- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
صناعة التطرف في العراق: داعش والحركة الصرخية والاستياء الشعبي
يرفض البعض فكرة "دعشنة" جنوب العراق، ورغم ذلك، يمكن أن يحدث التطرف في أي مكان تكون فيه التوترات الاجتماعية شديدة بدرجة كافية، وهو ما ينطبق بالتأكيد على جنوب العراق الذي يواجه هذه المعضلة.
على مدار سنتين أجريت دراسة في العراق عن التطرف وسبب انضمام الشباب العراقي لداعش. وقد شاركني في هذه الدراسة أربعة علماء أمريكيين من المختصين بعلم نفس الإرهاب والعلوم السياسية والشبكات الاجتماعية، واستندت هده الدراسة (التي ستنشر لاحقا هذا العام) على مقابلات أجريتها مع خمسين داعشي، وآلاف المقابلات مع سكان المناطق التي عانت من إرهاب داعش.
وخلال تلك المقابلات وجدنا، أن عملية التجنيد للدواعش تمر عبر مرحلتين: التوتر المجتمعي ثم التطرف أو "الدعشنة". في المرحلة الأولى يمر المجتمع بظروف سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية ومتطرفة ومستمرة، تؤدي إلى تفككه ومعاناته من توترات أمنية واقتصادية واجتماعية وسياسية تنعكس بصورة أمراض اجتماعية وفقر وتوترات أمنية وتظاهرات وتمييز اجتماعي وعنف وتحلل قيمي.
عند هذه المرحلة يبدأ الكثيرون في فقدان إيمانهم بالجماعة التي ينتمون لها أساساً لأنها لم توفر لهم الأمن النفسي والجسدي والاستقرار الاجتماعي. ثم تأتي المرحلة الثانية التي ينقسم فيها المجتمع أو الجماعة إلى أغلبية "تابعة" مستعدة للتسليم لأي سلطة قادرة على توفير الأمن لها وأقلية "باحثة" عن تحقيق الاستقرار والبديل للبنى الاجتماعية القديمة من خلال الانضمام لمنظمات متطرفة.
قلت قبل سنوات انتظروا الدعشنة في جنوب العراق! استغرب الكثيرون من طرحي، بل واستنكروه وانتقدوه، باعتبار أن الفكر الشيعي الاثني عشري لا يعاني (تقليدياً) من النزعات المتطرفة. ومع ذلك، فمن الوارد أن أن تحدث هذه العملية في أي منطقة تعاني من توترات اجتماعية شديدة بدرجة كافية - ومن المؤكد أن جنوب العراق يمتلك هذه الخصائص. فتنظيم داعش ليس ظاهرة فكرية دينية في جوهرها وإنما ظاهرة سياسية-اجتماعية اتخذت من الدين مطيةً لها. وبما أني أرصد وعبر الأبحاث الاجتماعية التي يجريها فريق المجموعة المستقلة للأبحاث باستمرار في جنوب العراق مظاهر سياسية-اجتماعية-اقتصادية ستؤدي إلى المرحلة الأولى(أعلاه) من التطرف فأن من السهل توقع حصول المرحلة الثانية والنهائية للتطرف ورؤية شباب الجنوب وهم ينخرطون في منظمات أو فكر أو أنشطة متطرفة.
وبالتأكيد فأن الصرخيين (أتباع رجل الدين الشيعي محمود الصرخي) لن يكونوا أول ولا آخر أعراض الداء، فخلالخطبة الجمعة الماضية دعا على المسعودي، أحد اتباع الصرخيين، إلى تدمير المزارات الدينية الشيعية مما أثار ذلك احتجاجات غاضبة واعتقال. إن أبرز ما استرعى انتباهي وأنا أشاهد فيديوهات خطبة الجمعة السابقة والتي من الواضح أنها كانت موحدة ومنسقة ومؤقتة (أي مدروسة التوقيت)، ليست الرسالة المتطرفة التي تضمنتها الخطبة فقط، بل الرُسُل الذين حملوا هذه الرسالة وهم جميعا شباب صغار السن! هذه الظاهرة (صغر سن المتطرفين) لاحظتها عند مقابلتي للدواعش في سجنهم فغالبيتهم انضموا لداعش في أعمار المراهقة أو بداية الشباب.
أن أبرز ما يميز الشباب الصغار نفسياً هو حاجتهم النفسية العالية للتميز. هذه الحاجة الطبيعية التي تدفع كل البشر لمحاولة أثبات أنفسهم أو إشباع شعورهم بالأهمية سواء من خلال وسائل بناءة (العمل أو النجاح الدراسي. الخ) أو هدامه (الأجرام، التطرف. الخ) تزداد بشدة بين الشباب.
لذا فأن رفع مستوى التحدي أمام شباب هذه الحركات من خلال المعالجات الأمنية فقط لن يقضي على التطرف، بل سيزيده حتما. كما أن من الخطأ الاعتماد على المعالجة الفكرية الدينية فحسب لعلاج التطرف. ومهما حاول رجال الدين المعتدلون أثبات أن الدين و\أو المذهب هما وسطيان ومعتدلان في طبيعتهما الفكرية، وهذه الحقيقة تصح في كل الأديان، فلن يكون صعباً على منظري تلك الحركات الدينية المتطرفة (يضمنها الصرخية) استخراج النصوص والأحداث الدينية التي تدعم وجهة نظرهم المتطرفة والتي تمتلئ بها كتب الدين التي كتبت قبل 10-14 قرن مضت ولم يتم إيلاء العناية الكافية لتنقيحها. باختصار فان العلاجات المجتمعية، لا الدينية، هي التي يجب أن تكون مدار بحثنا لمعالجة التطرف الفكري الديني.
