- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تداعيات أزمة لجنة "أبو رغيف" على المشهد الأمني في العراق
ما زالت تداعيات “لجنة أبو رغيف” مستمرة في العراق، حيث تحاول حكومة السوداني توجيه اللوم وتسعي إلى تحقيق العدالة.
كشف تحقيق لصحيفة "واشنطن بوست" في كانون الأول/ديسمبر 2022 أن لجنة الأمر الديواني (29) المعروفة باسم " لجنة أبو رغيف"، استخدمت السجن الانفرادي والتعذيب والعنف الجنسي لانتزاع اعترافات من كبار المسؤولين العراقيين ورجال الأعمال. وقد أظهرت الصحيفة من خلال 20 مقابلة مع الأشخاص الموقوفين من قبل " لجنة أبو رغيف “، ان عملية التحقيق مع هؤلاء الأشخاص اتسمت بالإساءة والإذلال للحصول على توقيعاتهم على اعترافات مكتوبة مسبقا بدلا من المساءلة عن أعمال الفساد. وفي السياق نفسه، كشف أحد المحتجزين السابقين عن الانتهاكات التي تعرض لها المحتجزين من قبل اللجنة بما في ذلك تجريدهم من ملابسهم وخنقهم بأكياس بلاستيكية وصعقهم بالكهرباء وأكثر من ذلك.
ويذكر أن " لجنة أبو رغيف" قد تم تشكيلها في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق " مصطفى الكاظمي" بهدف مكافحة الفساد والجريمة المنظمة في العراق. وفي أوائل شهر أذار /مارس 2022 قررت المحكمة الاتحادية العليا حل لجنة "أبو رغيف" باعتبارها غير دستورية، وذلك استنادا إلى تقارير تتهم أعضاء اللجنة بالضلوع في انتهاك كرامة الانسان ومخالفة مبدأ الفصل بين السلطات. في حزيران /يونيو 2023 - بعد ستة أشهر تقريبًا من قيام الحكومة العراقية بتشكيل لجنة تحقيق خاصة بها في أعقاب نشر تقرير الواشنطن بوست، صادق رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني " أخيرا على توصيات اللجنة التحقيقية والنظر في الشكاوى المقدمة ضد كبار أعضاء وقادة "لجنة أبو رغيف"، من قبل المواطنين الذين تعرضوا لانتهاكات حقوق الإنسان.
ومع ذلك، فإن تداعيات إجراءات لجنة أبو رغيف والاثار المترتبة على إغلاقها لم تتجلى بشكل كامل بعد. كان من أبرز عمليات لجنة "أبو رغيف" اعتقال مدير صندوق التقاعد العراقي السابق، والرئيس السابق لهيئة استثمار بغداد، بالإضافة إلى المدير السابق لشركة الدفع الإلكتروني " Qi Card " وذلك في أيلول/سبتمبر 2020، واحيلوا إلى القضاء العراقي الذي تعمل بموجبه لجنة "أبو رغيف"، والذي حكم عليهم بالسجن لفترات متفاوتة. الآن، ما زالت هناك أسئلة مهمة تطرح نفسها وتتعلق بمصير الاشخاص الذين حوكموا وتم ادانتهم من قبل اللجنة.
وعلى الرغم من أن ارتباط اللجنة بالقضاء العراقي، وهو ما منحها بعض مظاهر الحيادية والشرعية، إلا أن الأدلة تشير إلى عكس ذلك، فوفقا لتقرير اللجنة التحقيقية، تضخمت أموال أعضاء اللجنة بشكل ملحوظ، كما تم القبض على العميد سالم الدايني، مدير مكتب "أحمد أبو رغيف" في مطار بغداد أثناء محاولته الهروب خارج البلاد في يناير الماضي بعد اتهامه بالضلوع في عمليات تعذيب بشعة خلال فترة عمله في اللجنة. ربما تكون الإجراءات القانونية التي اتخذتها لجنة أبو رغيف كانت تحت اشراف القضاء، ولكن الإجراءات الأمنية والمعلوماتية لم تكن تحت إشراف أحد سوى رئيس اللجنة السيد أحمد طه هاشم "أبو رغيف"، علماً انه كان يشغل منصب مدير وكالة الاستخبارات في وزارة الداخلية العراقية.
