- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف تتحدى روسيا استثمارات الولايات المتحدة في مصر
يرى المراقبين الخارجيين أحيانًا أن صُناع القرار في واشنطن ينظرون إلى العلاقات القوية بين الولايات المتحدة الأمريكية ومصر، باعتبارها من مسلمات الأمور. ويبدو أن هذا التصور منطقياً، حيث استثمرت واشنطن في علاقاتها مع القاهرة، الكثير من الأموال والسياسة. فبالنسبة لهم، مصر هي ثاني أكبر متلقي للمساعدات الأمريكية بعد إسرائيل، حيث تلقت القاهرة قرابة الـ 80 مليار دولار على مدار الـ 40 عاما الماضية.
بات تهديد المصالح الأمريكية في مصر، وشيكا أكثر من أي وقت مضى، ولربما على المدى البعيد، وقد تخسر الولايات المتحدة كل استثماراتها طويلة الآجل في مصر، وذلك نتيجة التقارب المصري الروسي المتنامي منذ أربعة أعوام، والذي يبدو انه وصل إلى ذروته. ولا تشير الدلائل إلى انه تطور عابر أو مراوغة أخرى من المصريين لتحسين موقفهم التفاوضي مع الولايات المتحدة بل يبدو الأمر ابعد من هذا وذاك.
تنامت العلاقات المصرية الروسية بشدة بشكل أعاد إلى الأذهان ذكريات التحالف القديم بين القاهرة وموسكو، إبان الحقبة السوفيتية، حيث كانت مصر تدور في فلك سياسات الاتحاد السوفيتي، قبل أن يأتي الرئيس المصري السادات، ليعيد توجيه بوصلة السياسة المصرية الخارجية، ويجعلها أكثر تناغما وانسجاما مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي، بيد أن التطورات الأخيرة الملفتة في العلاقات المصرية الروسية، جعلت القاهرة أكثر انسجاما مع موسكو.
واستنادا إلى ذلك، تحرص روسيا على توسيع علاقاتها في الشرق الأوسط عندما تستشعر أن هناك فرصة لتحقيق ذلك. فبالرغم من أن الروس، أنقذوا للتو رأس حليفهم التاريخي الأسد في سوريا، ورسخوا وجودهم السياسي والعسكري والاقتصادي هناك، لكن من المتوقع ألا تظل هذه العلاقة محصورة في الشام، ربما تؤمن لموسكو دور ما في الشرق الأوسط، أو ورقة ضغط هنا أو هناك في صراعها الدائم مع الغرب، لكن لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي السابقة في الشرق الأوسط، كما يطمح بوتين، ولتهديد المصالح الغربية في هذه المنطقة، فهذا قصة أخرى لن تتحقق إلا عبر البوابة المصرية.
تطورات العلاقة المصرية- الروسية الأخيرة لا تشير إلى أن هذه العلاقة الحميمة، ستكون وقتية أو قصيرة الأمد، بل على العكس، فكل الدلائل تشير إلى أن العلاقات بين القاهرة وموسكو ماضية في اتجاه استراتيجي، وهو ما قد يقوض الشراكة التي دامت على مدى عقود بين القاهرة وواشنطن.
وصلت العلاقات بين مصر وروسيا لمرحلة غير مسبوقة، منذ سبعينيات القرن الماضي، بعد طرد الرئيس السادات، الخبراء العسكريين الروس، من مصر، قبيل حرب أكتوبر 73، ودلائل هذا النمو كثيرة ومتعددة ولعل أبرزها التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي. عسكريا، حيث وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره المصري، الرئيس عبد الفتاح السيسي، اتفاقية للشراكة الإستراتيجية الشاملة بين البلدين في المنتجع الرئاسي الروسي في مدينة سوتشي، المطلة على البحر الأسود في أكتوبر الماضي، وقد قال السيسي، عن تلك الاتفاقية" أنها ستفتح فصل جديد في تاريخ التعاون بين القاهرة وموسكو". ولم تمر أيام قليلة على توقيع الاتفاقية إلا وانطلقت المناورات المشتركة بين الجيشين المصري والروسي في مصر، والمعروفة بـ "حماة الصداقة "، والتي كان قد تم الاتفاق عليها بين البلدين خلال السنوات الماضية، بالتزامن مع وقف مناورات "النجم الساطع" بين مصر والولايات المتحدة، بعد اضطرابات الربيع العربي.
