في ربيع سنة 1860، كان الكولونيل تشارلز هنري تشرشل في مقابلاته على علاقة جيدة مع إحدى أعظم شخصيات عصره. فبصفته ضابط عسكري بريطاني وممثل دبلوماسي سابق في دمشق للإمبراطورية العثمانية، وجد تشرشل أخيرًا الفرصة ليسجّل معلومات من خبرته الشخصية عن النضال الاستثنائي الذي عاشه الأمير عبد القادر الجزائري في النفي تحت الرقابة المكثّفة الفرنسية.
منذ أوائل ثلاثينات القرن التاسع عشر، أدى جهاد الأمير لاحتواء الطموحات الاستعمارية الفرنسية في شمال أفريقيا إلى بروز معجبين به حول العالَم، وصولًا إلى أراضي ميسوري. حتّى أن محاميًا مهمًّا يُدعى تيموثي ديفيس سمّى مستعمرةً على شرفه في العام 1846 داعيًا إياها "القادر"، وهي اليوم مقر مقاطعة كلايتون، آيوا. فحوّلت مرونة عبد القادر وسلوكه الشهم داخل ساحة المعركة وخارجها، ومعاملته الإنسانية للمساجين الفرنسيين خاصة، هذا الأمير إلى شخصية تشبه داوود الذي هزم جالوت في أعين الكثيرين.
بحلول سنة 1847، أصبح الأمير مقتنعًا، بعد تعهّد فرنسا بالسيطرة على كامل الجزائر وتصميمها على ذلك، أن المزيد من المقاومة لن تسبب إلا العذاب لشعبه الخاص من دون جدوى. وبعد أن اعتقد يومًا أنه كان يقوم بعمل الله عبر قيادة الجهاد، جادل الأمير مجلسه معتبرًا أنه لا بد من أن الله يريد أن يأتي دور فرنسا في الحكم.
ناقش عبد القادر اتفاقية هدنة أقرّها حاكم الجزائر، وهو الابن الأصغر للملك لويس فيليب. باختصار، سيتم أخذ الأمير وعائلته الكبيرة إلى الشرق الأوسط. وأعطى عبد القادر بدوره كلمته أنه لن يعود أبدًا إلى الجزائر أو يتسبب بالمتاعب لفرنسا. فتعلم قادة الجيش الفرنسيون في ساحة المعركة من سنوات الخبرة الخمس عشرة التي أمضوها في السلم والحرب مع الأمير أمرًا واحدًا: كان عبد القادر خصمًا شريفًا اعتبر أن كلمته مقدّسة. وأُعجِب تشرشل بالأمير أوّلًا كرجل دولة محارب يتمتع بالمرونة والمراوغة، ثم كسجينٍ متكتم خانه تبديل الحكومة في فرنسا بعد مرور بضعة أشهرٍ على خضوعه للأمر الواقع، ما أدى إلى هذا المسار المعوج الذي دام لخمس سنوات. وقبل إنهاء تشرشل مقابلاته، بلغت شهرة الأمير مستويات لم تبلغها من قبل. وكان هذه المرة بمثابة رجل إنساني شجاع يبجّله رؤساء الدول حول العالَم، وبطلًا بسبب إيمانه، حتى أن المحافل الماسونية الفرنسية والسورية والأمريكية تبنّته.