من اهم التداعيات التي سيتسبب فيها الغاء لجنة "أبو رغيف" هو مصير المتهمين الذين احيلوا للقضاء وتم الحكم عليهم، فهل ستتم إعادة محاكمتهم؟ ام سيتم الافراج عنهم رغم الأدلة والقرائن التي اعتمدتها المحاكم العراقية في إصدار احكامها القضائية؟ وكذلك مصير المتهمين الذين لا زالوا رهن التحقيق مع ثبوت ادلة الفساد المالي بحقهم، فهل ستلغى الأدلة بحقهم ويفرج عنهم؟ ام سيعاد التحقيق معهم؟ فقد يكون دليل الاعتراف لهؤلاء المتهمين قد انتزع بالقوة والتعذيب، ولكن ماذا عن الأدلة المادية الدامغة المثبتة بحقهم والموثقة من قبل قضاة التحقيق؟
وفي واقع الامر، لا تعتبر " لجنة أبو رغيف" المسبب الرئيسي لهذه الأزمة، ولا القضاء العراقي، وانما السيد "مصطفى الكاظمي" الذي كان المفروض به ان يولي مهمة رئاسة اللجنة إلى قاضي محترف، وليس لأبو رغيف. كان ينبغي على "النائب العام "العراقي أيضا أن يتابع عمل اللجنة بشكل مباشر ويومي، وان يكون التحقيق في اللجنة من قبل "محققين عدليين"، متخصصين في تحقيقات الفساد. اما عمليات تنفيذ أوامر القضاء في القاء القبض على المتهمين، او التحري او ضبط المبرزات الجرمية، فيمكن إناطتها للفريق "أبو رغيف" وفريقه الأمني عوضا عن تولى التحقيقات وإصدار الاحكام، لكن ما حدث يعكس الخبرة المحدودة للسيد "الكاظمي" في مجال العمل الأمني والقضائي، رغم عمله مديرا للمخابرات العراقية في حينها، إضافة إلى منصبه كرئيس للوزراء.
الآن يجب على حكومة السوداني أن تقرر كيفية معالجة انتهاكات أعضاء اللجنة، حيث يمتلك أبو رغيف ولجنته الأمنية قواعد بيانات وأدلة مادية دامغة على تورط جهات او شخصيات عامة في قضايا الفساد والجريمة المنظمة، وبالتالي فإن محاكمة أبو رغيف وأعضاء لجنته قد تدفعهم إلى الكشف عن هذه الأدلة امام الرأي العام، وهنا سيكون القضاء العراقي ملزماً بالتحقيق في هذه الأدلة واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، وبالتالي ستتعقد الأزمة من جديد وستبدأ تحقيقات جديدة قد تستغرق سنوات وتطال العشرات من المتهمين، وهو ما قد يعيد العراق فعليًا إلى نفس حالة الفوضى التي يواجهها حاليًا.
إن التخفيف من تداعيات هذه الأزمة والرغبة في تحقيق العدالة وحماية حقوق المعتقلين، وتصحيح المسار المضلل للجنة أبو رغيف، يتطلب عدة إجراءات يجب على السوداني اتخاذها، حيث يمكن للسيد "محمد شياع السوداني" ان يوعز بتشكيل لجنة قضائية لدراسة وتقييم القضايا التحقيقية التي احالتها لجنة أبو رغيف إلى المحاكم العراقية، لتتأكد من صحة الأدلة ومدى مطابقتها مع الاعترافات (المصدقة امام قاضي التحقيق) وبالتالي فرز القضايا التي يمكن إعادة التحقيق فيها، من القضايا (الباتة والمحسومة) تحقيقاً وقضاءً، والتي لا يمكن إعادة التحقيق بها نظرا لخلوها من الثغرات التحقيقية وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي.
يمكن للسوداني أيضا أن يأمر وزير الداخلية بالتحقيق في الاتهامات المنسوبة لأعضاء لجنة أبو رغيف بما في ذلك تضخم أموالهم، وإساءة استغلالهم للسلطة خلال فترة عملهم في اللجنة. وبناء على نتائج كل هذه الإجراءات ستتضح الصورة بشكل أوضح امام الجميع، ويمكن للحكومة العراقية ان تتخذ الإجراء المناسب تحقيقاً للعدالة.
قبل كل شيء، يجب على حكومة السوداني أن تتعلم من الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها حكومة الكاظمي ولجنة أبو رغيف، وأن تتعامل الحكومة العراقية مع إجراءات مكافحة الفساد بأقصى درجات الحذر، وأن توكل تلك المهمة إلى المؤسسات الدستورية الموجودة بالفعل والمتخصصة في معالجة هذه القضايا وتعزيز قدرات تلك المؤسسات للقيام بذلك. يتحتم على حكومة السوداني أيضا أن تحذر من تكليف مستشارين في مهام لا ترتبط بتخصصاتهم العملية والمعرفية، لأن أخطاء كل هؤلاء سيتحمل مسئوليتها رئيس الوزراء وحده في المستقبل.