حين هاجم تنظيم “داعش" على شمال العراق واستولى على الموصل في صيف العام 2014، خاض حملة إبادة موازية ضد الأقليات في سهل نينوى. وبالنسبة للعديد من أفراد المجموعات هذه، بمن فيهم المسيحيين واليزيديين، كانت تلك أسوأ موجة من لائحة عمليات إبادة طويلة يعود تاريخها إلى أكثر من ألف عام. غير أنه نتيجة لهذه العمليات، تجددّت وتنامت الدعوات المطالبة بمزيد من الحكم الذاتي. وقد عبّر المزيد من القادة المسيحيين، اليزيديين، التركمان والعراقيين الآخرين عن دعمهم لإقامة إقليم يضمّ حصرًا أقليات شمالي العراق مؤلف من ثلاث محافظات. وقد يكون هذا المسار مناسبًا لحماية هذه المجتمعات المهدّدة وقد يساعد على تسهيل تخصيص التعويضات مقابل خسارة الأراضي والثروات والممتلكات.
عندما تحدث عن المسحيين في العراق خلال صعود تنظيم “داعش"، قال مطران الموصل للسريان الأرثوذكس نيقوديموس داود شرف إن "المسيحي لا يمكنه العيش حيث لا سيادة للقانون. يمكننا العيش فقط في مكان يحكمه القانون". حتى في ظل العدد المستقر نسبيًا من المسيحيين الذين يعيشون في مراكز آمنة في كركوك وإربيل في إقليم كردستان، تراجع عدد المسيحيين من الذي كان مقدرًا عند 1.5 مليون في 2003 إلى نحو 200 ألف في الوقت الراهن. وبالتالي، فإن إعطاء هذه الجماعات فرصة بناء استقرارها الخاص قد يكون الحل للحفاظ على وجودها في العراق.
إن الحل للمسيحيين، اليزيديين وغيرهما من الأقليات في وجه الاضطهاد لا يمكن أن يتمثّل بهجرتهم إلى الغرب ولا حتى بالبقاء في بلدهم الحالي ومعاناة الأمرين. وبغية المساهمة في الحفاظ على وجود دائم ومستمر للمسيحيين واليزيديين المستهدفين بشكل خاص، قد تحول إقامة محافظة في سهل نينوى للمسيحيين ومحافظة يزيدية في سنجار (قضاء الشيخان في سهل نينوى) دون مغادرتهم العراق بأعداد هائلة. وسيكون تغيير وجه أقضية تلكيف، الحمدانية، عين سفني والشيخان في محافظة سهل نينوى، وتخصيص قضاء تلعفر ليكون محافظة للتركمان، وقضاء سنجار محافظة يزيدية، من أفضل الوسائل لتمكين المجتمعات المحلية. ويتماشى ذلك مع مساعٍ أخرى ترمي إلى إلغاء مركزية السلطة في العراق لبناء السلام بعد تحرير الموصل، حتى أن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أعلن في نيسان/أبريل 2015 أنه "إن لم نسعَ إلى اللامركزية، ستتفكك البلاد. بالنسبة لي، ما من حدود لللامركزية".
وتتألف الأقليات العراقية، شأنها شأن المجتمع العراقي، من أشخاص ذوي آراء ووجهات نظر متنوعة وأساليب مختلفة للتعبير عن هوياتهم من خلال عوامل وطنية، محلية، عرقية ولغوية. وفي محافظة تكون ملاذًا آمنًا للأقليات، ستحظى هذه الاختلافات بالتقدير.
هل ستكون المحافظات جزءًا من كردستان؟
قدّم الكثيرون نماذج فدرالية ولامركزية عن الحوكمة باعتبارها حلولًا ممكنة لإعادة الإعمار ما بعد النزاع، كما حصل في ليبيا، اليمن، سوريا والعراق. يُذكر أنه خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، شجعت الولايات المتحدة القبائل في محافظة الأنبار على اللجوء إلى الحكم الذاتي والدفاع الذاتي من أجل تشكيل مجالس الصحوة لمحاربة تنظيم "القاعدة"، علمًا بأن الحكم الذاتي يكون بمثابة حماية من بسط طائفة واحدة سلطتها.
