رسم خريطة التغيرات في العلاقات بين تركيا والإمارات: مسألة دبلوماسية
يعد فهم التحولات الأيديولوجية والجغرافيا السياسية الإقليمية وجذور الخلاف التركي الإماراتي أمرًا بالغ الأهمية لتقييم النتائج المحتملة للتبادلات الدبلوماسية الأخيرة بين البلدين.
هيمن محور الخصومة الإقليمية بين تركيا والإمارات العربية المتحدة في سياسة الشرق الأوسط، على خلفية الأزمات الإقليمية التي تلوح في الأفق من سوريا إلى تونس. لكن مؤخرًا، بعث كلٌ من الطرفين رسائل استرضائية إلى الطرف الآخر، واتخذ خطوات حذرة لتهدئة التوترات. ومؤخرًا جدًا، التقى مستشار الأمن الوطني الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان بأردوغان في أنقرة بتاريخ 18 آب/أغسطس، وناقش معه خطط الاستثمار الإماراتية في تركيا، بالإضافة إلى مسائل إقليمية أخرى. وتشير هذه الزيارة إلى إمكانية بدء مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية، ستكون فيها أنقرة وأبوظبي قادرتين على إدارة اختلافاتهما من أجل تعزيز التجارة والاستثمارات التي تعود بالمنفعة على كلٍ منهما. ومع ذلك، بهدف فهم احتمال حدوث تبدُّل مشابه، من المهم وصف ما تغير –وما لم يتغير– في العلاقات التركية الإماراتية.
التحسن والتراجع منذ الربيع العربي
يمكن نسب جذور الخصومة الحالية بين تركيا والإمارات إلى الربيع العربي، حين أطاحت التحركات الشعبية –من بينها الجماعات الإسلامية– بعدد من الأنظمة العربية. فمنذ تلك الفترة، التي دعمتها تركيا بشكل عام فيما اعتبرتها الإمارات تهديدًا كبيرًا، عززت أنقرة وأبوظبي الآفاق السياسية والإيديولوجية المتضاربة في المنطقة. وبلغت العلاقات حدًّا متدنيًا –وأوشكت على الانقطاع– حين خسرت جماعة "الإخوان المسلمين" السلطة في عام 2013. ولاحقًا، أدت أزمة الخليج في عام 2017، والحرب في ليبيا، والخصومة في الشرق الأوسط، ومجموعة من المشاحنات الدبلوماسية، إلى إفساد العلاقات أكثر فأكثر. ورغم عدم انقطاع العلاقات الدبلوماسية أبدًا بشكل كامل، استدعت أبوظبي بهدوء السفير خليفة شاهين المرر في عام 2018، ولم تستبدله حتى الآن بمبعوث جديد.
إلا أن تفسير العلاقات التركية الإماراتية في العقد المنصرم على أنها متصاعدة بلا انقطاع وبشكل مستمر هو أمر مضلل. ففي عام 2016 مثلًا، باشرت أنقرة وأبوظبي عملية حوار من أجل حل مسائلهما وتحسين التعاون، وزار وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الإمارات العربية المتحدة في نيسان/أبريل 2016، والتقى بالشيخ محمد بن زايد، والشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والشيخ عبد الله بن زايد. وفي شهر أيار/مايو من ذلك العام، أعلنت أبوظبي أن شاهين سيكون السفير الإماراتي الجديد لدى أنقرة، وهو منصب بقي شاغرًا منذ عام 2013.
حتى أن اتهامات أنقرة بتمويل مدبّري انقلاب ضد أبوظبي لم تضع حدًّا لعملية الحوار هذه. وفي الواقع، فيما سعت تركيا إلى تسليم العناصر الذين يُعتقَد أنهم شكلوا جزءًا من محاولة الانقلاب في عام 2016، اعتقلت الإمارات العربية المتحدة في مطار دبي جنرالين تركيين يعملان في أفغانستان وسلّمتهما إلى تركيا. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2016، كان "مجلس التعاون الخليجي" أيضًا المنظمة الدولية الأولى التي أعلنت أن "حركة غولن" –أي العدوة اللدودة لأردوغان– هي تنظيم إرهابي، ما شكّل بادرة واضحة عن حسن النية إزاء الحكومة التركية.
