- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تداعيات تحول موقف تركيا من الأزمة السورية
على الرغم من أن إقامة علاقات بين تركيا والنظام السوري قد تبدو خطوة ذكية من قبل أردوغان، إلا أن القرار يمثل خيانة للشعب السوري ونجاحه غير مضمون بالنسبة للحكومة التركية.
بينما الاستعدادات لشن عملية عسكريّة تركية في الشمال السوري تسير على قدم وساق، خرجت تصريحات لوزير الخارجية التركي عن إمكانية دعم نظام الأسد لتأخذ المشهد في الاتجاه المعاكس تماماً. ثم ما لبث الرئيس إردوغان أن كرر تصريحات مشابهة بعد قمة سوتشي وسط تسريبات عن إمكانية حدوث اتصال رفيع المستوى مع النظام السوري ليترجمها تشاووش أوغلو بلقائه مع وزير خارجية النظام. أثار هذا التحول اندلاع احتجاجات عفوية واسعة النطاق بين الأوساط الثورية السورية، مما دفع تشاووش أوغلو للقاء رؤساء مؤسسات المعارضة السورية لإعادة التأكيد على "دعم تركيا لحقوق السوريين" وفقا لتغريدة بدر جاموس في 25 آب / أغسطس.
لم تتأخر الأوساط الثورية السورية، بما فيها تسع نقابات للمحامين والمعلمين والمهندسين ومهن أخرى، في إطلاق تلك التظاهرات للتعبير عن رفضها لهذا الموقف. كما وجدت هذه الأوساط أن هذا التراجع صادم بشكل خاص نظرًا للتطورات التي حدثت في الأشهر العديدة الماضية. ففي 27 حزيران الماضي، نقلت وكالة "الأناضول" تصريحات لوزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، لقناة "تي في 100" التلفزيونية التركية ندد فيها بتراجع أمريكا وروسيا عن "وعودهما بإخراج الإرهابيين من سورية." كما طالب الحكومة العراقية بتحمل مسؤولياتها في حماية الهيئات الدبلوماسية الأجنبية وذلك بعد تعرض القنصلية التركية في الموصل لهجوم صاروخي قبل ساعات من حديث تشاووش أوغلو.
في الواقع، فقد تعرضت القواعد التركية في شمال العراق وسورية لسلسلة من الهجمات الصاروخية التي تبنتها ميليشيات موالية لإيران. وجاءت تلك الهجمات قبل وبعد قمة طهران التي جمعت رؤساء إيران وتركيا وروسيا، وقرأها المراقبون على أنها رسالة واضحة لتركيا. وقد اتهم مسؤولون عراقيون ومليشيات موالية لإيران تركيا باستهداف موقع سياحي في دهوك، شمال العراق، مما أسفر عن نحو40 قتيل وجريح بعد ساعات من انتهاء القمة التي كشفت عن خلافات عميقة بين الشركاء. وقد أبلغت المبعوثة الخاصة للأمم المتحدة إلى العراق، جينين هينيس بلاسخارت، مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعد أيام قليلة من الهجوم، أن تركيا رفضت تلك الاتهامات ودعت إلى إجراء تحقيق مستقل وشفاف، واتهمت حزب العمال الكردستاني بضلوعه في الهجوم.
على كل حال، يبدو أن خطاب جاويش أوغلو الأخير يشير إلى أن تركيا ستتخلى عن سوريا للنظام. لكن الملفت في تصريح تشاووش أوغلو كان حديثه عن "الحق الطبيعي للنظام (السوري) أن يزيل التنظيم الإرهابي من أراضيه"، في إشارة إلى تنظيم قوات سورية الديموقراطية (قسد) الذي يسيطر على مناطق واسعة في الشمال السوري. لا بل ذهب تشاووش أوغلو إلى حد إبداء استعداد حكومته لتقديم " كل أنواع الدعم السياسي لعمل النظام في هذا الصدد" مطلقاً العنان لكثير من التكهنات حول النوايا الحقيقية للحكومة التركية من هذه التصريحات.
مع انتهاء قمة سوتشي التي جمعت الرئيسين التركي والروسي في 5 آب الجاري، تعزز الانطباع العام -خاصة لدى الأوساط الثورية السورية- بأن قمة سوتشي حلقة جديدة في مسلسل التغير في تعاطي تركيا مع الملف السوري. فقد تقاطع حديث الرئيس إردوغان عن رغبة روسيا بأن يتم القضاء على التهديدات الإرهابية من خلال التعاون التركي مع نظام الأسد مع الحديث السابق لتشاووش أوغلو بدعم النظام لتحقيق هذا الغرض.