يرى كلا من الرئيسان بوتين و السيسي أن التعاون في مجال الطاقة النووية يمكن أن يساهم في خلق مزيد من التعاون بين البلدين .وفى هذا الصدد، وقع الرئيسان في القاهرة، العقود النهائية لإنشاء محطة الضبعة النووية، شمال غرب مصر في ديسمبر 2017، والتي قال عنها بوتين: بانها تساهم في خلق مزيد من التعاون مع مصر واصفا الأخيرة بأنها الشريك القديم والموثوق به في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث ستقوم شركة روسا توم الروسية ببناء المحطة النووية لتحقق بذلك الحلم النووي المصري، وذلك عبر تمويل روسي للمشروع بقرض تقدر قيمته بـ ٢٥ مليار دولار، في أكبر اتفاقية لتصدير مواد غير خام في تاريخ روسيا.
لم يقتصر التعاون بين مصر وروسيا على التعاون العسكري فقط، بل شمل التعاون الاقتصادي أيضا، فما زالت المفاوضات جارية بين القاهرة وموسكو على ضم مصر للاتحاد الاقتصادي الأوراسي ، الذي يضم؛ روسيا، وكازاخستان، وقرغيزستان، وأرمينيا، وبيلاروسيا. وقد تؤدى تلك المفاوضات إلى انضمام مصر للاتحاد وهو ما سيجعلها أول دولة عربية عضو في الاتحاد. إن انضمام مصر للاتحاد الأوراسي ، سيتيح حرية انتقال أكبر للسلع والخدمات بين مصر ونظرائها في الاتحاد. كما يتفاوض مسؤولو البلدين حاليا على إقامة مشروع المنطقة الصناعية الروسية في منطقة قناة السويس في مصر باستثمارات تقدر بـ ٧ مليارات دولار.
سياسيا، تبنت كلا من مصر وروسيا وجهات نظر متطابقة في ما يخص الصراع الدائر في سوريا وليبيا. ففي سوريا، يتجلى التفاهم المصري الروسي في الملف السوري، ضد المواقف الأمريكية الغربية بل والخليجية أيضا، فالقاهرة انسجمت تماما لحد التماهي مع الموقف الروسي في سوريا، حيث ساعدت موسكو، القاهرة في الظهور على الساحة السورية كلاعب رئيسي، وقامت بحث الأطراف المتحاربة على المشاركة في مفاوضات القاهرة في يوليو الماضي، بين الميليشيات المتمردة ونظام الأسد في الغوطة الشرقية (شرق دمشق)، والأحياء الشمالية في مدينة حمص.
وقد شكل موقف مصر من نظام الأسد تهديدا حقيقيا للعلاقات بينها وبين حلفائها الخليجيين الذين يطمحون في تقويض النظام السوري بسبب علاقاته مع إيران، تماشيا مع سياسة الولايات المتحدة الرامية لتقويض الأسد كذلك، لكن مصر ضربت بمصالحها الإستراتيجية مع الدول الخليجية والولايات المتحدة عرض الحائط، وقامت بالتصويت لصالح قرار روسي -تعارضه السعودية- في مجلس الأمن، في 2016، كما أصدرت الخارجية المصرية، بيانا عقب العملية العسكرية الأخيرة التي قامت بها الولايات المتحدة وحلفائها، ضد نظام الأسد، ذكرت فيه أن تلك العمليات تهدد سلامة الشعب السوري، وتجاهل البيان الإشارة إلى أن العملية العسكرية الأمريكية جاءت في أعقاب استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية ضد المدنيين السوريين.
وفى ما يخص الملف الليبي، تتبنى موسكو نفس وجهة نظر القاهرة حول ضرورة دعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، حيث دعمت روسيا حفتر وقدمت قطع غيار عسكرية ومشورة فنية له خارج دائرة حظر التسليح المفروض على ليبيا، كما اتفقت معه على صفقات تسليح تم معظمها على نحو غير مباشر، عن طريق مصر أساسًا، وبأسلحة قادمة من بيلاروسيا أو دول أخرى قريبة من موسكو.
