- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مكافحة الفساد في تونس واردة مع توفّر الإرادة السياسية
يبدو أن أحداث 25 يوليو / تموز أعادت ترتيب الحقل السياسي في تونس، وهو الوضع الذي تعزز بتشكيل حكومة جديدة برئاسة رئيسة الوزراء الجديدة والمستقلة نجلاء بودن.
في 11 تشرين الأول/ أكتوبر، أضفى أمر رئاسي الطابع الرسمي على تشكيل الحكومة الجديدة من خلال تسمية رئيس الحكومة وأعضائها. ومع تشكيل الحكومة الآن بعد فترة من عدم اليقين، تظل القضايا الاقتصادية والمالية العامة في تونس الهاجس الأكبر للفترة القادمة وذلك في ظلّ الهزات السياسية وحالة الطوارئ الصحية والاقتصادية التي عاشتها البلاد مؤخرًا نتيجة موجة وباء كورونا الشديدة .
تشكلت الحكومة الجديدة بعد قرابة الشهرين من تفعيل الفصل 80 من الدستور واتخاذ التدابير الاستثنائية التي اعتبرها الرئيس قيس سعيد في خطابه الأخير في 11 أكتوبر 2021 بـأنها تدابير "مبنية على الدستور وجاءت بعد استنفاد جميع المحاولات". ويمثل تشكيل هذه الحكومة الجديدة خطوة غير عادية ومميزة حيث سجلت حضور لافت للمرأة بعد تعيين 10 أعضاء من بينهم رئيسة الحكومة وفريق جديد يتألف بالكامل تقريبًا من مستقلين خارج النظام الحزبي في تونس. واحتفظ كل من وزيري الخارجية والتربية بمنصبيهما، وعودة وزير الداخلية ووزير الشباب والرياضة بعد إقالتهما في فترة حكومة مشيشي، كما تم الإبقاء على الوزراء المكلفون بتسيير وزارات الصحة والمالية وتكنولوجيات الاتصال في مناصبهم.
إثر إعلان الحكومة في تونس، تراوحت ردود الأفعال المحليّة بين ترحيب الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزيّة النقابية) مع دعوتها لحوار تشاركي ومطالبة أمين عام المنظّمة بالتسريع في تنفيذ الاتفاقات التي تم توقيعها مع الحكومات السابقة ومعالجة المالية العمومية وهو ما يعتبر تكرار لأخطاء العشريّة الماضية التي تضمنت تنفيذ اتفاقيات قطاعية مع حكومات سابقة وهذه الاتفاقيات لها مفعول رجعي مالي ما يتناقض مع الدعوات الرامية لمعالجة المالية العمومية.
كما عبّر الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة والصناعات التقليدية (منظّمة الأعراف) عن استعداده للعمل مع الحكومة الجديدة على قاعدة تحقيق المصلحة الوطنية وإنعاش الاقتصاد. وتعنى منظّمة الأعراف بقطاعات الصناعة والتجارة والحرف وتتمحور مهمتها حول الإجراءات التي تهدف إلى تعزيز وتنشيط القطاع الخاص إضافة إلى كونه المتحدث الرسمي للشركات مع السلطات العامة وقد نادت المنظمة مرارا بضرورة إرساء استقرار سياسي وحكومي عبر مراجعة القانون الانتخابي قصد بعث رسائل طمأنة للمستثمرين المحليين والأجانب.
ومع ذلك، وجدت الحكومة التونسية نفسها أمام تركات الحكومات السابقة وفي وضع لا تحسد عليه نظرا لشحّ الموارد المالية. ويبقى السؤال كيف ستتجنب الحكومة الحالية أخطاء الحكومات السابقة وكيف لها أن تعالج المالية العمومية في ظل اتفاقيات اجتماعية في معظمها لها مفعول مالي.
يمكن للحكومة إلغاء هذه الاتفاقيات حتى تتمكّن من كبح المصاريف واستعادة السيطرة على المالية العمومية وعلى اتحاد الشغل أن يدخل التاريخ مرّة أخرى بالقبول بهذه الخطوة خاصة وأن الوضعية مسألة أمن اقتصادي وطني.
ورغم الحضور اللافت للمرأة وتشريك مستقلين أغلبهم أبناء الإدارة التونسية)، لا يزال الشعب التونسي يرفض مشاركة الأحزاب في الحكومات بقدر ما يهمّه النهوض بالأوضاع المعيشيّة وتحسين القدرة الشرائية في ظل شح حاد للموارد المالية وسط عجز في تمويل موازنة 2021 الذي أقره البنك المركزي التونسي. ووفق بيان صادر عن البنك المركزي التونسي في 06 نشرين الأول/ أكتوبر 2021، عبّر البنك المركزي التونسي عن عميق انشغاله بالوضع المالي الحالي، وشدّد على ضرورة التعجيل في إعطاء إشارات واضحة للمستثمرين المحليين والأجانب بخصوص استرجاع نسق النشاط الاقتصادي والتوازنات الكلية والمالية وتعزيز حوكمة القطاع العمومي وتحسين مناخ الأعمال والرفع من المجهود الاستثماري.
