- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
ما وراء السطور: فهم مدونة السلوك الوظيفية الحوثية
منذ فشل الجهود الدولية الخاصة بتجديد الهدنة في اليمن في تشرين الثاني نوفمبر الماضي 2022، تسارعت وتيرة بسط جماعة الحوثي لنفوذها وسيطرتها بشكل أكبر على المواطنين والمواطنات في مناطق سيطرتها.
ومع ذلك فإن الأمر المقلق هو عملية أدلجة العقول التي يتم تأطيرها مؤسسياً للأطفال والشباب من خلال المؤسسة التعليمية وعبر تغيير المناهج المدرسية. ومؤخراً برزت أيضا عملية أدلجة الوظيفة العامة، حيث صارت الغالبية العظمى من موظفي القطاع العام في اليمن تخضع لسيطرة الحوثيين، وهم يمثلون حوالي مليون موظف في القطاع العام من بين 1.2 مليون موظف على مستوى البلاد. وتتجلى عملية الأدلجة هذه بشكل أكثر شمولاً في مدونة سلوك القطاع العام التي فُرضت قسراً على جميع وكالات الدولة منذ تشرين الثاني/ نوفمبر.
فمنذ سيطرة جماعة الحوثي على السلطة عام 2014، عملت على بسط نفوذها على كل الوظائف والمناصب الحكومية ومؤسسات الدولة بشكل تدريجي وإزاحة كل الموظفين غير التابعين لها خاصة من مناصب اتخاذ القرار. بالإضافة إلى قيام جماعة الحوثي بإنشاء العديد من الهيئات التابعة لها مباشرة وسحب معظم صلاحيات العديد من الجهات والوزارات الإيرادية لتصبح تابعة لها بشكل كامل مثل الزكاة -عبر إنشاء الهيئة العامة للزكاة - وإدارة التعاون الدولي في وزارة الخارجية التي تم استبدالها بإدارة جديدة تُعرف بال "سكمشا" المتحكمة بإدارة المنظمات الدولية والإغاثية والمانحين وفي كل المشاريع المنفذة في مناطق سيطرتهم حسب قوانينهم الخاصة، وهي الجهة التي تقوم أيضاً بتحديد المنظمات اليمنية الشريكة للمنظمات الدولية والتابعة أغلبها للحوثيين.
كما عملت جماعة الحوثي على فرض دورات ثقافية إلزامية على موظفي الدولة للترويج لتوجه الجماعة وتدريس الملازم الخاصة بزعيمهم حسين الحوثي، بهدف أدلجة الموظفين واستقطابهم، ومعاقبة من يرفضها وتوجيه تهم الخيانة لهم مما أدى إلى تعرض الكثيرين للفصل والاستبدال بأشخاص تابعين للجماعة رغم عدم كفاءتهم وانعدام خبراتهم.
وفي حين نجد أن كبار المسؤولين والموظفين في القطاعات الحكومية والهيئات التابعة للحوثي وكل أتباعهم يستلمون رواتب شهرية مجزية تحت عدة مسميات منها الحوافز والإكراميات، تظهر من خلال ارتفاع مستوياتهم المعيشية. في حين أن كل موظفي الدولة ممن لا يتبعون الجماعة لم يتحصلوا على رواتب منذ أكثر من سبع سنوات تحت مختلف الأعذار منها نقل البنك المركزي إلى عدن أو حصر صرف الرواتب من عوائد النفط والغاز بمأرب رغم وجود المليارات من عوائد المؤسسات الإيرادية التي تقع تحت أيدي الجماعة والتي بإمكانها صرف رواتب كل موظفي الدولة. بل أن عوائد ميناء الحديدة كان من المفترض أن تكون مخصصة لتغطية رواتب موظفي الدولة وفقاً لما تم الاتفاق عليه في اتفاقية ستوكهولم في 2019.
الآن، صار الموظفون العموميون يخضعون لمدونة السلوك ،التي فرضها الحوثي بالقوة على كل مؤسسات الدولة، مع تهديد من يرفض التوقيع عليها بالطرد والاستبدال باعتبارها ملزمة ومعياراً لأداء الموظفين. ترتكز المدونة على معتقدات ومقولات قادة الجماعة وعبد الملك الحوثي ومحاضرات ودروس الجماعة عن القرآن الكريم وليس القرآن نفسه، بالإضافة إلى الإلغاء التام للأحاديث النبوية والاعتماد بشكل رئيسي على مقولات عن الإمام علي الصادرة عن مالك الأشتر فقط، واعتبار الدستور والقانون اليمني مجرد مراجع.
عند الاطلاع على مدونة السلوك، نجد بأنها تهدف إلى فرض توجه وسلطة الجماعة وسيطرتهم بشكل كامل على كل ما تبقى من الوظيفة العامة والدولة عن طريق فرض الولاء لقائد الجماعة، عبد الملك الحوثي، عوضاً عن الوطن ومبادئ حقوق الإنسان، فارضة التوقيع والإقرار كشرط للاستمرار في الوظيفة العامة، ملغية لوجود أي تعددية في التوجه أو الانتماء السياسي أو الديني والمذهبي، معتبرة أي مخالفة لها خيانة يجب ان يعاقب عليها الموظف باعتبارها مخالفة للمدونة التي لم يُعطى الموظف حق التعليق أو التعديل عليها، بل حرم حتى من انتقادها وهذا ما نجده في بنود الأحكام الختامية.
