أقر البرلمان المصري الخميس 14 يونيو الماضي اتفاقية "إعادة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية" وان جزيرتي تيران وصنافير محل النزاع بين الدولتين هما من حق المملكة، ساكبا بذلك مزيدا من الزيت على نار غضب الرافضين لتلك الاتفاقية، وتحولت ساحات التواصل إلى مأتم مفتوح وتصدرت كلمتي "خيانة" و "النكسة" المشهد.
وكان المصريين قد فوجئوا في أبريل 2016 بقدوم الملك سلمان إلى القاهرة لحضور توقيع الاتفاقية والتي بمقتضاها تسلم مصر الجزيرتين تيران للسعودية.
الجزر التي كانت محل نزاع لسنوات طويلة بين البلدين، ففي الوقت الذي تدعى السعودية أنها ملك لها وأنها إعارته لمصر في أعقاب حرب 1948، تتمسك مصر باتفاقية 1906 لتعيين الحدود بين الدولة العثمانية ومصر، والتي تقول أن الجزر تقع ضمن الولاية المصرية.
وبعيدا عن مشروعية الفعل ومن صاحب الملكية الحقيقة للجزر، فإن الطريقة التي أدار بها النظام المصري ملف الجزيرتين لعبت دور أساسي في زيادة الاحتقان الشعبي، فرغم خطورة وحساسية الاتفاقية إلا أنها تمت بسرية بالغة بعيدا عن أعين الشعب، ثم دُعي “سلمان" للقاهرة ليوقع عليها ضمن سبعة عشر اتفاقية أخرى، كلهم مشاريع اقتصادية، مما خلق انطباع انه اشترى الجزيرتين بماله، وختاما تمت استضافته على منصة البرلمان المصري وكأنه يدير الجلسة.
وقد أثار القرار موجة من الغضب لدى الكثيرين، مما جعل "خالد علي" المحامي الحقوقي البارز (والمرشح الرئاسي السابق) يقيم دعوى قضائية ببطلان التوقيع، واتخذت المحاكمة مسارات عدة، انتهت بحكم المحكمة الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية ومصرية الجزيرتين….. لكن النظام المصري قرر أن يتجاهل الحكم وأرسل الاتفاقية للبرلمان الذي أقر الاتفاقية.
من المؤكد أنه حينما قرر السيسي المضي قدما وتسليم الجزر للسعودية كانت لديه حساباته وتقديراته للموقف الداخلي، فعمليا نقاط المعارضة للقرار الرئاسي تتمركز بالأساس في الثالوث المعارض (نشطاء-حقوقيين- وصحفيين) وهؤلاء وجهت لهم عدة ضربات ناجحة من قبل ساهمت في تقليم أظافرهم.
فالنشطاء السياسيين والحقوقيين تم اعتقال اغلبهم، ومن لم يعتقل منهم مهدد في أي لحظه بإلقاء القبض عليه، وتم اتهامهم بتلقي أموال من جهات أجنبية، وختاما الصحافة فاقتحام الآمن نقابة الصحفيين في مايو 2016 كانت النقطة الأبرز في الصدام بين السيسي والإعلام، وهو الصدام الذي خرج من الرئيس منتصرا بعد أن وجهت اتهامات لنقيب الصحفيين شخصيا "يحي قلاش" وأخلى سبيله بكفالة على ذمة قضية ، ثم خسر مقعده أمام "عبدالمحسن سلامة" الموالي للنظام، وبذلك ضمن السيسي إسكات النقابة، ولم يبقى أمامه سوى المواقع "الخاصة" التي نجح مؤخرا في حجب المعارض منها، منهيا بذلك الصراع بينه وبين الصحافة المعارضة لصالحه بالنقاط.
فضلا عن ذلك فان هناك نقطة أخرى تصب في مصلحة الرئيس، فالخلاف العميق والحاد بين جناحي المعارضة (المدني والإخواني) والذي يصل إلى حد العداء والكراهية، يحول بين اتحادهما أو حتى التنسيق بينهما.
ولو تجاوزنا "المهتمين بالشأن العام" ونظرنا بصورة كلية للمجتمع المصري، سنجد تركيبته الحالية (تبدو) في صالح النظام إلى حد كبير.
فنحن نتحدث عن 100 مليون مواطن، نسبة كبيرة منهم غير مهمومة بقضية الجزيرتين - قد يكون لهم موقف يميل إلى الضيق أو الغضب - لكن ذلك لن يتجاوز بعض الهمهمات أو تعليقات مقتضبة، ولا يلوح في الأفق أي بادرة لتحرك أو تفاعل من تلك الشريحة، إما لعدم اتصال القضية بحياتهم اليومية بشكل مباشر أو لان هناك قناعة عامة لديهم أن أي تظاهرات ستعيد البلاد لمربع الثورة الأول وما تلاها من انفلات أمني.
