- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
من الحلول الأمنية إلى الحلول السياسية: التجربة الجزائرية الرائدة في مكافحة الإرهاب
تعتبر عملية جمع المعلومات المخابراتية جزءا" لا يتجزأ من عمليات وسياسات الحرب على الإرهاب ومواجهته. وتعتمد فاعلية أجهزة جمع المعلومات إلى حدٍ كبير على التنسيق المستمر بين الجيش والشرطة والأجهزة القضائية القائمة على إنفاذ القانون.
ونظرا للتهديد الذي يمثله تنظيم القاعدة على المستوى الداخلي، قامت الجزائر بتعزيز التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب، واكتسبت معرفة عميقة في مجال التعامل مع الشبكات الإرهابية محليا ودوليا. والأهم من ذلك: حققت الجزائر مستوى خاص من الحكمة في طريقة تعاطيها مع هذه الشبكات وحذرت من التدخل العسكري في مالي وليبيا المجاورة وكانت تحذيراتها مبنية على التخوف من أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الفكر المتطرف وتوحيد المشاعر الانفصالية. خاصة وأنها تحتوي على طوارق في جنوبها وقد يتحول انفصال الطوارق في مالي إلى عدوى بين طوارق منطقة الساحل وهو ما قد يؤدى إلى المساس بالوحدة الترابية لهذه الدول وبينها الجزائر.
ففي حالة مالي كانت الجزائر تدعو إلى الحل الدبلوماسي لقضية الطوارق من خلال فصل حركة تحرير أزواد وجماعة أنصار الدين عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا باعتبارهما جماعتين إرهابيتين، وبهذا تكون ضربت عصفورين بحجرٍ واحد. من جهة تتمكن من معالجة مطالب هاتين الحركتين، ومن جهة أخرى كسب حليفين في مواجهة الحركات الإرهابية التي كانت مسيطرة على ثلثي مساحة مالي (منطقة أزواد في مالي).
وبالرغم من دعوة الجزائر، إلا أنَ التدخل الفرنسي بدعم من الولايات المتحدة في مالي أوجد للجزائر مشكلا أمنيا آخر فقد أجبرها على إعادة تقييم سياستها الأمنية على طول حدودها مع مالي، نظرا لتدفق اللاجئين وما يحمله ذلك من أخطار الجريمة المنظمة، واندساس إرهابيين وسط اللاجئين وإمكانية تنفيذ عمليات إرهابية. كما كان أيضا للتدخل العسكري في ليبيا آثاره الواضحة على الجزائر من حيث استفحال تجارة الأسلحة وتهريبها وتحويل الحدود الشرقية للجزائر إلى حدود غير آمنة بل ومصدر خطر.
ومن أسباب اعتراض الجزائر على التدخل في ليبيا هو أن أفراد الأمن في ليبيا يفتقرون إلى السلطة للقيام بمهامهم الخاصة. على سبيل المثال: قد تتحول عملية أمنية إلى صراع مسلح قد ينتج عنه ضحايا محتملين، حيث يصبح رجل الأمن مسئولا" اجتماعيا" ومطاردا" بسببها، مما جعل الكثير من رجال الشرطة يقفون متفرجين أمام الخروقات الأمنية، تلاه فشل اللجنة الأمنية العليا، بسبب انضمام مسبوقين قضائيا وموالين للقذافي إليها، ورفض الضباط السابقين لها، كما رفض عناصر اللجنة الانضمام لجهاز الشرطة باعتباره من بقايا نظام القذافي.
في نهاية المطاف، بررت تلك التدخلات تخوفات الجزائر حيث شهدت زيادة لعمليات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في الجنوب والتي بلغت ذروتها بالاستيلاء على "تيڤنتورين"، أكبر مصنع للغاز الطبيعي بالقرب من بلدة أميناس (جنوب الجزائر). ولحسن الحظ، نجحت القوات الخاصة التابعة للجيش الوطني الشعبي الجزائري في استعادة السيطرة على المصنع، وتحرير العديد من الرهائن، والقضاء على الإرهابيين، لتجنب حدوث أزمة اقتصادية وطنية محتملة ناجمة عن تلك الأعمال الإرهابية.
