- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
شبكة النفوذ الإيرانية المتنامية بين عشائر شرق سوريا
تبني إيران نفوذ عسكري واجتماعي واقتصادي بين العشائر السورية الشرقية التي تستعد لغزو المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في حالة انسحاب الولايات المتحدة.
غالبًا ما يناقش الباحثون والمحللون مسألة استخدام إيران للوكلاء الشيعة من أجل دعم نظام الأسد في سوريا. وفي 26 شباط/فبراير، استقطبت تلك الميليشيات انتباه العالم بعد أن أقدمت إدارة بايدن على عملها العسكري الأول مع غارة جوية على منشأة تابعة لميليشيا مدعومة من إيران في شرق سوريا. ولكن بالرغم من الاهتمام الذي حظيت به تلك الميليشيات في أوساط الإعلاميين والمحللين، لم تُطرح مواد تُذكر حول استراتيجية أخرى تنفذها إيران على الأرض في سوريا، وهي جهودها المستمرة لإقامة علاقات مع العشائر العربية في المنطقة الشرقية من البلاد. وفي حين تتوفر بعض المعلومات عن أقوى ميليشيا عشائرية تمولها وتدربها إيران، وهي "لواء الباقر" المؤلفة بمعظمها من أفراد قبيلة البقارة والمتمركزة في دير الزور، استهدفت إيران أيضًا عشائر في شمال شرق سوريا – وخصوصًا في محافظتَي الحسكة والرقة اللتين كانتا بيد تنظيم "الدولة الإسلامية" وأصبحتا حاليًا تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية". ولا تنفّذ الميليشيات العشائرية في هاتين المحافظتين عملياتها إلا في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري بدون أن تصطدم بمناطق "قوات سوريا الديمقراطية". غير أن هذه المليشيات مدربة ومستعدة لأي انسحاب أميركي من مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" لتنتزع هذه الأراضي من "قوات سوريا الديمقراطية".
والجدير بالذكر أن التنظيمات العشائرية تعتبر جانبًا مهمًا من الحياة السياسية في سوريا. ففي الماضي، كان نظام حافظ الأسد قد أنشأ شبكات محسوبية مع العشائر واستخدمها أداةً لحفظ الاستقرار في الأرياف. وقد لعب تفكك شبكات المحسوبية هذه بين الدولة والعشائر دورًا فعالاً في إشعال الانتفاضة بين العشائر ضد النظام في المناطق الريفية. وخلال الصراع السوري، كانت روابط القربى العشائرية (ولا تزال) تُستخدم من قبل مختلف الجهات الفاعلة، من بينها إيران، لتجنيد رجال العشائر وتوجيه أعمالهم السلمية والمسلحة بما يعزز مصالحها الخاصة في معركتها على سوريا. ومن خلال توطيد الألفة مع عشائر المنطقة الشرقية في سوريا، تحاول إيران دعم نظام الأسد واكتساب النفوذ ضد القوات الأمريكية و"قوات سوريا الديمقراطية" شرق الفرات. إذ تأمل إيران بهذه الطريقة أن ترسّخ وجودها في شرق سوريا، لأن إيران تعتبر تلك المنطقة صلة وصل استراتيجية بين مناطق نفوذها في لبنان والعراق.
في إطار هذه الاستراتيجية، قدمت إيران الدعم العسكري والاجتماعي والمالي لعشائر شرق سوريا، في محاولة شاملة لتعزيز نفوذها في هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية. فمحافظة الرقة هي محافظة استراتيجية بالنسبة لإيران كونها تربط الجزيرة السورية بحلب حيث تملك إيران وجودًا ممثلاً بفرع حلب من "لواء الباقر". وعلاوة على دير الزور، تتركز حقول النفط السورية أيضًا في محافظة الحسكة. لذلك فالاستحواذ على الحسكة يتيح لإيران التخفيف من تأثير العقوبات على النظام السوري، الذي يدفع حاليًا لـ"قوات سوريا الديمقراطية" ثمن شحنات النفط.