ساهمت هذه التطورات في العلاقات المصرية الروسية لحد بعيد في التأثير على العلاقة مع واشنطن، حيث يجب فهمها على ارض الواقع على أنها ردة فعل مباشرة لسياسات الولايات المتحدة السابقة التي وجدتها القاهرة مهددة. وتتحمل إدارة الرئيس أوباما السابقة الجزء الكبير من مسؤولية تأثر العلاقات المصرية الأمريكية، حيث ساهمت في تعزيز مناخ انعدام الثقة بين مصر والولايات المتحدة، فالقاهرة لم ولن تنسى الموقف الأمريكي ضد حليفها التاريخي مبارك، بدعوته للتنحي، مع اندلاع ثورة يناير 2011، كما أن حديث واشنطن الدائم عن الديمقراطية وحقوق الإنسان مع المصريين، وربطها لبعض المساعدات بمدى التقدم الذي تحرزه القاهرة في هذه الملفات، جعل الإدارة المصرية تنظر بشك إلى صداقة واشنطن.
لكن ربما الأمر الأكثر أهمية هو أن واشنطن، أرجأت تسليم بعض الأسلحة إلى مصر، وعلقت بعض المساعدات العسكرية، في خضم المعارك بين الجيش المصري وتنظيم "داعش" الإرهابي في سيناء، قبل أن تستأنفها واشنطن مؤخرا. وبالرغم أن الولايات المتحدة سبق وأكدت أن تلك الإجراءات كانت ترمي إلى الضغط على الحكومة المصرية الجديدة لضمان التزامها بمعايير حقوق الإنسان أثناء حملتها الأمنية ضد معارضيها وأكبرهم جماعة الإخوان المسلمين، لكن هذا أعطى إشارة عكسية تماما للقاهرة.
ومن المؤكد أن سياسة الضغوط الأمريكية تجاه القاهرة في ما يخص ملف حقوق الإنسان أثبتت عدم جدواها، فالأخيرة تنظر بحساسية مفرطة تجاه أي إشارة ضغط، حتى ولو كان الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالرغم من أن أي إجراءات للضغط قد تؤلم المصريين اقتصاديا، لكن سرعان ما يستدعي هذا لديهم "الكبرياء الوطني"، حيث يعمل النظام على استدعاء ارث الحقبة الاستعمارية ومحاولات تدخل القوى الكبرى في مصر ويعمل على دغدغة مشاعر المصريين الوطنية وإثارة الرأي العام وتعبئته باستمرار للتصدي لأي محاولات للضغط، نجح هذا مرة في 1952 وينجح حتى الآن في مصر.
وقد ترجمت القاهرة التحول في سياسية الولايات المتحدة على انه رسالة مفادها انه لا يمكن الاعتماد على واشنطن كحليف موثوق فيه، وفي تلك اللحظة، قفزت روسيا مباشرة إلى الساحة المصرية، وعرضت تأمين احتياجات الجيش المصري، وتم بالفعل التوصل لصفقة أسلحة روسية لمصر في 2014 قيمتها تزيد عن ٣ مليارات دولار بتمويل خليجي (سعودي-إماراتي).
وعلى الرغم من أن الضغوط الأمريكية على القاهرة بدأت قبل عدة سنوات، إلا أن تداعياتها على العلاقات الأمريكية المصرية ستستمر حتى عام 2019. وإذا كانت الولايات المتحدة تأمل في إعادة توجيه مسار هذه العلاقة، فلا يمكنها الاعتماد على استثماراتها القديمة لتحقيق ذلك. وعوضا عن ذلك، فإذا كانت واشنطن تأمل في ردع روسيا، فعليها أن تستفيد من دروس الماضي القريب وان تعمل على هندسة علاقات أكثر استقرارا مع أكبر دولة في الشرق الأوسط، بحيث يتم اعتماد مقاربة لتحفيز مصر على التغيير الإيجابي وليس الضغط، لأنه إذا كانت نتيجة الضغط التقارب مع روسيا، فانه يجب اعتماد مقاربة مختلفة يمكن أن تحفز المصريين للتغيير.