رحّبت أنقرة بهذه الجهود، فصرّح جاويش أوغلو لاحقًا أن تركيا والإمارات لهما السياسات والمصالح الإقليمية نفسها. ومع ذلك، نظرًا إلى اتهامات المسؤولين الأتراك المتهورة ضد الإمارات، يمكن القول إن اهتمام أنقرة بالمصالحة ليس قويًا بشكلٍ خاص. وفيما شكلت زيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد إلى أنقرة نقطة تحول مهمة، رفضت تركيا عروض زايد الخاصة بالاستثمارات المالية مقابل تسليم عضوَيْن من جماعة "الإخوان المسلمين"، والتعاون في مسائل إقليمية أخرى. وبعد ذلك، جعلت الأزمات الإقليمية والثنائية، إلى جانب الهجمات الإعلامية المتبادلة، الخصومة بين تركيا والإمارات من أخطر المشاكل في المنطقة وأكثرها انتقالًا.
الأسباب الكامنة خلف الانشقاق التركي الإماراتي
لا بد من أن تقرّ أي محاولة لرأب الصدع بالخلاف الإيديولوجي القائم بين الحكومتين، الذي فاقمَ المشاكل في العلاقات الثنائية وعدم توافُق التصورات الجيوسياسية، ودعم الحكومتين للفصائل المتنازعة في كل أزمة إقليمية تقريبًا. وشجّع الفراغ الذي أحدثه تراجُع دور الولايات المتحدة في المنطقة والقوى الإقليمية على سد الثغرة، ما غذّى هذه الرؤى المتشابكة في المنطقة.
اتّبع كلٌ من أنقرة والإمارات سياسات خارجية توسعية تهدف إلى زيادة وجودهما الاقتصادي والسياسي والعسكري في المنطقة – وهي سياسات تضع الطرفَين على مسار من التصادم. فدقّ وجود القوات العسكرية التركية في قطر والقرن الأفريقي جرس الإنذار لدى الإمارات العربية المتحدة وأيضًا السعودية ومصر. وتحولت ليبيا من جهة أخرى إلى حرب بالوكالة في الخصومة التركية الإماراتية.
ما زاد هذه المسألة تعقيدًا هو نهج وزارة الخارجية التركية إزاء الإمارات. فرغم أن الإمارات هي من أهم المستثمرين في تركيا، تعاملت أنقرة مع علاقاتها بها كبند غير مهم في السياسات الخارجية. وبقيت الحكومة التركية لسنوات بعد الربيع العربي غير مدركة لهواجس أبوظبي وإحباطاتها في ما يخص القضايا الثنائية. وحتى في عام 2016، كانت تركيا ترى الإمارات كمشيخة خليجية صغيرة ولو كانت طموحة، بدلًا من اعتبارها جهة فاعلة إقليمية ذات نفوذ متنامٍ.
وأدى سوء التواصل إلى تأزيم الوضع. فمع أن أنقرة لم تستدعِ أبدًا سفيرها لدى أبوظبي، طالما كانت العلاقات الدبلوماسية هشة. فعدد الاتصالات رفيعة المستوى منخفض جدًا، لا سيما مقارنةً مع قطر. وفي أحد هذه الاتصالات الدبلوماسية النادرة مع الإمارات، زار أردوغان إمارة الشارقة بدلًا من أبوظبي في عام 2013 – وهو قرارٌ لم تكن القيادة الإماراتية راضية عنه. ولو كان عدد الاتصالات الدبلوماسية المتواترة أكبر بين الطرفَيْن، لَأصبح بالإمكان تجاوُز الاختلافات الإيديولوجية والجيوسياسية بشكلٍ أسهل على الأرجح.
هل التطبيع ممكن؟
رحّب أردوغان في لقائه مع الشيخ طحنون الأسبوع الماضي بعرض الاستثمارات الذي قدّمته الإمارات في تركيا. ونظرًا إلى رفض هذا العرض سابقًا في عام 2016، من الممكن أن تتوقع أبوظبي في المقابل بعض التنازلات وتعاونًا في المسائل الإقليمية. وإذا صحّ ذلك، ربما كانت أنقرة لتقبل الصفقة التي رفضتها في عام 2016.
