعش").
أدى هذا التوسع عبر حدود معترف بها دوليًا إلى التحول الثالث في خطاب تنظيم "الدولة الإسلامية" بشأن المكان الجغرافي والأرض، ما أدى إلى تطوير مستوى عالمي أكثر للخطاب. في حزيران/يونيو 2014، أعلن التنظيم عودة الخلافة الإسلامية، التي حكمت ظاهريًا مناطق تمتد من الحدود الإيرانية إلى الحدود اللبنانية، داخل العراق وسوريا. ينسب العدناني التركيز الدولي على "داعش" إلى هذا التحول. ففور حديث تنظيم "الدولة الإسلامية" عن هدم حدود سايكس بيكو وانتشاره داخل سوريا، اتحد أعداؤه، الذين يصفهم معًا بـ "العالم بأسره"، ضده، فرفعوا بذلك كفاح "الدولة الإسلامية" إلى مستوى عالمي.
أظهر تشكل الولايات البعيدة جغرافيًا وعمليات تنظيم "الدولة الإسلامية" واسعة النطاق، كيفية تطور التنظيم من منظمة محلية إلى منظمة عالمية. وهذا يعني، وفقًا للبغدادي، أن قتال "الدولة الإسلامية" أصبح قتال جميع المسلمين في كل مكان. في تلك المرحلة، أصبح ارتباط التنظيم بأرض معينة أو بمنطقة جغرافية معينة عقبة أمام سمعته، ولذلك تبنى خطابًا عالميًا ورؤيويًا ليحل محل موقفه المحلي السابق من الأراضي. ومن نواحٍ معينة، عاد التنظيم في الواقع إلى خطاب الزرقاوي السابق قبل إقامة الخلافة الإسلامية في العراق.
لكن هذا الاتجاه لم يدم طويلًا، إذ بدأت القوات المناهضة لتنظيم "الدولة الإسلامية" تشكل تهديدًا وجوديًا لخلافة البغدادي الإقليمية. فاستعادت المنطقة الجغرافية أهميتها في تصريحات قيادة التنظيم، ما أحدث التحول الرابع في خطاب التنظيم. وأصبحت حماية المنطقة التي تمارس فيها شريعة الله ضرورة محتمة. علاوةً على ذلك، بحسب تصريحات قادة "الدولة الإسلامية"، بينما كان لا بد من حماية الخلافة، تعين على المسلمين في الأماكن الأخرى الاشتباك مع أعدائها وصرف الانتباه عنها.
حصل التحول الخامس عندما فقد تنظيم "الدولة الإسلامية" الخلافة الإقليمية واستعاد الجهاد الوجودي غير المرتكز على المناطق الجغرافية أهميته. ففي أيلول/سبتمبر 2019، صرح أبو بكر البغدادي أنه على الرغم من فقدان الخلافة، يتوسع جهاد الفتح بشكل متزايد ويمارس جهاديو "الدولة الإسلامية" الجهاد في حوالي اثنتي عشرة ولاية بشكل منتظم.
تطور تصور "الدولة الإسلامية" للمكان
باختصار، لقد أثبت تصور "الدولة الإسلامية" للأرض أنها عرضة للتغيير بحسب العوامل الظرفية. فالآن بعد أن فقد التنظيم الخلافة الإقليمية، يقلل قادة "الدولة الإسلامية" من أهمية الأرض ويؤكدون أن استمرار الجهاد هو ما يهم فعليًا. ولكن تجدر الإشارة إلى تحذير واحد: خلال كل هذه التغييرات، لم يتغير اهتمام "الدولة الإسلامية" بالقدس، الأمر الذي تؤكده تعليقات أبو مصعب الزرقاوي، وأبو عمر البغدادي، وأبو بكر البغدادي، وأبو حمزة القرشي، و الذي يعزى على الأرجح إلى أهميته ورمزيته الدينية.
تصورات ثابتة عن الوقت والانتصار
بالمقابل، بقيت وصيف "الدولة الإسلامية" العلني للوقت على حاله. لدى قادة التنظيم نظرة رؤيوية عن قضيتهم، باعتبار أن عصر "الدولة الإسلامية" والجهاد أبدي، ويستمر منذ وقت الخلق حتى يوم الحساب، أو منذ أن خطط الله لخلق الإنسان ليحل محله على الأرض حتى تحقيق وعده بمنح الأرض للمؤمنين الحقيقيين قبل يوم الحساب مباشرةً.
إن هدف "الدولة الإسلامية"، بحسب العدناني، "لطالما كان توجيه الأشخاص إلى التوحيد، وتطبيق شريعة الله، والانتقال إلى أمة واحدة". انطلاقًا من هنا، يتعهد الزرقاوي بعدم التراجع حتى إقامة الخلافة على منهاج النبوة - الحدث الأخير قبل يوم الحساب، بحسب حديث- ويعد بأن "القتال سيستمر، بغض النظر عما إذا سيكون ضد زنديق غربي أو مرتد، حتى تعود الخلافة". تنعكس هذه النظرة في شعار التنظيم "الباقية"، وتوضح أيضًا أن الإطار الأيديولوجي للتنظيم يعزز معتقداته في مواجهة الهزيمة الإقليمية.