أعلنت قوات "البيشمركة مؤخرًا أنها لن تنسحب من سهل نينوى بعد تحرير الموصل، لذا من المرجّح أن يخضع مستقبل أي محافظة تتمتع بحكم شبه ذاتي في سهل نينوى لسيطرة "حكومة إقليم كردستان". وفي حين تشكّل كردستان مثالًا حيًا على أن اللامركزية تولّد الازدهار والاستقرار النسبي، من الممكن أن يدعم الأكراد المؤيدون عمومًا للامركزية إقامة محافظة مسيحية-يزيدية طالما تكون تحت سيطرة حكومة الإقليم. وبالطبع، ستستفيد حكومة الإقليم على الأرجح من ضمّ سهل نينوى وحصد الإيرادات النفطية.
لقد كانت هناك العديد من الشكاوى السابقة من قبل المسحيين بشأن استيلاء "حكومة إقليم كردستان" على أراضيهم والمضايقات التي يتعرضون لها، واستياء اليزيديين من وضعهم تحت خانة الأكراد لأسباب سياسية. غير أن هاتين الطائفتين تخشيان جنود "البيشمركة" منذ أن غادروا مواقعهم في البلدات المسيحية واليزيدية خلال هجوم "داعش"، إلا أن المعاملة الحسنة والإيجابية لليزاديين والمسحيين من قبل حكومة إقليم كردستان ساهمت في تقبلهم للحكومة. ومع ذلك، فإن مشاكل المسيحيين واليزيديين مع "حكومة إقليم كردستان" تبدو تافهة لدى مقارنتها مع تلك التي يواجهونها مع قوى أخرى في المنطقة، حيث أن العديد منهم ممتنون للاستقرار الذي قدمته لهم حكومة الإقليم.
دولة الوطنية والتنوّع والوحدة
في ظل انتشار الوطنية والنفوذ الأجنبي في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، أصبح المسيحيون أهدافًا سهلة إذ اعتُبروا دخلاء. فقد ارتكبت القوات التركية والكردية بحقهم مجازر أودت بحياة مئات الآلاف من المسيحيين، ما دفعهم إلى مغادرة أراضيهم والتشتت واللجوء إلى أماكن آمنة، على غرار سهل نينوى.
وردًا على هذه المجازر، اتخذت كنيسة المشرق شكل دولة أشورية حديثة تطالب بالسيادة والاستقلال. أما المسيحيون من الكلدان الكاثوليك، السريان الكاثوليك، والسريان الأرثوذكس، فلم يعتمدوا التمييز العرقي الكبير نفسه الذي لجأت إليه كنيسة المشرق بعد هذه المجازر، لكن كلاً منهم يتمسك بدرجة معينة من الاعتزاز الطائفي. وعلى سبيل المثال، برزت في أوساط السريان الكاثوليك والأرثوذكس حركة آرامية/سريانية مركزها أوروبا وإسرائيل لها علمها الخاص وتركّز على تعليم اللغة السريانية.
الجدير ذكره أن العديد من المسيحيين لا يتبعون أي من هذه الحركات ويعتبرون أنفسهم مسيحيين عراقيين في الدرجة الأولى. ورغم كل هذه الفوارق المميزة، كانت وحدة المسيحيين ملحوظة منذ هجوم "داعش". وللمرة الأولى منذ أجيال، اجتمع العديد من البطاركة وممثلو كنائس مختلفة للصلاة ومناقشة وضع مجتمعهم الراهن، كما حصل عندما سهلت "جمعية الدفاع عن المسيحيين" غير الربحية اللقاء بين البطاركة والرئيس أوباما، أو عندما عقدت مجموعة متنوعة من المسيحيين في تشرين الثاني/نوفمبر اجتماعًا في مقر البطريركية الكلدانية في إربيل لمناقشة الوحدة والمهمة الشاقة المتمثلة بالعودة إلى منازلهم المدمرة بعد تحرير الموصل.
