- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
ما يكشفه مجلس بلدية نينوى عن الصراع الإيراني - التركي على النفوذ في العراق
تسلط التوترات المستمرة في مجلس بلدية نينوى الضوء على كيفية تنافس القوى الإقليمية على النفوذ في الانتخابات المحلية العراقية.
عززت حالة عدم اليقين وسوء الحوكمة بيئة من التنافس على السلطة والنفوذ داخل العراق، سواء بين حكومة إقليم كردستان وحكومة العراق أو بين تركيا وإيران. وأسفرت هذه الديناميكيات عن نقاط احتكاك وعداء جديدة، خاصة على مستوى البلديات. وقد فتحت انتخابات مجالس المحافظات في العراق التي تأخرت كثيرًا في كانون الأول/ديسمبر الماضي فصلًا جديدًا من التنافس السياسي بين الجهات الفاعلة المحلية والدول الإقليمية المتنافسة. ومن ثم، امتدت الخلافات الداخلية داخل إقليم كردستان العراق - لا سيما بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" - إلى المناطق المتنازع عليها في العراق. وقد سلّطت الخلافات اللاحقة التي نشأت حول تعيين المحافظين داخل المجالس البلدية المنتخبة في المناطق المتنازع عليها في العراق، الضوء على هذه التوترات.
المناورات السياسية داخل مجلس محافظة نينوى
تُعد محافظة نينوى، بما في ذلك قضاء سنجار، واحدة من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية لكل من إيران وتركيا. ويتألف مجلس محافظة نينوى من (26 مقعدًا)، بالإضافة إلى (3 مقاعد) مخصصة للأقليات (المسيحيين والإيزيديين والشبك) (انظر الجدول). وفى السياق نفسه، أسفرت المفاوضات التي أعقبت الانتخابات عن تشكيل تحالفين سياسيين رئيسيين هما "اتحاد أهل نينوى" الذي يشغل (16 مقعدًا)، و"ائتلاف نينوى الموحدة" الذي يشغل (9 مقاعد)، مما أدى إلى تقسيم مجلس المحافظة بين الحلفاء الإيرانيين والأتراك على التوالي. وفي حين ترتبط هياكل "اتحاد أهل نينوى" بالإطار التنسيقي الحاكم في بغداد وشخصيات فاعلة مثل ريان الكلداني (الأمين العام لحركة بابليون) وفالح الفياض (رئيس هيئة الحشد الشعبي)، فإن "ائتلاف نينوى الموحدة" يتألف من شخصيات وقوى سنية، من بينهم عبد الله النجيفي (نجل أثيل النجيفي محافظ نينوى السابق).
وفى السياق نفسه، من الممكن تصنيف العلاقات بين التحالفين في إطار التعاون أو المنافسة العرضية حول القضايا المتعلقة بالإدارة المحلية.
وقد دفع ائتلاف “اتحاد أهل نينوى"- بالإضافة إلى "الاتحاد الوطني الكردستاني" المدعوم تاريخيًا من قبل إيران- باتجاه إجراء تغييرات في 20 منصبًا إداريًا رئيسيًا في محافظة نينوى، بما في ذلك استبدال 7 رؤساء بلديات أقضية و13 رئيس بلدية في 13 ناحية. غير أن "تحالف نينوى الموحدة" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" قاطعا العملية، وعلّقا عضويتهما في مجلس المحافظة، وطالبا بإقالة رئاسة المجلس.