تساهم هذه النظرة أيضًا في تصور تنظيم "الدولة الإسلامية" للانتصار أو عدمه. في حين أن منح النصر في نهاية المطاف للجهاديين هو وعد من الله، فإن هزيمة الجهاديين في المعارك موعودة أيضًا - يزعم تنظيم "الدولة الإسلامية" أن هذه اللحظات يقدمها الله لاختبار صدق عقيدة المسلمين. ترتبط صعوبة الاختبار ارتباطًا إيجابيًا بدرجة إيمان المسلم بالله ووعده.
في هذا الأسلوب من المحاسبة العقلية، ينظر تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى الانتصارات والهزائم على أنها جزء من وعد الله للمؤمنين الحقيقيين. فخسائر تنظيم "الدولة الإسلامية" في الأراضي، بحسب أبو بكر البغدادي، تدل على أن نصرة الله لن تأتي أبدًا بدون اختبار: " فإن من سنة الله –تعالى- التي لا تتبدل ولا تتغير، ابتلاؤه لعباده المؤمنين..." والضغوط على الخلافة هي حلقة من هذه الابتلاءات. في هذا السرد، الذي يؤيده أيضًا المتحدث السابق باسم تنظيم "الدولة الإسلامية" عبد الحسن المهاجر، يجب على المسلمين، وخصوصًا الجهاديين داخل الدولة الإسلامية، التحلي بالصبر - "النصر والصبر إخوان شقيقان"، " أن النصر لا يتحقق بدون استقامة على أمره –سبحانه- وعودة صادقة إليه" الصبر والمثابرة هما الشيء الوحيد للمؤمنين فلا يمكنهم أن يستعجلوا بالنصر بخلاف إرادة الله. "أن النصر من عند الله وما كان يوما بكثرة عَدد ولا عُدد" - "إنه محض مسألة إرادة الله".
من هنا، تساهم هذه النظرة إلى الانتصار في طريقة تبرير تنظيم "الدولة الإسلامية" لخسائره الإقليمية. فكما صرح العدناني، " إن الحرب سجال، والأيام دول. المجاهدون قد يخسرون معركة أو مدينة أو منطقة، لكنهم لا يهزمون قط ... وينتصرون في النهاية". ويضيف العدناني: "هل خسارة مدينة أو أرض تعني الهزيمة؟ كلا، الهزيمة هي عندما تفقد الإرادة والرغبة بالقتال (...) الانتصار، بالنسبة إلينا، هو العيش على طريق التوحيد والكفر بالاستبداد وتحقيق الولاء والبراء وإقامة الدين. هكذا، ننتصر على أي حال".
فيما يصبح الخط الفاصل بين الانتصار والهزيمة أكثر غموضًا، يكمن الأساس في مواصلة النضال والاستمرار في الجهاد، ما يدل على احتمال عودة هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" وطموحاته الإقليمية في ظل استمرار هذا المنظور المتعلق بدوره.
التطلع إلى الأمام
يمتلك تنظيم "الدولة الإسلامية" أيديولوجيا فريدة وراسخة، تشكلت من خلال تصريحات كبار قادة التنظيم، وتتكيف جيدًا مع الخسائر الإقليمية الأخيرة. من هذا المنطلق، وبالتطلع إلى الأمام، سيكون من الضروري معالجة وفهم الممارسات الأيديولوجية للتنظيم من أجل مكافحة أي عودة مستقبلية له بشكل فعال. ففهم منظور تنظيم "الدولة الإسلامية" للمكان الجغرافي والزمان والانتصار لا يوضح فحسب الأجزاء المعرضة للتغيير في أيديولوجيته، بل يفسر أيضًا لمَ يمكن لجهاد "الدولة الإسلامية" أن ينتشر إلى أماكن غير متوقعة، ويثبت صلابته حتى عند تعرضه لهجوم شرس، ويعاود النهوض من تحت الرماد.
خلال العقدين الماضيين، شكلت العمليات العسكرية الأداة الرئيسية ضد الجماعات الجهادية السلفية المتطرفة في الشرق الأوسط. ولكن هذه الخيارات لم تنجح سوى في القضاء على الأيديولوجيين، في حين سُمح للأيديولوجيا بذاتها بأن تبقى دعامة لصمود هذه التنظيمات وقدرتها على التكيف. حتى الآن، لم تكن الجهود الحالية التي تتصدى لأيديولوجيا "الدولة الإسلامية" فعالة بالقدر الذي يمكن أن تكون عليه، ما يعزى جزئيًا إلى عدم وضوح تلك الأيديولوجيا لدى قوات مكافحة الإرهاب. سيكون التركيز على الموارد المتزايدة باتجاه جهود مكافحة التطرف وفهم كيفية مواجهة هذا السرد الأيديولوجي بشكل أفضل، أساسيًا إذا فقد تنظيم "الدولة الإسلامية" قدرته على نسج رواية مقنعة ودفع المجندين المستقبليين إلى التطرف.