قوات أمن الأقليات
هناك ميليشيات مدربة ومجهزة بشكل مناسب بإمكانها أن تكون نواة شرطة وقوات أمن في محافظة سهل نينوى. فالسهل يضمّ أربع وحدات رئيسية لقوات الأمن المسيحية، لدى كل منها ميول سياسة مختلفة وتحالفات مع أحزاب: "وحدات حماية سهل نينوى"، "قوات سهل نينوى"، "دويخ نوشا"، "ألوية بابل" (التي تقاتل تحت قيادة "الحشد الشعبي"). ويقاتل اليزيديون عمومًا مع "تحالف سنجار" الذي يتألف بشكل عام من "وحدات مقاومة سنجار" التي تأسست عام 2007.
وكان بطريرك الكلدان لويس روفائيل ساكو أعرب عن شكوكه حيال الميليشيات المسيحية، وحضّ المسيحيين الذين يريدون أن يقاتلوا أن يفعلوا ذلك تحت لواء قوات مؤسسية نظامية على غرار الجيش العراقي أو "البيشمركة". وبالمثل، يعتقد الكثير من المسيحيين العراقيين أنه من الأفضل لهم أن يبقوا منارة للعلم والمجتمع المدني ويواصلوا العمل على تحقيق رفاه المجتمع العراقي ككل - كما فعلوا تاريخيًا. على سبيل المثال، خلال عهد الإمبراطورية العباسية، قام المسيحيون بترجمة نصوص يونانية لقادتهم المسلمين، وعملوا كأطباء خاصين لأبناء الخلفاء العباسيين، وشغلوا مناصب حكومية رغم تعرضهم للمضايقات والإذلال.
ومن شأن غياب الأرقام الدقيقة أو الاستطلاعات الخاصة بالمسيحيين أو العراقيين عمومًا لهذه الغاية أن يعقّد محاولة إحصاء أعداد مؤيدي بناء محافظة ومعارضيها. غير أنه من الواضح أن الكثير من المسيحيين العراقيين، بغض النظر عن خلفيتهم، يدركون الحاجة إلى التحرك من أجل الحفاظ على شعبهم وإرثهم وأن إقامة محافظة سهل نينوى قد يشكّل الطريقة الأفضل للقيام بذلك.
إعادة الإعمار
حاليًا، وضع القانوني العراقي أسس توحيد المحافظات لتشكيل إقليم (أي كردستان) لكنه لم يأتِ على ذكر سبيل قانوني لتحويل الأقضية إلى محافظات. وبهدف إنشاء المحافظات، لا بد من تقسيم محافظة نينوى إلى أقضية أصغر قبل التمكن من إنشاء إقليم. ومهما كان مستقبل سهل نينوى، يجب أن يقرره الشعب الذي عاش فيه منذ آلاف السنين.
ويتمثّل أحد مصادر الخوف في أن يزيد إنشاء محافظة استهداف الأقليات وأن تهاجم الشعوب جيرانها في المستقبل كما حصل سابقًا. فالحقيقة أن الهدف قائم أساسًا، وأن الوضع لا يمكن أن يسوء أكثر مما هو عليه. وقد تساهم إقامة محافظة على نحو أفضل بتسريع عملية المساعدات بما يمكّن الجمعيات الكنسية أو منظمات المجتمع اليزيدي من مساعدة الناس مباشرة. وفي وقت دُمرت فيه أكثر من 70 في المائة من قرى سهل نينوى، يُعتبر هذا النوع من المساعدة المباشرة مهمًا. فالجاليات قد تعود لتأسيس أعمال أو الاستثمار في المحافظة إن كان الأمن مستتبًا، مع الإشارة إلى أن هذا النوع من الحركة الاقتصادية ضروري لعودة الناس إلى قراهم.
ولا بدّ من دعوة المنظمات في الولايات المتحدة، من أمثال "معهد الولايات المتحدة للسلام"، إلى تولي زمام الأمور خلال عملية المصالحة. وإلى أن يصبح العراق مستقرًا سياسيًا واقتصاديًا، قد تكون اللامركزية السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد الذي لا يزال جديدًا على هذه الخطوة ومجتمعاته المتعثرة. وعندما يسود الاستقرار من جديد، سيعود بدوره المزيج المتنوع من الأقليات والأفكار التي يضمها العراق حتمًا. لكن إلى حين تحقّق ذلك، يتمثّل الطريق الوحيد لاستمرار المسيحيين واليزيديين في تقرير المصير والحكم الذاتي.