وبالرغم من تأكيد رئيسة الحكومة الجديدة بودن أنه من الضروري إعادة الثقة بين المواطن والدولة ومكافحة الفساد تبقى معالجة هذه المعضلات وترجمتها عمليّا أبرز التحديات في المرحلة القادمة خاصة بعد ما جاء في خطاب الرئيس سعيد إثر موكب أداء اليمين الدستورية للحكومة الجديدة بقوله: "دأبوا منذ سنوات طويلة على الكذب والافتراء، ولم يلاحق أحد منهم أمام القضاء". وهذه ليست المرّة الأولى التي يدعو فيها الرئيس قيس سعيد القضاء إلى تحمّل مسؤولياته كاملة حيث جدّد إثر لقائه برئيس محكمة المحاسبات في 30 سبتمبر 2021 إلى ضرورة محاسبة المتورطين في قضايا فساد وبالتالي يعود سيناريو إسقاط القائمات في البرلمان التي تلقت تمويلات خارجية إلى الواجهة.
وكانت محكمة المحاسبات أصدرت حكما ابتدائيا بإسقاط 80 قائمة شاركت في الانتخابات البلدية لعام 2018 إلا أن جميع هذه الأحكام ما تزال في مرحلة الاستئناف وبالتالي فالأحكام الباتة والنهائية ستكون في مرحلة لاحقة، طبقا للإجراءات والآجال المنصوص عليها في القانون الانتخابي.
وفي سياق متصل أوضح الناطق الرسمي للمحكمة الابتدائية بتونس والقطب القضائي الاقتصادي والمالي في يوليو الفارط في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الحكومية أن تحقيقات انطلقت حول شبهة تلقي ثلاثة أحزاب سياسية أموالا أجنبية في الأسبوعين الأولين من شهر جويلية، أي قبل أن يتخذ الرئيس قيس سعيد إجراءاته الاستثنائية.
كل ذلك يشير بأن الرئيس عازم على تطهير الساحة السياسية من الأحزاب الفاسدة عبر أسس قانونية مصدرها أحكام محكمة المحاسبات التي بمقتضاها يمكن حلّ الأحزاب التي ثبت تلقيها تمويلات خارجية وبالتالي يمكن حلّ البرلمان نهائيا. وبخصوص المواصلة في التدابير الاستثنائية اعتبر الرئيس أنها ضرورة طالما هناك خطر جاثم في المجلس النيابي وعدد من المؤسسات الأخرى لم يسميها. وأعلن قبل ذلك أنه سيشكل لجنة من الخبراء تتولى إعداد مقترحات لتعديل النظامين السياسي والانتخابي.
دوليـّا اعتبرت واشنطن عن طريق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس أن تشكيل الحكومة الجديدة، يعد خطوة مرحب بها تخطوها تونس إلى الأمام نحو معالجة التحديات الاقتصادية والصحية والاجتماعية الكبيرة التي تواجه البلاد. ومنذ بداية الأزمة في تونس وتأكيد بايدن في رسالته لسعيّد في أوت الماضي عن دعمه الشخصي ودعم الإدارة الأميركية للشعب التونسي ومن ثم، أصبح موضوع مناهضة الفساد أمر مشروع لكن يجب معالجته بالتوازي مع الحفاظ على المسار الدستوري.
وبعد تركيز الحكومة التونسية والتي من الجليّ أن تكون في تناغم تامّ مع رئاسة الجمهورية وهو معطى لم تشهده البلاد منذ سنوات وذلك نظرا بأن الحكومة الحالية ليست منبثقة من الأحزاب وليست في حاجة لأحزمة سياسية (أي أحزاب داعمة من الأغلبية البرلمانية) التي يمكن أن تصبح هذه الأحزمة مفخخة في أي لحظة وتطلب أما التحويرات في إطار المحاصصة الحزبية وخدمة اللوبيات أو سحب الثقة.
هذه الخطوة تحسب للمسار الإصلاحي في تونس في انتظار البت في القضايا العالقة وتعديل النظامين السياسي والانتخابي بتشريك المنظمات الوطنية العريقة وتمرير هذه التعديلات على الاستفتاء الشعبي حتى تكون الإصلاحات نابعة من إرادة الشعب.
هناك أيضا عدة محاور يمكن أن تستغلّها الدولة التونسية في مجال مكافحة الفساد، على رأسها التطبيق الكامل للقوانين الردعيّة التي تخصّ حماية المبلغين عن الفساد وقانون النفاذ إلى المعلومة فلا فائدة من قانون لا يطبّق. ويجب أيضاً تقديم الدعم اللازم فيما يتعلق بتبادل الخبرات اللوجستية والفنية في مجال مكافحة الفساد، مع الهيئة والسلطة القضائية ولجان الرقابة والتدقيق المختلفة التي تحتاج إلى تطوير قدراتها على جميع المستويات الفنية واللوجستية مع الأخذ من تجارب دول نجحت في كبح جماح الفساد عبر التزام سياسي قيادي مستمر باستخدام نهج قائم على إصلاح المجتمع من القاعدة وصولًا إلى القمة، التجربة البوتسوانية والايستونية مثالا إضافة إلى شموليّة الرقمنة مع الحماية الصارمة لقاعدة البيانات كلها حلول ممكنة حين تتوفّر الإرادة السياسية وتتجنّد الأجهزة الرسميّة.