و من الواضح أن داعش ذاته يفهم هذه الظاهرة، ففي مقابلة أجريتها مع أحد من كانوا يعدون ضمن مفكري داعش، بادرني بالسؤال ألم تسأل نفسك كيف استطاعت داعش تجنيد عشرات الأف المقاتلين خلال فترة زمنية وجيزة وتمد نفوذها بهذا الشكل في العراق وسوريا وسواهما، وتقيم (دولة الخلافة)، في حين أن القاعدة التي هي الأب الفكري لداعش وأسبق منها بعقود من الزمن لم تستطع أن تحقق مثل هذا (الإنجاز الداعشي)؟! قلت: كيف؟ قال، لأننا ببساطة لم نركز على البعد العقائدي والفكري في تجنيد الاتباع وإنما على البعد النفسي الاجتماعي السياسي. فكل من له مظلمة أو عداء مع النظام يتم تجنيده أولاً ثم يُغسل دماغه فكرياً بعد ذلك.
أن الحركة الصرخية (مثلما داعش) ماهي إلا وسيلة نقل يمكن أن يركب فيها كل من يريد الوصول لغاية محاربة النظام أو الانتقام من الوضع الراهن أو للتعبير عن سخطه ومعارضته للوضع الي يعانيه. لذا فأن إصلاح الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي المفتاح لحل المشكلة مع الإقرار أن بعض المعالجات الأمنية قد تكون مطلوبة.
إضافة إلى ذلك، تشير جميع الدلائل إلى أن العراقيين في الجنوب معرضون بشكل متزايد للنظر إلى التطرف كخيار قابل للتطبيق لمواجهة التحديات المجتمعية التي يعانون منها. كل الاستطلاعات التي أجراها فريق المجموعة المستقلة للأبحاث أشارت إلى وجود تحول كبير في اتجاهات ورضا العراقيين في الجنوب عن الوضع السياسي مقارنة بباقي مناطق العراق خلال السنوات الخمس الماضية. لذا لم تكن انتفاضة تشرين حدثاً عابراً بل تراكم لحالة غضب وعدم رضا مستمرين من سنين. لقد أوضحت أرقام مقياس الرأي العام العراقي Iraq Opinion Thermometer التي نشرت الموجة الثانية منها قبل شهر أن الشيعة أقل رضا عن حياتهم (وفي كل مكونات المقياس الثلاث) من أشقائهم في وسط وشمال العراق، فهم أقل شعوراً بالسعادة وأكثر شعورا بعدم الثقة بالآخرين فضلا عن شعورهم انهم أقل دخلاً.
أظهر الشيعة أيضا مستويات اقل من الثقة بكل مؤسسات الدولة. ففي الوقت الذي أعرب 41% من السنة عن ثقتهم بالحكومة المركزية فان 33% من الشيعة كانوا يثقون في الحكومة. وفي الوقت الذي قال فيه 35% من السنة أن البلاد تتجه بالاتجاه الصحيح لم تتجاوز النسبة بين الشيعة 18%. وفي حين أن 47% من السنة أعطوا تقييم إيجابي لعمل الحكومة في المجال الأمني فان النسبة تنخفض بين الشيعة إلى 31% فقط! كما أن 18% فقط من الشيعة مقابل 31% من السنة يشعرون أن الحكومة تعاملهم بعدالة ومساواة.
أما في مجال المشاركة السياسية، فمن الواضح أن أبناء جنوب العراق وبغداد أقل ميلاً للمشاركة السياسية السلمية لتغيير الأوضاع كما ظهر واضحاً من نسب المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. والأخطر من ذلك أنه في الوقت الذي عبر فيه 57% من السنة عن رأيهم بأن المجاميع المسلحة أقوى من الدولة، فأن النسبة تقفز بين الشيعة إلى حوالي 75%! وفي حين أن ربع السنة تقريبا يؤيدون استخدام العنف ضد المجاميع المسلحة أو حتى الحكومة للحفاظ على كرامتهم فأن النسبة تقفز إلى حوالي الثلث بين الشيعة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الإحباط الأعلى الذي يشعر به الشيعة كونهم هم من يقودوا الحكم منذ 2003 وان محافظاتهم هي المنتج الأول لثروة العراق النفطية فيمكن حينذاك توقع، وبسهولة، أن هذا الإحباط يعبر عن نفسه بصيغ مختلفة كالاحتجاجات والمظاهرات التي جرت في تشرين 2019 أو بصياغات حركات فكرية متطرفة (كالصرخيين أو سواهم) أو انفلات أمني واجتماعي يصاحب انحسار دور الدولة والعودة لسيطرة العشائر والميليشيات والعصابات المسلحة. وهنا لا بد من التنبيه أن الأرقام التي تعبر عن عدم الرضا عن الوضع السياسي والمنذرة بظهور أعراض الفكر والجماعات المتطرفة قد بدأت بالظهور أيضا وبشكل واضح في كوردستان العراق.
أن الاستنتاج الرئيسي الذي يمكن الخروج به من المقابلات النوعية وبيانات الاستطلاع هو أن العراق سيبقى مصنعا لتوليد التطرف في كل مناطقه (الجنوب والوسط والشمال) وأنه لن تنجو منه أي مجموعة عرقية أو دينية ما دامت حالة التردي والتخبط السياسي هي السائدة. وبعكس ما يعتقد البعض من أن استخدام العنف أو الطغيان أو التسلط هي الطرق الأمثل لمعالجة ذلك التطرف، فأن العلاج لا يمكن أن يتم إلا عبر عملية إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي شاملة.