أن انعدام الاستقرار الأمني في الحدود الجنوبية والشرقية الجزائرية عمَق من التهديد الإرهابي وباقي التهديدات اللانمطية مثل تهريب الأسلحة والمخدرات والإرهاب والهجرة غير الشرعية. والأخطر من ذلك هو اتحاد جماعات التهريب والجماعات الإرهابية، ووعيا" منها بأن الظاهرة لا يمكن مكافحتها بشكل منفرد، كان لزاما على الجزائر أن تنتهج مقاربة متعددة الأطراف من خلال ترتيبات ثنائية بينها وبين ليبيا وتونس، حيث "تتعاون مع ليبيا في مجال إعادة بناء جهازها الأمني ورفض التعامل مع الميليشيات وتنسيق عمليات مع القوات التونسية على حدودها الشرقية في حين رفضت الجزائر أي مشاركة مع الميليشيات الليبية.
وأدت التدخلات العسكرية إلى وجود دول فاشلة مجاورة للجزائر وتهدد امنها، هذا الهاجس الأمني دفع بالجزائر إلى اتخاذ إجراءات لحماية حدودها وهو ما تطلب رفع ميزانية الدفاع والأمن إلى 20 مليار دولار للعام 2014: مقابل 15 مليار دولار في 2013. هذه الميزانية الضخمة الموجهة للدفاع وتحديث منظومة السلاح وإن كانت طبيعية بالنظر إلى التحديات الجديدة، وخروج الجزائر من حصار مفروض غير معلن، تنظر إليها دول أخرى على أنها موجهة ضدها.
بما أن التجربة أثبتت رفض الجزائر التنازل عن مبدئها الراسخ في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم تدخل الجيش خارج حدوده، وبالتالي فإن هذه الآلية ستمكنها من متابعة سياسات مكافحة الإرهاب في بلدان الجوار في إطار متعدد الأطراف دون أن يشكّل ذلك تعارضا مع مبدأ عدم التدخل (ودليل ذلك رفضها التدخل في الأزمة المالية). ومن ثم، ينبغي دراسة الجزائر كنموذج ناجح في كلا" من المنحى الاجتماعي والاقتصادي لمكافحة الإرهاب وسياسة عدم التدخل.
الجزائر ومكافحة الإرهاب المحلي والدولي
تستطيع الجزائر أن تميز تمييزا" واضحا بين الإرهاب المحلي، الذي يعمل بشكل كبير في المنطقة الشمالية، وبين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بطابعه الإجرامي الدولي. علاوة على ذلك الجزائر، مثلها مثل تونس، حيث دائما ما تعرب عن قلقها المتزايد حول المسلحين العائدين من سوريا والعراق المحملين بذاكرة ما بعد الحرب الأفغانية /السوفيتية في عام 1992. حتى إن الأمم المتحدة أعربت عن خوفها من هذا الصراع على نطاق واسع في الشرق الأوسط الشرق، في حين أن ضباط مخابرات أمريكيين وأوروبيين حذروا من التهديدات الإرهابية الجديدة القادمة من المتشددين الغربيين العائدين من سوريا.
وقد نجحت الجزائر في تقليص الإرهاب المحلي مما أدى إلى تهجير هذه المجموعات إلى ما وراء الحدود الجزائرية وذلك بسبب الظروف الإقليمية غير المستقرة: - (الانفلات الأمني، والفقر، والصراع المسلح). لذلك قامت الجزائر في وقت لاحق ببذل العديد من الجهود الدبلوماسية في حين ظلت تعمل على الحفاظ على مصالحها القومية وتتمسك بمبادئ القانون الدولي.
هكذا تحركت الجزائر دبلوماسيا في محيطها الجغرافي (الساحل) باعتبارها الدولة المركزية في القارة بحكم موقعها وقوتها الاقتصادية، وفي كل الأحوال حرصت الجزائر على تغليب الخيار الدبلوماسي واستبعاد الخيار العسكري لدرء مشاكل القارة بما فيها معضلة الإرهاب كما سعت الجزائر في إطار دبلوماسيتها إلى إقناع المجتمع الدولي بقمع تمويل الأعمال الإرهابية وتجريم دفع الفدية.
وفي إطار مسعاها لإقناع المجتمع الدولي لإبراز مدى خطورة هذه الظاهرة على الأمن الدولي، فقد كللت مجهوداتها بمصادقة مجلس الأمن على اللائحة (رقم 1904) المتعلقة بتجريم دفع الفدية (شهر ديسمبر 2009) والتي تعتبر مكملة للائحة (رقم 1373) المتعلقة بتمويل الإرهاب ومكافحته (اللائحة رقم 1267).