وهناك أيضا مجموعة -لا يستهان بيها- هي شريحة “مؤيدي الرئيس والجيش" وهؤلاء أغلبهم ينتمون إلى الطبقات الوسطى العليا والعليا، ونسبة معتبرة من الأقباط، وهؤلاء دعمهم للسيسي ناجم عن عاملين أساسيين: الأول كراهية تصل إلى حد الفوبيا للمشروع الإخواني، والثاني شعور أن الجيش والرئيس شيء واحد وان أي اهتزاز لهما سيحيل البلاد إلى سوريا أخرى.
أضف إلى ذلك طبقة المنتفعين بشكل مباشر من حكم السيسي والذين يمثلون مؤسسات القوة (الجيش- الشرطة - القضاء) وحتى الآن يبدوا انهم خلف الرئيس.
باختصار، يمكن القول أن السيسي قرر تمرير اتفاقية ترسيم الحدود وهو مدرك أن موقفه الداخلي متماسك إلى حد كبير.
لكن مع اقتراب البرلمان من التصويت، حدثت مواقف شديدة الغرابة والدلالة لم تكن في الحسبان. ففجأة استقبل الإعلامي الشهير وائل الإبراشي مداخلة هاتفية من الفريق أحمد شفيق والذي هاجم فيها النظام المصري بضراوة، وانتقد السيسي شخصيا ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة، فعل كل ذلك دون أن يقول أن الجزر مصرية، وقد بدا جليا أن الرجل يقدم نفسه للخليج كبديل للسيسي الذي وصف إدارة نظامه للبلاد بأنها "شغل فتونة".
وتكمن أهمية المداخلة في خلفية أطرافها، فشفيق مقيم في الإمارات والرجل لم يكن ليظهر تلفزيونيا ويهاجم النظام الحالي هكذا إلا بعد حصوله على ضوء أخضر من أبو ظبي، وعلى جانب آخر "وائل الإبراشي" مقدم البرامج الشهير محسوب على المخابرات العامة، فكونه يقوم بهذا الخطوة ويفرد تلك المساحة لشفيق ليقول ما قاله فهذا أوحى للكثيرين أن المخابرات سمحت له بذلك أو ربما شجعته!
وفي نفس الوقت ظهر تصريحان شديدا اللهجة لكلا من "سامي عنان" و"مجدي حتاتة" وكلامها شغلا منصب رئيس أركان الجيش المصري في عهد مبارك والمجلس العسكري، الجنرالاين المتقاعدين لم يقولا أن الجزر مصرية فحسب بل شككا في وطنية من يقول عكس ذلك، في إشارة للرئيس.
وربما يكون ظهور شفيق وحديث رؤساء الأركان السابقين هو التهديد الفعلي الأول للسيسي فنحن أمام إشارات توحي أن هناك أجهزة في الدولة غير راضية عن أدائه، وموقف الإمارات هذا يبدوا مربكا جدا للجميع.
وحتى الأن لا توجد معلومات دقيقه تفسر التصرف الإماراتي العجيب هذا، وان كانت التكهنات تتأرجح بين إجابتين
الأولى: أن هناك في الخليج من بدأ يستشعر القلق من تصرفات السيسي العنيفة التي قد تقود لانفجار يطيح باستقرار البلاد، فقرر تجهيز بديل من رحم النظام يمكن التعامل معه.
التفسير الثاني: أن يكون تحرك أبو ظبي ناتج عن صراعها المكتوم مع السعودية على بسط النفوذ في المنطقة، وأن ظهور شفيق هو رسالة للسيسي تذكر "نحن هنا" فلا تول وجهك تماما صوب الرياض.
لكن... حتى الأن يبدوا سقوط السيسي بعيد نسبيا، فمازال الشارع تحت السيطرة، فالدعم السعودي من المؤكد سيزداد بعد تسلمهم الجزيرتين والمشاركة في الحلف المقاطع لقطر.
وعلى الصعيد الداخلي فالبادي أن الشارع المصري غير مستعد للدخول في دوامة مظاهرات أخرى الآن، خصوصا في غياب أي تنظيم معارض متماسك يطرح نفسه كبديل، ولهذا فان الخطر الحقيقي على النظام المصري يمكن في الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد، وعليه فالسيناريو الأكثر قتامة للجنرال عبد الفتاح السيسي هو أن تقرر الأمارات أو السعودية التخلي عنه ماديا، فتستغل إحدى الأجهزة السيادية الوضع الاقتصادي الخانق، لخلق أزمات هنا وهناك تزيد مع الغضب الشعبي المكتوم فتحدث فوضى تودي بحياة هذا النظام.