وقد اعتمدت جماعة الحوثي المدونة قبل إقرارها من قبل مجلس النواب في صنعاء وتم استخدامها وتطبيقها داخل المجلس أيضاً بشكل غير قانوني للسيطرة على رئاسته بشكل كامل وإسكات الأصوات المعارضة لهم فيه بهدف إقرار المدونة وشرعنة فرضها على الجميع، للتسريع بتهيئة الأوضاع لمصلحتها، أي أن الوضع يسير بالمقلوب. وهذا يعطينا مؤشراً عن توقع الجماعة بحدوث اتفاق قريب يعطيها الحق في بسط نفوذها على المناطق الخاضعة لسيطرتها حالياً وهو ما يعتبر توجهاً خطيراً يتنافى مع القرار 2216 وظلماً للملايين من سكان تلك المناطق ممن فرضت عليهم العبودية وانتهاكات حقوقهم منذ فرض وصاية أطراف الصراع عليهم بتأييد دولي.
ففي ظل استمرار تحريف المفاهيم الدينية واستخدام القانون والدستور بطرق ملتوية واستخدام المصطلحات المطاطة والتي تحمل معاني لها خلفيات خاصة بالجماعة، اعتمدت المدونة على دس السم في العسل وحملت تناقض في نصوصها. ففي حين ذكرت في بداية المدونة أن الالتزام بالمدونة يجب ان يكون عن قناعة، نجد العديد من البنود الأخرى تُلزم الموظفين بالتوقيع للاستمرار في الوظيفة واعتبار الاعتراض عليها خيانة وتضع عقوبات على كل من يخالفها تم التأكيد عليها في بند الضمانات.
وعلى سبيل المثال، على الموظفين الاحتفاء بالفعاليات الدينية بغض النظر عن توجههم مع "حمل الروح الثورية والمشاركة في إحياء المناسبات الدينية والوطنية" ومعظمها خاص بجماعة الحوثي وليس المجتمع اليمني بشكل عام، "وتبني المواقف الواضحة من أعداء البلد والأمة والاشتراك بفاعلية في أنشطة التعبئة العامة. والذي يعني فرض التجنيد الإجباري في أي وقت تريده الجماعة وذلك بهدف تشكيل الجيش الشعبي الذي سيحتوي على ملايين المقاتلين على غرار الحشد الشعبي في العراق، معتبرة الاعتراض على ذلك خيانة كونه عدم وضوح في المواقف." كما اعتبرت المدونة أن فضح أو تسريب أي وثائق عن الفساد يعتبر إخلالاً بالوظيفة يتم محاسبة فاعلها بحسب ما تراه مناسباً مما يعني شرعنة وحماية للفساد ومنع محاربته وكشف قضايا الفساد المستشرية في كافة القطاعات والمؤسسات الحكومية في ظل انعدام الدولة وأجهزتها الرقابية.
كما نجد بأن المدونة تكلمت على الموظفين بشكل عام مخاطبة إياهم بصفة الجمع دون الإشارة او المراعاة لحقوق النساء أو النوع الاجتماعي، بل نصت فقط على مصطلح ضرورة "الالتزام بالعفة والحشمة" وهو بالتأكيد موجه للنساء بالإضافة إلى جملة مطاطية تنص على "الالتزام بالضوابط الشرعية في بيئة العمل بين الموظفين والموظفات."
ولذلك فقد وصف الجميع مدونة السلوك بما فيهم الموظفون بأنها صك عبودية وتكريس كل موارد الدولة ومؤسساتها لخدمة الجماعة وأتباعها فقط. ورغم المعارضة الشعبية للمدونة، إلا أن الجماعة مستمرة في فرضها بالقوة، واضعة كل الموظفين بين خيارين؛ إما التسليم والتوقيع أو الطرد والتخوين، وكلاهما أسوأ من الأخر وخاصة بعد صمود الموظفين لأكثر من سبع سنوات خوفاً على درجاتهم الوظيفية، وأملاً في أن تحدث تسوية سياسية تعيد إليهم حقوقهم ورواتبهم المنهوبة.
استغلت جماعة الحوثي مدونة السلوك للحصول على عمال يعملون بلا حقوق أو رواتب؛ كما نجد بأن المدونة تفرض عليهم الحضور بدوام كامل قاطعة عليهم أي فرص لعمل إضافي يمكنهم من الحصول على راتب يساعدهم على توفير ابسط سبل العيش مما يدل على إصرار الجماعة على استخدامهم كعبيد وإلغاء كل الفرص أمامهم للعيش بكرامة لهم و لعائلاتهم ، أو كوسيلة تضطرهم لرفض التوقيع عليها وبالتالي يتم فصلهم من العمل وإحلال أفراد من الجماعة بدلا عنهم.