أحد العناصر الرئيسية في هذا الخلاف هو تعيين داود جندي، ممثل "الاتحاد الوطني الكردستاني" في سنجار، كقائمقام جديد لقضاء سنجار. وقد قاطع هذه الخطوة رئيس "الحشد الشعبي" فالح الفياض الذي ادعى أن جندي كان متحالفًا بشكل كبير مع "عصائب أهل الحق"، مما أفضى في النهاية إلى تعيين سعيدو خيري من قبل مجلس المحافظة. وعلى الرغم من المقاطعة، وقعت ناحية سنوني تحت سيطرة "الاتحاد الوطني الكردستاني"، مما أضفى الشرعية على الوجود الإيراني في المنطقة من خلال حزب سياسي عراقي معترف به، خاصة وأن الحكومة العراقية قد حظرت الأحزاب السياسية التابعة لـ “حزب العمال الكردستاني" في تموز/يوليو هذا العام. يسلّط هذا التطور الضوء على النفوذ الإيراني المتنامي في نينوى، حيث تعتمد إيران على حلفاء مثل” الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حزب العمال الكردستاني" ومختلف عناصر “الحشد الشعبي" الذين يسيطرون على سنجار والمناطق المحيطة بها.
ونتيجة لذلك، قام الحزب الديمقراطي الكردستاني بتقديم شكوى إلى المحكمة الاتحادية العراقية ضد مجلس محافظة نينوى. ومع ذلك، في 10 تشرين الأول /أكتوبر 2024، أنهى "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"التحالف العربي السني" مقاطعتهما. وفي حين برر "تحالف نينوى الموحدة" هذا القرار بالتأكيد على أنه سيحضر فقط اجتماعات المجلس التي تتعلق بتوفير الخدمات في المحافظة، إلا أن سحب هذه الشكوى لاحقا يشير إلى أن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" لا يزال يرغب في أن يكون ضمن مجلس محافظة نينوى، وأن يكون له دور في عمليات صنع القرار على المستوى المحلي. كما يعكس رغبة الحزب في تطبيع علاقاته مع إيران والحكومة العراقية. وعلى الرغم من المشاركة المحدودة للحزب، فإن حضوره قد يهدف إلى إظهار عدم توافقه مع الجهات السياسية المحلية الأخرى والسياسات التي تنفذها في المحافظة.
نجاحات إيران على المستوى المحلي
تؤكد نتائج هذه الانتخابات نجاح الاستراتيجية الإيرانية المستمرة في العراق. فمنذ عام 2003، تمكنت إيران من تعزيز نفوذها على حكومة العراق ذات الأغلبية الشيعية من خلال دعم مختلف الأحزاب السياسية الشيعية، كما عملت على استقطاب ولاء العديد من الألوية في "قوات الحشد الشعبي" على المستوى المحلي. وقد عملت إيران على وجه التحديد على استمالة الأقليات العرقية والدينية مثل الشبك الشيعة، والعرب الشيعة، والتركمان الشيعة، والتركمان السنة، والمسيحيين، وحتى الجماعات السنية مثل اللواء 56 في الحشد الشعبي في الحويجة. وقد عززت نتائج انتخابات مجالس المحافظات العراقية التي عُقدت في كانون الأول/ديسمبر 2023 نفوذ إيران السياسي بالإضافة إلى نفوذها بين الجماعات شبه العسكرية العاملة في العراق. وفى هذا الصدد، تقوم طهران، من خلال هذه الاستراتيجية، بتأمين الطريق اللوجستي بينها وبين لبنان، وهو أمر مهم بشكل خاص وذلك في ظل الغزو الإسرائيلي المستمر لجنوب لبنان الذي يهدف إلى التصدي لـ "حزب الله."
عزز الوجود الإيراني المحلي والإقليمي طويل الأمد موطئ قدم لإيران في العراق بشكل كبير، مما أدى إلى تقليص نفوذ تركيا تدريجيًا، خاصة في محافظتي كركوك ونينوى، كما تعمل طهران على تعزيز تواجدها داخل محافظة ديالى. فبجانب دعمها للمنظمات الوطنية المعروفة مثل "منظمة بدر" و"عصائب أهل الحق" و"كتائب حزب الله"، تدعم إيران أيضًا العديد من الحلفاء المحليين والإقليميين في المناطق المتنازع عليها، بما في ذلك "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حركة بابليون" وعناصر محلية من "الحشد الشعبي"، مثل قوات سهل نينوى (اللواء 30) و"كتائب بابليون" (اللواء 50) واللواءين 16 و52 التركمانيين، وألوية مختلفة في سنجار. وبالتالي، تراجع نفوذ حلفاء تركيا، بما في ذلك "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الجبهة التركمانية العراقية" والشخصيات السياسية السنية مثل خميس الخنجر.