في 6 تموز/يوليو 1860، شهد تشرشل على معقابة الحاكم في دمشق للمسيحيين الذين لم يعودوا يدفعون الجزية. ونظّم عبد القادر وأبناؤه عملية الإنقاذ والحماية لآلاف الأشخاص في الحي المسيحي المجاور، حتى أنه قدّم الهبات للمسيحيين الذين تم نقلهم بسلامة إلى مكان إقامته الضخم الذي دفعت فرنسا مقابله. فتم إنقاذ حوالى 10000 شخص في خلال عدة أيام، ثم رافقت الكثيرين منهم في رحلتهم إلى لبنان مواكب حماية. وتدفّقت رسائل الشكر من أقطار العالَم، وكانت إحداها موجَّهة من أسقف الجزائر لوي بافي، فرد الأمير قائلًا: "ما فعلناه للمسيحيين، إنما فعلناه لنكون أوفياء للشريعة الإسلامية، وبسبب احترام حقوق الإنسان... فيعطي القانون أهمية كبيرة للشفقة والرحمة وكل ما يحافظ على التماسك الاجتماعي". وختم عبد القادر رسالته بملاحظة حادة تنطبق على أيامنا هي: "من ينتمون إلى ديانة محمد أفسدوها، لذلك هم الآن كالخروف الضال".
إلا أن الرسالة التي تتمتع بالقيمة الأكبر بالنسبة إليه هي من زميله المقاتل من أجل الحرية، الأمير شامل الذي عاش تحت الإقامة الجبرية في موسكو: "إنني قدرتك كما الله تعالى العلي القدير سيباركك يوم لا ينفع مال ولا بنون. والواقع أنك نفذت كلام الرسول الأكبر كدليل على محبته لمخلوقاته المتواضعة وأقمت حاجزًا ضد أولئك الذين تخلوا عن مثاله الكبير. ليحميك الله من الذين يخالفون شريعته".
بالفعل، يمكن أن ينتج عن الدين الزائف وحوش – وهذا ما يمكن أن ينتج أيضًا عن الوطنية الزائفة. وقد يتحول البشر إلى وحوش من كافة الجنسيات والأعراق والأديان. فبعد أن تشوّشهم حماسة المرارة والتعليم الزائف، يمكنهم أن يتحولوا إلى قنابل موقوتة. لكن ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟
غالبًا ما نبّهت والدة عبد القادر زهرة من أن الطهارة الطقسية ليست إلا نصف إيمان وأن النصف الأصعب – أي تطهير الذات من الباطن – منسيٌّ إلى حد كبير. فالخادم الحقيقي لمشيئة الله يكبح الرغبات الأنانية ومشاعر الغضب والحسد والثأر العنيفة: وهذا ما دعاه الرسول محمد الجهاد الأعظم وما دعاه الكاثوليكيون الخطايا السبع المميتة. فقد شن عبد القادر الجهاد الحقيقي والأعظم، من خلال مقاومة المتعصبين الذين سيصلون إلى طريقٍ مسدود، عبر إقناعهم بإلقاء أسلحتهم أرضًا وإعفاء عائلاتهم من السجن أو الموت.
من بين مجموعة كبيرة من التجارب والمهارات والمبادئ الحياتية، آمن عبد القادر قبل كل شيء أن طلب المعرفة هو الخير الأسمى والغاية الأساسية في الحياة، لأن المعرفة تقود في النهاية إلى السلوك الصحيح. لكن عالمه كان عالمًا هرميًّا. فكانت العلاقات الاجتماعية هرمية، وكانت المعرفة أيضًا هرمية. وفي رسالته الشهيرة رسالة إلى الفرنسيين التي كتبها في العام 1856، شرح الأمير بوضوح فهمه لما يجعل الإنسان مختلفًا عن باقي الخليقة: حب المعرفة، السعي وراء الحقائق التي تتجاوز الحواس – كحقائق الرياضيات وعلم الهندسة والفلسفة والحقائق الأخلاقية. أما المعرفة الأهم فهي سياسية.
لماذا؟ كان يؤمن أن الإنسان هو حيوان اجتماعي بحاجة إلى التعاون حتى يبقى حيًّا. وما من معرفة أهم من المعرفة الضرورية للعيش في المجتمع السياسي والمشاركة به، وبالتالي توجيه السلوك البشري بعدالة. وتتطلب هذه العدالة التمتع بحكمة أسمى، منقولة عبر الأنبياء – أي الأواني المختارة لنقل حكمة الله. فما من تناقضٍ بينهم، إذ يؤيدون جميعهم القاعدة الذهبية: عامِل كما تحب أن تُعامَل. الله ليس ملكًا لأي دينٍ معيّن، وتنقل كل الأديان رسالةً مشتركة – وهي تمجيد الله وإظهار الرحمة لخليقته.
