- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية بعد مقتل آخر خلفاءه
بعد مقتل زعيم تنظيم "داعش" أبو إبراهيم القرشي، سيحاول التنظيم إعادة تنظيم صفوفه والمضي قدمًا، لكن استبدال زعيمه سيطرح تحديات فريدة من نوعها.
في الثالث من شهر شباط/ فبراير الجاري أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن عن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". وفى حين يمثل مقتل عبدالله قرداش زعيم تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" حدثاً مهماً وإنجازا كبيرا من الناحية الأمنية وانتكاسة كبيرة للتنظيم، كما انه سيحد من تحركاته في كل من العراق وسوريا، إلا انه يبدوا أن الأثار السلبية لاغتيال قرداش على التنظيم لن تدوم طويلا.
اعتاد تنظيم "داعش" على التكيف بسرعة استثنائية مع الصدمات والمتفككات التنظيمية التي آلمت به بعد مقتل خلفاء وقيادات كبيرة له. لذا من الضرورة بمكان فهم العوامل التي يستند عليها هذا التنظيم والتي تبقيه متماسكا كلما انحدر نحو الهاوية وخسر أحد معاركه الكبيرة أو سقط أحد قيادات الصف الأول لديه. إن تنظيم داعش هو منتوج معقد تطور بسرعة فائقة وفرض نفسه بقوة في ظروف استثنائية وهو يمثل طفرة حقيقية مقارنة بالجماعات الجهادية الإرهابية الأخرى كونه يستند على محركات أساسية تطبيقية لا يحيد عنها سواء تقوت شكوته أو ضعفت قوته.
المحرك الاستراتيجي والأيديولوجي
بعد القضاء على خلافة تنظيم داعش واسترداد الأراضي التي كان يسيطر عليها في عام 2019 راهن الكثيرون على أن هذا التنظيم ماض نحو الزوال أو الانطواء والانكماش الحقيقي كالذي أصاب تنظيم القاعدة. وجاءت هذه المراهنة نتيجة إجراء مقارنة أيديولوجية بين هذين التنظيمين وتحديد التشابهات بينهما. صحيح أن منبع الأيديولوجية الدينية تتشابه بين التنظيمات الإرهابية الإسلاموية الراديكالية بصورة عامة وبين داعش والقاعدة بصورة خاصة، ألا أن صيغة الأيديولوجية نفسها ونظرية العمل المشتقة منها تختلف اختلافاً كبيراً بين تنظيمي القاعدة وداعش، بل يمكن القول أن نظرية العمل عند داعش وان استندت الى مخرجات الفكر الديني السلفي المتشدد إلا أنها مثلت وما زالت تمثل طفرة حقيقية وفريدة من نوعها أوصلت التنظيم الى سدة الخلافة وحولته من مجاميع مسلحة الى جيش كبير في مدة زمنية قياسية.
إضافة الى ذلك، يتبع التنظيم بشكل صارم استراتيجية طويلة الأمد مرسومة على شكل خطط مدروسة يقوم بمراجعتها وتطويرها بشكل مستمر بحيث تتواكب مع الأوضاع المحلية والإقليمية المتغيرة وتساهم في حماية التنظيم من الاندثار ، فمثلاً تطبيق مبدأ اللامركزية في العمليات الميدانية يعطي للقيادات العسكرية حرية كبيرة في تنفيذ عمليات إرهابية تراها مناسباً طبقاً للظروف المحيطة بها، بل أن اللامركزية توسعت وبشكل كبير نحو إطلاق يد القادة الميدانيين لتأمين قسط كبير من التمويلات المالية وتعزيز عمليات التجنيد الأفقية في المجتمعات التي يعيشون فيها.
تُؤمن هذه الاستراتيجية للتنظيم التكيف المثالي مع الظروف الميدانية المحيطة وتمنع التفكك وتدعم عمليات التجنيد. إضافة الى ذلك تعتبر تكتيكات “السكون والتلاشي” التي يتبعها التنظيم خاصة عندما يتعرض لضغوطات أمنية أو عند قيام القطعات العسكرية الحكومية بتنفيذ حملات أمنية واسعة ضده بين الحين والأخر، أحد الاستراتيجيات الهامة التي ساهمت في الإبقاء على التنظيم بعيدا عن الأنظار.