إن الطريقة الأفضل لتقييم احتمال التطبيع هي تقييم كيف تغيرت العوامل التي تؤثّر في النزاع. فعلى صعيد الإيديولوجيا، أصبحت اليوم الملامح الإسلامية التي اتسمت بها السياسات الخارجية التركية أضعف مما كانت عليه مسبقًا. فمنذ بضعة أشهر، طلبت الحكومة التركية من جماعة "الإخوان المسلمين" "تخفيف حدة الانتقادات الموجهة إلى الحكومة المصرية". وإلى ذلك، أثبتت أنقرة كيف تستطيع التصرف عمليًا في سوريا على مدى السنوات القليلة الماضية. وبالتالي، من الممكن استنتاج أن النزاع الإيديولوجي بين تركيا والإمارات لا يشكل حاليًا عائقًا كبيرًا على مسار التطبيع.
الأهم من ذلك هو أن معرفة القيادتين التركية والإماراتية لقدرات الآخر ونواياه تحسنت بعد بضع سنوات من الخصومة الشديدة. فأصبح السفير الإماراتي شاهين مساعدًا لوزير الخارجية ثم وزيرًا للدولة بعد استدعائه من أنقرة. وأصبح السفير التركي كان دزدار المدير العام لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية التركية.
أُتيحت لأنقرة وأبوظبي أيضًا الفرصة لقياس نقاط القوة لدى بعضهما البعض، ففي ليبيا بشكل خاص، عجز كلا البلدين عن تسجيل النقاط ضد بعضهما البعض، ما شجّع الطرفَيْن ربما على إيلاء أهمية أكبر للقنوات الدبلوماسية.
يشكل تبدُّل دور الولايات المتحدة أحد العوامل أيضًا. فأدى انتخاب الرئيس بايدن في البداية إلى توقُّع زيادة التدخل الأمريكي في المنطقة مقارنةً بحقبة ترامب. إلا أن الانسحاب من أفغانستان أضعفَ هذه التوقعات. وعلى العكس، تشير سياسات بايدن على مدى السنة السابقة إلى أن الولايات المتحدة ستواصل التراجع من المنطقة. وإلى ذلك، ما زالت حالات عدم الاستقرار والفراغ في السلطة قائمة إقليميًا.
لكنّ التغيير الأهم ربما هو تراجع القدرة التي تتمتع بها تركيا من ناحية قوتها بسبب مشاكلها الاقتصادية ومشاكلها الأخرى المتعلقة بالسياسات المحلية. فالقيادة الإماراتية، على غرار السعوديين والمصريين، "كلهم شعروا بضعف أردوغان" الذي يجعله أكثر عرضة للقيام بتنازلات. وعلى العكس، أثارت الإمارات الجدل حين قدّمت ملاذًا آمنًا لزعيم مافيا تركي مهم هو سادات بيكر، الذي تجمعه صلات وطيدة بشخصيات تتحكم بخفايا السياسات التركية، فكشف منذ ذلك الحين فضائح حزب أردوغان، أي "حزب العدالة والتنمية". وفي المقابل، بعد الاجتماع مع الشيخ طحنون، أظهر أردوغان مدى حماسه لإبرام صفقة في مقابلة تلفازية، فيما بقيت الجهة الإماراتية أكثر هدوءًا.
لا يضمن أي من هذه العوامل حدوث تبدُّل في العلاقات، إلا أن الاتصال الدبلوماسي على مستوى أعلى، لا سيما عقد اجتماع بين أردوغان ومحمد بن زايد، سيكون مفيدًا على الأرجح لتهدئة التوترات وإدارة النزاعات المستقبلية التي يُحتمل أن تنشأ. وعلى كل حال، وكما صرّح كلا الطرفين مراتٍ عدة، لا يعاني كلٌ من تركيا والإمارات من مشاكل عميقة الجذور مع الآخر. لكن تتوقف أمور كثيرة على حالة السياسة الداخلية في تركيا؛ فإذا تعافى الاقتصاد التركي وقمعَ أردوغان موجات الانشقاق المتنامي ضد سياساته المحلية، قد تصبح مرة أخرى الخصومات الجيوسياسية والإيديولوجية بين تركيا والإمارات أكثر هيمنةً.