في المجال العسكري، تواصل إيران تمويل الميليشيات العشائرية وتدريبها في شرق سوريا، علمًا بأنها دعمتها طوال فترة الصراع السوري. وتنشط حاليًا عدة ميليشيات عشائرية أخرى شرق سوريا، وكان لها تأثيرٌ ملحوظ على ديناميكيات السلطة في المنطقة. ففي محافظة الحسكة مثلاً، قام الشيخ محمد الفارس من قبيلة طيء، وهو عضو في مجلس النواب السوري، بإنشاء ميليشيا عشائرية تدعى "المغاوير" وتعمل تحت راية قوات الدفاع الوطني التابعة للنظام السوري. وقد أقرّ علنًا بدور القوات الإيرانية و"حزب الله" في إنشاء الميليشيا وتدريبها، متوجهًا بالشكر على ذلك. وبعد أن لعبت هذه الميليشيا دورًا فاعلاً في حماية مدينة القامشلي من "داعش" عام 2015، بات هدفها الآن أن تكون ثقلاً موازنًا بوجه "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وهو حزب ميليشياوي كردي يمارس سلطة ونفوذًا أكبر من سلطة النظام ونفوذه في مدينتَي القامشلي والحسكة.
وتنشط حاليًا ميليشيا عشائرية أخرى هي "قوات مقاتلي العشائر"، وهي مليشيا موالية لإيران بقيادة شيخ العشائر المزعوم تركي البوحمد في محافظة الرقة. تتكون هذه الميليشيا من 800 رجل معظمهم من عشيرة تركي البوحمد المسماة "البو حمد"، وقد لعبت دورًا فاعلاً في العديد من الهجمات ضد "داعش" في الصحراء السورية. وفي حين أن هذه القوات لم تشتبك بشكل مباشر مع "قوات سوريا الديمقراطية"، إلا أنها تطلق التهديدات ضد "قوات سوريا الديمقراطية" بين الحين والآخر وتتهمها بالتعاون مع الأمريكيين.
إلى جانب الجهود العسكرية المتعلقة بالميليشيات العشائرية في سوريا، لجأت إيران أيضًا إلى الأدوات الاجتماعية في تواصلها مع العشائر، حيث عملت على المستوى الشعبي لكسب النفوذ بين أفراد العشائر. والواقع أن المساعي الإيرانية في هذه المنطقة تعود إلى ما قبل الانتفاضة السورية عام 2011، حين عملت إيران على ترميم عدة أضرحة شيعية قديمة في سوريا من أجل استخدامها لنشر التشيع بين العشائر. واشتمل هذا المشروع على بناء مقام شيعي على ضريحَي عمار بن ياسر وأويس القرني في الرقة، واستغل الإيرانيون وجود المقام لتبشير عشائر المنطقة. وفي محاولة لاكتساب قوة ناعمة مهيمنة في المنطقة، كثّفت إيران مؤخرًا هذه الجهود لتشييع العشائر، وتركزت بشكل خاص في محافظة دير الزور لكنها امتدت إلى الأماكن الأخرى من شرق سوريا. واستخدمت إيران هذه المقامات كمراكز تبشيرية لإقناع السكان المحليين باعتناق المذهب الشيعي.
علاوةً على التبشير الديني، أنشأت إيران أيضًا روابط مع الشخصيات الاجتماعية في العشائر من خلال الدبلوماسية. فقد دعا المسؤولون الإيرانيون زعماء العشائر السورية إلى زيارة طهران أجرت معهم محادثات في عدة مناسبات. وغطت وسائل الإعلام الحكومية في إيران وسوريا زيارات زعماء العشائر السورية وصوّرتهم على أنهم شخصيات وطنية مهمة. كما بدأت إيران بدعوة بعض المشايخ، الذين انشقوا عن النظام في أولى أشهر الانتفاضة، إلى العودة إلى مناطق سيطرة النظام، وأعطتهم الضمانات بأن النظام سيعفو عنهم. على سبيل المثال، أمضى الشيخ نواف البشير من قبيلة البقارة سنوات عدة في تركيا قبل أن يعود إلى سوريا، حيث يعمل منذ عودته على تجنيد المقاتلين من عشيرته للانضمام إلى "لواء الباقر" والقتال إلى جانب الميليشيات الإيرانية في دير الزور.