كما ان المتابع لأخبار الجماعة، يجد أن المدونة هي آلية إضافية للقضاء على من تبقى من معارضيها داخل المؤسسات. ففي الوقت الذي نجد فيه المدونة تتكلم عن منع التعيينات وفقاً للولاءات وصلة القرابة، نجد عكس ذلك على أرض الواقع حيث تقوم الجماعة بتسليم كل المناصب للتابعين لها، فأصبحت معظم الوظائف والتعيينات مقتصرة على عائلات هاشمية محددة تتبع الجماعة وتدعي صلتها بالرسول محمد (ص) والحق الإلهي في الحكم في حين يتم إقصاء باقي أبناء الشعب.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جماعة الحوثي تتحدث بأسم الهاشميين في اليمن كأقلية عرقية ومذهبية دينية في بداية ظهور الحركة الحوثية وكمدخل للاستيلاء على السلطة وتسهيل التجييش وكسب التأييد دولياً إلى حد قريب من حيث التعاطف مع الأقليات. ولكن الحقيقة أن الحراك الحوثي لا يُمثل كل الهاشميين، بل نجد الكثير منهم معارضين له ويتعرضون للاضطهاد والتهديدات مثل غيرهم من المواطنين. وهذا يدل على أن المعايير للانتماء للجماعة هي أيديولوجية عنصرية أكثر منها هاشمية عرقية.
الرفض والمعارضة الشعبية الكبيرة في الشارع اليمني لهذه المدونة نابع من تذمر المواطنين والمواطنات من استمرار جماعة الحوثي في الاستفراد بالسلطة واتخاذ القرارات المصيرية بشكل منفرد وفرضها المستمر لتوجهها وإلغاء الآخرين إضافة إلى الانتهاكات المتكررة لحقوق الموظفين خاصة ما تقوم به الجماعة في مؤسسات الدولة. فبالرغم من وجود بنود متعلقة بمسائل التنظيم الوظيفي في المدونة، الا انها تحمل أبعاداً سياسية وأيدلوجية واضحة مستخدمة الدين السياسي لتحقيق أهدافها. ومع ذلك، يواجه المنتقدون للجماعة منذ بداية الصراع و لمدونة السلوك تهديدات كبيرة تضطرهم للفرار لمناطق أخرى داخل اليمن أو خارجها.
ولذلك، فقد أصبح من المهم العمل على إيجاد حلول منطقية للسلام في اليمن خارج مفهوم التقسيم ودعم المكونات المسلحة لأن هذا هو السبب الرئيسي في استمرار ظهور وتمرد أطراف مسلحة. ومن الضروري كذلك إيقاف الإقرار الدولي لدعم سيطرة كل طرف على المناطق الخاضعة له. فالسلام المطلوب في اليمن يجب أن يمتد إلى بناء دولة النظام والقانون والمواطنة المتساوية في كافة الأراضي اليمنية لضمان نجاحه وسلامة اليمن واليمنيين ودول الجوار.
وحتى يتحقق السلام في اليمن، يجب العمل على تحييد الاقتصاد والوظيفة العامة والالتزام بما جاء في اتفاقية ستوكهولم فيما يتعلق بصرف الرواتب للموظفين والتي لم تلتزم بها جماعة الحوثي وتساوم عليه وتستخدمه كورقة ضغط في المفاوضات ولكسب الشارع اليمني بحجة الدفاع عنه.
ومع ذلك، ولأسباب غير معلومة، لا توجد ضوابط في الاتفاقية تضمن تنفيذها، وهو ما أدى لفشلها في نهاية المطاف. ولذلك يجب الزام جميع الأطراف استغلال الموارد المتاحة لدفع رواتب جميع موظفي القطاع العام في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، دون استثناء وطوال مدة النزاع. كما يجب أن يتم استخدام قضية الراتب للضغط على الأطراف للجنوح لطاولات السلام وليس العكس. ستؤثر هذه الآلية بشكل كبير على تحسين الوضع الإنساني والتخفيف من الصراع وإحلال السلام المستدام.
كما يجب إيقاف أي مباحثات جانبية مع أي طرف من قبل المجتمع الدولي لأن ذلك أدى إلى عرقلة المباحثات الشاملة وإلى غطرسة الأطراف التي يتم التفاوض معها بدلاً من الضغط عليها للجنوح للسلام والاستعاضة عن ذلك بتفعيل دور المجتمع المتأثر من قطع الرواتب نساءً ورجالاً والنقابات والاتحادات الكبرى التي تعتبر المعنية الأساسية بهذا الأمر مع مراعاة تمثيل النساء الحزبيات والشبكات المؤثرة والفاعلة والمكونات النسائية التابعة للدولة لضمان مشاركتهن الفاعلة بنسبة لا تقل عن 30%.
لن يتم السلام بالاستجداء وانصاف الحلول أو بالحلول الترقيعية بل بالتحرر من صكوك وقيود العبودية المفروضة على الناس من خلال تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للمواطنين والمواطنات في شتى بقاع الوطن.