أما فيما يخص المحرك الأيديولوجي للتنظيم فأنه يستند إن فقه جهادي خاص وهو فقه هجين مستحدث، وغير مقنن كتلك المعمول بها لدى تنظيم القاعدة، فداعش يعتمد وبشكل كبير على كتاب من فقه الجهاد لشخص يدعى (أبو عبد الله المهاجر) وهو فقه يبيح قتل كل شخص وفي أي وقت ولاي سبب بغية الوصول الى الخلافة المنشودة.
المحرك الإعلامي والاجتماعي
يركز التنظيم دائماً في نداءاته السياسية وبياناته الإعلامية على مظلومية السنة ومدى التهميش الذي يمارس ضدهم في كل من العراق وسوريا. كان أسلاف التنظيم في العراق يعتمدون على “التجنيد الحذر” أو الاستقطاب النخبوي” خوفاً من التفكك أو الاختراق، إلا انه وبعد تولي” أبو بكر البغدادي” قيادة التنظيم عام 2010، ركز التنظيم على توسيع نطاق عمليات التجنيد معتمداً على “التجنيد المتعدد” أو “التجنيد الجماهيري” والذي أدى الى حدوث طفرة عددية في حجم مقاتليه الذي وصل عددهم الى 300 ألف مقاتل في العراق و50 ألف مقاتل في سوريا بحلول عام 2014. وعلى الرغم من تقلص الإنتاج الإعلامي (نوعاً وكماً) ومحدودية انتشاره مقارنة بالسابق إلا أن الخطاب الإعلامي للتنظيم لا يزال يحظى بمقبولية لدى الألاف المسلمين.
ساعد المحرك الإعلامي كثيراً في تطوير وفي تشكيل حواضن شعبية مؤيدة للتنظيم، وهذه الحواضن تطورت واتخذت أشكال مباشرة(مؤيدة) أو غير مباشرة(محتملة). الحواضن المباشرة تنتشر في بعض المناطق السنية العراقية والسورية التي تعاني من التهميش والإقصاء، أما الحواضن المحتملة الغير المباشرة، فهي عادة حواضن محايدة لا تعلن ولائها للتنظيم ولا تعارضها في الوقت نفسه، وتتواجد كلا الحاضنتين في مناطق أما يسيطر عليه التنظيم أو يتحرك فيها بقدر كبير من الحرية، وهي تمثل ارض خصبة آنية أو مستقبلية لاستقطاب عناصر جدد ومجالاً فسيحاً لكي يطبق التنظيم استراتيجيته فيها.
الأثار المترتبة على مقتل خليفة داعش
إن نظرة فاحصة في سيرة الجماعات الجهادية الراديكالية بصورة عامة وداعش بصورة خاصة يؤكد بشكل لا ريب فيه أن مقتل قياداتها أو زعمائها لا يعني بالضرورة نهاية قريبة للتنظيم أو فكرها الأيديولوجي. أن قوة داعش المركزية وقدراتها المتفرعة لا يتمحور حول زعمائها فقط، بل انه يستند الى جملة من المجالات والمتغيرات البنيوية كالتجنيد، الاستراتيجية، الاستقطاب، التعبئة وغيرها من العوامل. ومن ثم، فإن مقتل خليفة التنظيم (قرداش) لا يمثل سوى هزيمة عسكرية أخرى للتنظيم في ظل استمرار الحرب الاستنزافية الطويلة الأمد التي يتناوب على إدارتها الحكومات المركزية تارة وداعش نفسه تارة أخرى. لقد خسر التنظيم سابقاً دولته في العراق وسورية وقتل الأف من قياداته واتباعه وما يزال يقبع الأف أخرين في السجون وفقد القدرة على التعبئة وانحصر تمويله كثيراً، إلا انه استطاع أن يعيد هيكلة نفسه من جديد في اقل من عامين والبدء بشن هجمات نوعية مؤثرة في البلدين المذكورين أعلاه.