فضلاً عن ذلك، سعت إيران إلى تعزيز هذه الجوانب الاجتماعية والعسكرية من سياستها عبر استخدام الحوافز المالية للحفاظ على وجود طويل الأمد لها في شرق سوريا. واستغلت إيران الحرمان والفقر الناجمين عن الحرب في المجتمعات العشائرية في سوريا، لتدعم اليوم أكثر من 12 جمعية خيرية في شرق سوريا لتحقيق مخططاتها، ومن بينها "الزهراء الخيرية" و"جهاد البناء" ومؤسسة الأمين" وغيرها. ويشار إلى أن مؤسسة "جهاد البناء" ممولة بالكامل تقريبًا من إيران ومقرها في مدينة البوكمال حيث تعمل على إعادة تأهيل المدارس والمستشفيات في المحافظة. كما توزع المساعدات الإنسانية والطبية على أهالي دير الزور تحت شعار "تقدمة من جمهورية إيران الإسلامية"، مع العلم بأن المساعدات كانت موجهة بشكل خاص إلى الذين ينضمون إلى الميليشيات الموالية لإيران في شرق سوريا. في المقابل، لم توسع إيران بعد أنشطتها الخيرية إلى الرقة والحسكة بسبب وجود "قوات سوريا الديمقراطية" هناك.
في حين وصف البعض انخراط إيران في سوريا بالورطة، استخدمت إيران كافة الأدوات المتوفرة بحوزتها لترسيخ نفوذها في سوريا. فإعطاء البنى العشائرية في شرق سوريا طابعًا مؤسسيًا يشير إلى أن آثار السياسات الإيرانية هناك ستكون طويلة الأمد، لا بل ستتوسع أكثر إذا أتيحت لها الفرصة. كما أن سياسة إيران بتأسيس الميليشيات العشائرية وتدريبها تعتبر وسيلة لتقليص الوجود الأمريكي هناك، حيث أعلنت هذه الميليشيات عن نيتها بالتصدي لأي وجود أمريكي في شرق سوريا.
لا بد لصانعي السياسات الأمريكيين من أخذ هذه التهديدات على محمل الجد، فقد زودت إيران الميليشيات بالتدريب والأدوات المادية اللازمة للاستحواذ على المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" في حال انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة. وفيما تواصل إيران تطوير قاعدتها الاجتماعية وعلاقاتها بالعشائر عبر محاولة تشييع أبناء تلك العشائر والتودد إلى أصحاب النفوذ فيها ومنحها الإغراءات المالية، من المحتمل أن تتنامى قاعدة إيران الشعبية.
وما يساعد إيران هو تكرر التوتر بين "قوات سوريا الديمقراطية'' وبعض أفراد العشائر العربية في المناطق الخاضعة لها بسبب الخلافات على التمثيل في المحافظة المحلية وتوزيع المنافع المكتسبة من بيع النفط والغاز. وقد منحت هذه السياسات الشاملة إيران موطئ قدم في المنطقة ربما يكون قد أصبح مستدامًا إلى حدٍّ كبير. وأي جهود للتخلص شرعيًا من النفوذ الإيراني في شرق سوريا تستوجب عمليات تكافح النفوذ الإيراني على الأصعدة الاجتماعية والعسكرية والمالية بين العشائر المحلية هناك، الأمر الذي قد يكون صعبًا للغاية.