04/17/2017
في عام 622 م هاجر الرسول محمد إلى المدينة وهناك أسس دولته وكتب وثيقته الشهيرة لحماية المجتمع المدني واحترام الحريات. الإيمان والأخلاق والمساواة كانت القيم الأساسية لتلك الدولة الصغيرة. اليوم ترى الأسرة الحاكمة والشعب السعودي إلى أن المملكة العربية السعودية الحديثة تمثل امتداد لتلك الدولة. ورغم البعد الزمني الطويل والتغيرات الكبيرة في العالم إلا أن تلك القيم مازالت هدفنا المنشود، وأن أي تقدم للأمام يجب أن يعزز تلك القيم السامية.
السؤال الأصعب في عصر التنوير في أوروبا كان " من أين يجب أن يبدأ التغيير؟ من أسفل الهرم أم من الأعلى؟ " نفس السؤال كان مطروح قبل الربيع العربي وأجاب البوعزيزي وشباب الثورات العربية على هذا السؤال في الميادين.
لم يكن الربيع العربي مؤامرة ولا حماقة شباب متهور بل انتفاضة على الطغيان واليأس والفساد. لم يبحثوا عن خلافة إسلامية جديدة ولا نظام حكم رجعي يعود بنا للعصور الوسطى بل كان مطلبهم واحد " عيش ـ حرية ـ عدالة اجتماعية “. وكان من الممكن تجنب حمام الدماء إذا ما تحرك من هم في أعلى الهرم واستجابوا لتلك المطالب المشروعة. تلك الأحداث المؤسفة التي تلت الربيع العربي خلقت تحديات جديدة في منطقتنا أهمها زيادة الإرهاب والحروب الأهلية وهنا يظهر الدور المهم الملقى على عاتق السعودية للمساهمة في حل تلك التحديات وإعادة الاستقرار إلى عالمنا العربي، ولا أجد وسيلة أفضل للمساهمة بحل تلك التحديات إلا أن نقدم نموذج يحتذي به الأخرين وأن نكون قدوة لهم.
القدوة يجب أن تكون قوية وأنا هنا لا أتحدث عن القوة الصلبة التقليدية رغم ضرورتها لردع التعديات الخارجية بل أتكلم عن القوة الاقتصادية التي تمثل المقياس الحقيقي لسلطة ونفوذ أي بلد. ونحن في السعودية لدينا مشاكلنا الاقتصادية والتي تتمثل في انخفاض الأجور في القطاع الخاص، وارتفاع أسعار الخدمات الأساسية وتراجع أسعار النفط، وارتفاع معدل البطالة بين الشباب، إضافة إلى استحواذ الشركات التي تمتلكها العائلات الكبرى على نسبة كبيرة من اقتصاد البلد دون أن يكون عليها عبئ ضريبي يدعم موازنة الدولة. لذلك يجب أن يعمل صناع القرار السياسي وأصحاب الثروات والمواطنين العاديين معا لتحديد السبيل الأمثل للإصلاح الاقتصادي. ومن هنا يجب أن يبدأ الحوار.
ومع ذلك، فالحوار وحده لا يكفي، المشاركة الشعبية في صنع القرار في المرحلة الإصلاحية القادمة ستكون العامل الأساسي للنجاح، نظرا لان حساسية المرحلة القادمة توجب ذلك. هذا ما أدركه البريطانيون في القرن الثالث عشر الميلادي حينما وقعوا الوثيقة العظمى "الماجنا كارتا " ليصبح للبرلمان الإنجليزي سلطة حقيقة للمشاركة في صناعة القرار. الحروب والأزمات تتطلب قرارات تمس حياة المواطن، ومشاركة المواطن في صناعة القرار تفرض عليه تقبل الظروف الناتجة عنه. المشاركة الحقيقة ترفع من مستوى الوعي عند المواطن وتعزز للحوار المثمر وتفتح الأفاق للتعددية الطبيعة في أي مجتمع متحضر.
المجتمع السعودي ليس كما يصوره البعض بأنه متشدد ورجعي ويحتاج إلى إصلاح ديني فتنظيم "داعش" لم يستقطب القلة المتطرفة في السعودية فقط بل انضم إليها من ألمانيا وبريطانيا وغيرها من دول العالم، وهذا لا يعني أن تلك المجتمعات وهابية أيضا. الشاب السعودي متفاعل مع العالم ومنفتح على كل ما هو جديد ويرغب في المساهمة في النمو والنهضة في بلده وإقليمه وعالمه. لكننا نود أيضا أن نظل متمسكين بثقافتنا ومعتزين بتاريخنا، ولا نقبل الانسلاخ من حضارتنا العريقة، وأي تحركات ضد هذه المسلمات تهدد السلم.
السلام لا يعني التسليم والاستسلام، فالتدخلات الخارجية التي ترمى إلى زعزعة أمننا واستقرارنا يجب أن تواجه بكل القوة الممكنة، وتفاعلنا مع قضايا الأمة مسؤولية تاريخية وإظهار أو إبطان عكس ذلك خيانة للامة. أي مشروع للسلام لكي ينجح ويستمر يجب أن تفي جميع أطرافه ببنوده التي تضمن العدالة للجميع.
أي عمل بشري يجب أن يخضع للتقييم والتقويم ليظهر بأفضل صورة ممكنة، الأصوات المختلفة هي من تقوم بذلك، قال عمر بن الخطاب "رحم الله امرئ أهدى إلى عيوبي". الإعلام الحر المستقل أهم الوسائل التي يستطيع من خلالها الوطنيون والناصحون أن يعرضوا أراءهم بطرق سلمية. فتح المجال لصحافة مستقلة وقنوات تمثل الرأي الأخر أمر لابد منه.
مع احتدام الأزمات التي تواجهها المملكة العربية السعودية سياسيا واقتصاديا وثقافيا على الصعيد المحلي والإقليمي يجب أن تكون المملكة مستعدة لإتخاذ القرارات المصيرية اللازمة لحماية الأمن القومي وأيضا ضمان استمرار دوران عجلة التنمية. لكن صناعة مثل هذه القرارات المصيرية في دوائر ضيقة لن يكون مجدياً على المدى البعيد لذلك يجب أن تمنح القاعدة الشعبية فرصة للمساهمة الفاعلة في إتخاذ القرار. وهذه فرصة عظيمة لصناع القرار للعمل جنبا إلى جنب مع مواطنيهم.