ومع ذلك، يمثل تعيين خليفة جديد أهمية كبيرة في ربط أركان التشكيلات والمجاميع المرتبطة بالتنظيم ومنع انشقاق البعض منها وكذلك الاستمرار في تحقيق المكاسب السياسية وتطبيق الأهداف الاستراتيجية الرئيسية التي أعلنت على أساسها الخلافة، فبدون الخلفية يضحى داعش تنظيماً عادياً محلياً فاقداً لمكانته الإقليمية والدولية وقد ينتهي به الأمر الى إعلان البيعة الى تنظيم القاعدة من جديد. ومن ثم، فان منصب الخليفة هو عامل دعائي مكرس لمفهوم الخلافة حتى وان لم يستطيع التنظيم تطبيقها على ارض الواقع.
ومن الجدير بالذكر أن، اختيار عبد قرداش لم يحظى بأجماع القيادات العسكرية والدعوية داخل التنظيم، حيث تم قبول توليه الخلافة بناءاً على رغبة أبو بكر البغدادي الذي أعلنه كخليفة له قبل مقتله، أي انه فُرض فرضاً على باقي القيادات الإرهابية داخل داعش، ويبدو أن أبو بكر البغدادي قد حاول تفادي حصول انشقاقات داخل التنظيم في حال مقتله.
وبما أن مثل هذا الأمر لم يتم على نفس المنوال في حياة عبد الله قرداش نفسه فاحتمالية تأخر إعلان الخليفة وظهور أزمات داخل التنظيم أصبحت أكثر وروداً من السابق. وكذلك من المحتمل أن يتولى احدى القيادات الباقية في مجلسي الشورى أو” اللجنة المفوضة” منصب الخليفة الجديد، أمثال (جبار سلمان العيساوي، جمعة عواد البدري، بشار غزال الصميدعي، سامي جاسم محمد الجبوري وكذلك فائز عكال النعيمي القريشي).
وفوق كل ذلك، يرغب التنظيم في اختيار خليفة يتمتع بكاريزما قوية ونسب قرشي واضح هذه المرة ويتفق عليه الجميع مثلما اتفقوا على (أبوبكر البغدادي) الذي استطاع نقل التنظيم من تنظيم أمنى عراقي محلي الى تنظيم دولي مسيطر على أراضي شاسعة عام 2014، إلا أن هذا الأمر قد يكون صعباً في الفترة الراهنة خاصة وان التنظيم يعاني من أزمة قيادية تزايدت بعد فقدانها لأغلب قياداته المخضرمة من الرعيل الأول الذين عاصروا الزرقاوي والبغدادي الأول والثاني.
ومن ثم، فان تعيين خليفة جديد لعبد الله قرداش سيستغرق وقت أطول، وحتى أن تم إعلان الخلفية المحتمل خلال الأيام القليلة القادمة إلا أن مبايعته من قبل القادة الأمنيين داخل التنظيم وزعماء الولايات التنظيمية حول العالم سيأخذ بعض الوقت هذه المرة وذلك لعدة أسباب منها، تعالي الأصوات داخل المجاميع المرتبطة بالتنظيم في العراق وسوريا بتنصيب خليفة من غير الجنسية العراقية وهو من الأمور التي قد يأخذها مجلس شورى واللجنة المفوضة المعنيان بتنصيب الخلفاء على محمل الجد لكي لا يتم حصول انشقاقات داخل التنظيم أو التنظيمات المبايعة له في العديد من دول العالم.
أن اختيار تنظيم داعش لقيادته الجديدة هو أمر حتمي لن يؤخره سوى العوامل أو التأثيرات التي أشرنا إليها سابقا إلا أن هذا الاختيار سيترتب عليها تداعيات وآثار كثيرة هذه المرة، بل أن مستقبل التنظيم في العراق وسورية أصبح مرهوناً باسم ومكانة الخليفة الجديد. وفى وقت يحاول التنظيم ترميم مجاميعه الإرهابية والبدء في مرحلة إعادة فرض النفوذ على العديد من الأراضي والمناطق في سوريا والعراق فان أية أزمات أو تأخر مديد في اختيار خليفة خارج الأجماع القيادي ستكون له تداعيات عميقة على هيكليته واستمراره في تطبيق استراتيجيته التمكينية الحالية.