تساهم سردية حماية الأراضي من عودة الجهادية السنية - مثل "تنظيم القاعدة" في العراق ولاحقًا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) - في إضفاء الشرعية على موقف إيران. كما يتيح النهج الشمولي الذي تتبعه إيران تجاه الجهات الفاعلة المتنوعة، بما في تلك التي تختلف معها إيديولوجيًا، الانضمام إلى جبهتها. على سبيل المثال، قد لا تكون بعض الجماعات داخل الحشد الشعبي مؤيدة بشدة للتوجهات الشيعية، لكنها تصطف مع الحشد لأنها ترى في تركيا والقوى السنية المتطرفة تهديدًا لها، خاصة في محافظة نينوى، التي كانت مسرحًا لهجمات داعش المتكررة. وقد تم تسليط الضوء على هذه الشمولية بشكل رمزي عندما تحدث الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بيزشكيان، باللغة الكردية خلال زيارته لـ “إقليم لكردستان العراق" في 12 أيلول/سبتمبر 2024. أبرز السمات الرئيسية التي تتسم بها استراتيجية إيران هي أنها لا تتصرف بعدوانية واضحة، بل تضمن وجودها دون أن تُظهر هيمنة علنية صريحة.
وعلى وجه التحديد، يحدّ النفوذ الإيراني المتزايد من قدرة "الحزب الديمقراطي الكردستاني" على الرد، مما يدفعه إلى تطبيع العلاقات مع طهران. برز هذا التحول في أيار/مايو 2024، عندما زار رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني طهران. ويبدو أن الاستراتيجية الجيوسياسية لـ“الحزب الديمقراطي الكردستاني" قد تشكلت بسبب موقف الولايات المتحدة وتركيا السلبي نسبيًا تجاه عائلة البارزاني وحزبه السياسي. وقد تأكد هذا التغيير في مسار "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بشكل أكبر من خلال زيارة الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بيزشكيان، في 12 أيلول/ سبتمبر 2024.
خسائر تركيا الإستراتيجية
وتتمثل استراتيجية تركيا على المدى الطويل في زيادة نفوذها في هذه المناطق من خلال تنصيب نفسها راعية ومدافعة عن الأقلية التركمانية العراقية، وهي مجموعة عرقية ناطقة باللغة التركية. وتلعب هذه السردية دورًا مهمًا في الرسائل السياسية التركية الموجهة إلى العراق. وبالإضافة إلى جهود أنقرة لكبح النفوذ الإيراني، فإن التواجد الإقليمي المتنامي لإيران يشكل مصدر قلق لصانعي السياسة في واشنطن، لا سيما في ما يتعلق بالمنافسة الأوسع بين الولايات المتحدة وإيران. ومع التخفيض المخطط له لوجود القوات الأمريكية في العراق بدءًا من نهاية عام 2025 واستمراره حتى العام التالي، يبدو أن إيران تستعد حاليا لكسب المزيد من الأراضي.