يتبين أن قصته قادرة على ردع التطرف، خاصةً لدى المسلمين الشباب. وقال محمد السماك، مستشار مفتي الجمهورية اللبنانية، في سنة 2011: "إن روح عبد القادر هي روح الإسلام المتحرر والمتسامح. أؤمن أنه علينا، نحن المسلمين، أن نفعل شيئًا معًا من أجل إعادة إحياء روح عبد القادر من أجل إخراج مجتمعاتنا من النفق. وكتب إليّ العالم الباكستاني ومحرر الشريعة محمد خان ناصر بعد أن قرأ عن الأمير عبد القادر للمرة الأولى: ليس هذا الأمير فحسب رمزًا لمفهوم المقاومة والمناضلة الإسلامي ضد الهيمنة الخارجية، بل هو أيضًا تجسيد للأفكار اللاهوتية والمنطقية الحقيقية التي يعلّمها الإسلام. وقد استخدمت المدارس قصة حياته منذ سنة 2011 لشرح المعنى الحقيقي للجهاد – أي العيش باستقامة والسيطرة على الأرواح الداخلية الجامحة".
إذًا ما الذي يجعله قابلًا للتطبيق في حبك حكايات مضادة للجهاد المعاصر؟ أولًا، كان يقف على الخط الفاصل؛ فكان في الوقت نفسه "محلّيًّا" و"عالميًّا". وكان مسلمًا تقيًّا بحق وبشدة (ما يعني أنه كان يرضخ). لكن ديانته لم تكن حزام أمان يُبقي هويته متماسكة، إنما كانت منصةً لتقصّي معنى خليقة الله. كما نما روحيًّا، خاصةً في خلال فترة السجن الفرنسي، عندما رأى الصلاح في فرنسا واختبر صلاح المسيحيين وغير المؤمنين على حد سواء. فزاد إسلامه حجمه ولم يقلّصه.
كان محققًا للوحدة ومُصلِحًا. وكان تعدد المعتقدات بالنسبة إليه تأمّلًا في طبيعة الله اللامتناهية وفي الطرق اللامحدودة لتسبيحه. ولم يرَ أي تضارب بين السياسة والدين والعلم. فيجب أن تحكم السياسة رغبةٌ في جعل الناس يعيشون بانسجام؛ ويجب أن يوفّر الدّين قاعدة أخلاقية مشتركة من القيم المشتركة والأصل المشترك. وسيعلّمنا العلم أن نفهم الوحدة الأساسية للبشرية. وأخيرًا كانت حياته حياة فضيلةٍ في العمل. فتتطلّب القيادة الحقيقية نظام قيم مشابه للفضائل الرئيسية في العالَم المسيحي، وهذا ما كان يملكه عبد القادر بغزارة: قوى فكرية قادرة على التمييز، وشجاعة أخلاقية تشمل الرأفة والعدالة وضبط النفس.
كان سلوك الأمير يتبع فلسفة السياسة الخارجية التي أصبحت الآن منسية والتي تلفّظ بها في سنة 1797 الرئيس جورج واشنطن في خلال خطاب الوداع: "... راعوا النية الطيبة والعدالة إزاء الأمم جميعها. إزرعوا السلام والوئام مع الجميع... هذا ما يطلبه الدين وتقتضيه الأخلاق". فلم يقل واشنطن "مع الدول الديمقراطية" فحسب، أو مع "البلدان المسيحية" فحسب. ولربّما عَلِم بشكلٍ غريزي حكمة الآية القرآنية: "وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".