لقد كانت أول خطوة على المستوى المحلي لمكافحة الإرهاب هي قانون الوئام المدني، تلاه كإجراء مكمل ميثاق السلم والمصالحة الوطنية. وفي الحديث عن مدى نجاعة هذه الإجراءات السياسية في استتباب الأمن فإنه تجدر الإشارة أولا إلى أن هناك حدود أو خطوط حمراء تحد من الكتابة النقدية، وهو ما أقرته المادة 46 من المراسيم التنفيذية له. كما ترى الحكومة في الطابع الإلزامي والردعي لميثاق المصالحة ضرورة لحماية مكسب إستعادة السلم المدني من دعاة الفرقة وإستمرار النزاع، وهو ما عبر عنه رئيس الجمهورية (السيد عبد العزيز بوتفليقة) بقوله: “إنني لا أضع مصلحة الجزائر بين أيدي من قرروا التلاعب بأمن الشعب الجزائري وأماله".
وقد حققت المصالحة الوطنية نجاحا نسبيا في الأهداف المتوخاة، حيث تم استرجاع السلم المدني وذلك بموجب الشروط المنصوص عليها، ووقف إراقة الدماء التي طالت جميع شرائح المجتمع الجزائري طيلة عقد من الزمن. وقد كانت زيادة مداخيل النفط منذ سنة 1999، أحد أهم أسباب النجاح النسبي للمصالحة الوطنية، حيث استخدمها (الرئيس بوتفليقة) في تمويل مشروع المصالحة الوطنية عبر تقديم التعويضات المادية للمتضررين، وكذا نجاحه في الحصول على دعم رموز الجبهة الإسلامية للإنقاذ لمشروعه السياسي داخل الجزائر (مدني مزراق، بوعلام كرطالي)، وحتى خارجها (القيادي أنور هدام اللاجئ في الولايات المتحدة الأمريكية)، بالإضافة إلى القيادي الجبهوي"( رابج كبير"): حيث اعتبر هؤلاء القادة "المصالحة الوطنية" خطوة حضارية وضرورية لإستتباب السلم المفقود، ووعدوا بالمساهمة في إنجاح المبادرة عبر تقديم نداءات للمتمردين في الجبال للنزول وإلقاء السلاح، والاستفادة من مراسيم السلم والمصالحة الوطنية، وبالفعل فقد تراجعت وتيرة العمليات المسلحة في البلاد، كما تراجع العديد من قادة الجماعة الإسلامية المسلحة.
إنه وبفضل التضحيات الكبيرة والجهد الأمني استطاع الشعب الجزائري إستعادة مواطنته، عبر إستتباب الأمن وسيادة القانون وانفتاح الساحة السياسية والاقتصادية على مختلف الفاعلين وقوت اللحمة بين مختلف شرائح المجتمع الجزائري. إن محاولة الجزائر بلورة إستراتيجية شاملة في أفريقيا لا تعنى بها سوى الدول الأفريقية، حيث تهدف أولا وقبل كل شيء إلى منع التدخلات الأجنبية في المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب، فالجزائر حاولت في ظل مجهوداتها سواء الدبلوماسية أو العسكرية على المستوى الإفريقي في محاربة ظاهرة الإرهاب، حاولت التأكيد على مبدأ "أفرقة الحلول ".
لقد أثبت إتباع النهج العسكري لقمع العمليات الإرهابية عدم نجاعته، ولعل خير مثال على ذلك الجزائر، التي تعد الآن دولة رائدة في مجال مكافحة الإرهاب بشهادة دولية. وسابقاً عمدت الجزائر طيلة عقد من الزمن إلى التعامل مع الظاهرة بطريقة عسكرية استئصالية، مما زاد من تأزم الوضع الذي جعل البلاد قاب قوسين أو أدنى من تدخل دولي لتسوية الوضع. لكن التغير الذي حصل في الاستراتيجية الجزائرية وانتهاجها طرق اقتصادية واجتماعية سلمية في معالجة الأزمة، كانت له نتائج إيجابية أكدت أحقية وأولوية الحلول السياسية على العسكرية.