وبالمثل، سيشكل فقدان النفوذ في نينوى ضربة كبيرة لاستراتيجية تركيا الشاملة في العراق، حيث أن أحد أهدافها الرئيسية في العراق (وسوريا) هو مواجهة "حزب العمال الكردستاني"، الذي تمتد شبكته اللوجستية من جبال قنديل عبر محافظة السليمانية ومخمور وسنجار وداخل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. في إطار جهودها للحد من نفوذ "حزب العمال“، تعمل تركيا على توسيع وجودها، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها الحزب "الديمقراطي الكردستاني" في إقليم كردستان العراق، مثل قرة وجبل متينا وحفتانين وأفاشين وبسيان وسين وهاكورك. وفي الوقت نفسه، تنظر تركيا إلى العلاقات بين "حزب العمال الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" على أنها بمثابة تهديد لأمنها القومي: فقد نُسبت الغارات الأخيرة التي شنتها طائرات بدون طيار في محافظة السليمانية - منبع الإرث السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني - إلى أنقرة على نطاق واسع. وقد تجلت جهود تركيا بالمثل في كركوك المجاورة، حيث تسعى إلى فرض سيطرتها على الوضع الأمني المحلي من خلال عن طريق دعم التركمان السنة من خلال "الجبهة التركمانية العراقية". وعلى الرغم من حصول الجبهة على مقعدين فقط في مجلس محافظة كركوك، إلا أن تركيا دعمت تولي التركمان منصب محافظ كركوك، بحجة أن المدينة كان لها محافظون أكراد وعرب في الماضي، ولكن لم يكن هناك محافظ تركماني. ومع ذلك، فشلت استراتيجية أنقرة في الحفاظ على نفوذها من خلال المكوّن التركماني والسنّي بسبب الانقسامات الداخلية بين هذه المجموعات العرقية والدينية، واصطفاف بعضها مع إيران، فضلاً عن نتائجها الانتخابية المتواضعة
تصرفات تركيا واضحة ومباشرة؛ فهي تحتفظ بوجود عسكري في العراق وتقوم بمواجهة الجماعات التي تعتبرها أعداءً لها بشكل نشط. وحتى أواخر عام 2023، كانت تركيا تتمتع بنفوذ كبير في الحكومة المحلية في نينوى من خلال قاعدتها في بعشيقة. لكن بعد انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في عام 2023، اكتسبت القوى السياسية الموالية لإيران معقلًا في المنطقة، مما أضعف نفوذ تركيا، وبات تشكيل حكومات محلية جديدة في نينوى وغيرها من المناطق المتنازع عليها لا يتماشى بشكل كبير مع المصالح التركية.
تعكس نتائج الانتخابات في نينوى كيف أن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" - وبالتالي تركيا - يخسر تدريجيًا نفوذه في كل من سنجار ومحافظة نينوى الأوسع نطاقًا وذلك رغم الوجود العسكري المتزايد لأنقرة في شمال العراق، بما في ذلك الاتفاقية الأمنية الجديدة التي وقعتها أنقرة مع بغداد في آب/أغسطس 2024. وفي السابق، كانت تركيا تتمتع بنفوذ كبير في المنطقة، لكن نتائج انتخابات نينوى وغيرها في المناطق المتنازع عليها في العراق، تشير إلى أن نفوذها يشهد تراجعًا حادًا. في حين أن الهدف المعلن هو التعاون ضد أنشطة "حزب العمال الكردستاني"، تسعى تركيا أيضًا إلى الحصول على ضمانات بأن سيطرتها على بعشيقة ستبقى على حالها، دون أن يزعزعها الوجود الإيراني المتزايد في الأراضي العراقية المتنازع عليها. في نهاية المطاف، ربما تحاول تركيا التعويض عن تراجع نفوذها على الأرض بالاعتماد أكثر على حلفائها المحليين واتفاقيتها الثنائية الجديدة مع الحكومة العراقية.
وبغض النظر عن النتيجة، فإن تدخل الدول الإقليمية والمجاورة في الشؤون الداخلية للعراق لا يمكن أن يعالج المشكلات الرئيسية التي تعاني منها البلاد، ولا يوفر حلاً سلمياً، فدعم هذه القوى الإقليمية للمجموعات المتوافقة مع أجنداتها الخاصة يسهم في تعزيز الانقسامات الداخلية في السياسة العراقية، وكلاهما يستغل ادعاءات الرأي العام لتبرير التدخل العسكري كوسيلة لحل القضايا. ومن ثم، تستفيد كل من أنقرة وطهران من حلفائهما المحليين (أو وكلائهما) لتنفيذ استراتيجياتهما الإقليمية على الأرض.