ومع تأكيد الرئيس إردوغان على وجود تعاون بين أجهزة الاستخبارات التركية والسورية، زادت المخاوف من تخلي تركيا عن الثورة السورية. لكن إعلان تشاووش أوغلو في 11 آب الجاري عن لقائه وزير خارجية الأسد وتأكيده بأنه يجب إجراء مصالحة بين "المعارضة والنظام بطريقة ما وإلا فلن يكون هناك سلام دائم"، حسمت التوجه التركي بفتح قنوات حوار مع النظام على أعلى المستويات.
التطبيع التركي مع النظام سلاح ذو حدين
رغم إدراك القيادة التركية لمخاطر التحول الدراماتيكي في موقفها من نظام الأسد، تبدو مصرة على المغامرة بمكانتها وبمستقبلها السياسي. فالحكومة التركية تدرك يقيناً بأن النظام السوري لن يتخذ أي إجراء أمني أو عسكري أو سياسي قبل حصوله على موافقة إيران وروسيا وبأنه أصبح مسلوب الإرادة والسيادة. بناءً على هذا الفهم، فإن التواصل مع الإيرانيين والروس أجدى نفعاً لضمان المصالح التركية. وتدعم تصرفات روسيا هذا التفسير، حيث قام ضباطٌ روس في القواعد الروسية في سورية بمنع رئيس النظام ووزير دفاعه من مشاركة المسؤولين الروس في استعراض القوات الروسية، إضافة لعدم إقامة مراسم استقبال رسمية له في زياراته الأخيرة لموسكو.
ويمكن النظر إلى تكرار الحديث عن إمكانية إجراء اتصالات بين الجانبين التركي والسوري -بما في ذلك احتمال إجراء مكالمة بين الرئيسين- على أنه سلاح ذو حدين بالنسبة لأنقرة. فمن جهة أولى، تعمل حكومة حزب العدالة والتنمية على تجريد المعارضة التركية من أوراقها التي تعتمد عليها في دعايتها الانتخابية ضدها خلال الأشهر التي تسبق انتخابات التركية في يونيو 2023. وإذْ تعتبر المعارضة التركية مشكلة اللاجئين السوريين أهم أسباب الأزمات التركية الداخلية والخارجية، فإنها ترى أن تطبيع العلاقات مع النظام السوري هو السبيل الأمثل لحلها، كما أوردت جريدة "المدن" الإلكترونية عن موقع 'دوتشه فيلله' التركي في 4 آب الجاري.
من هنا، يفسر كثير من المراقبين التصريحات الأخيرة اللرئيس إردوغان وتشاووش أوغلو على أنها محاولة لحرمان المعارضة التركية من الاستفادة من هذه الورقة. كما يمكن وضع تصريحات المسؤولين الأتراك عن وضع خطة لإعادة مليون لاجئ سوري "طوعيا" إلى الشمال السوري في نفس سياق انتزاع أوراق المعارضة التركية التي ستخوض بها انتخابات 2023.
من ناحية أخرى، فإن فتح قناة اتصال على مستوى سياسي رفيع بين تركيا ونظام الأسد قد ينعكس سلباً على حكومة حزب العدالة فتخسر أصدقاءها دون أن تضمن كسب ضد أعدائها. حيث ستعتبر المعارضة السورية أي حوار من هذا القبيل التفافاً على مطالبها وطعنة في الظهر لا يمكن التنبؤ بتبعاتها. فمع خسارة تركيا لمكانتها كضامن من المحتمل أن تفشل في كبح جماح بعض فصائل المعارضة التي من المرجح أن تنفذ عمليات ضد النظام، كما فعلت من قبل.
أما إذا أصرت تركيا على ضبط الفصائل من خلال قواتها المنتشرة في مناطق المعارضة، فمن غير المستبعد أن تحدث اشتباكات بين الطرفين. وسيعود هذا السيناريو بالفائدة على النظام وداعميه فقط. بإقدامها على التطبيع، ربما تكسب انقرة هامشاً على المستوى الداخلي حتى بلوغ انتخابات 2023، لكنها ستكون قد خسرت رصيدها عند الشعب السوري الثائر على نظام الأسد وربما ت يتحول من صديق داعم إلى عدو دائم.
وبالفعل فقد بدأت مظاهرات في مناطق عديدة مع انتشار دعوات للقيام بمظاهرات أوسع في الشمال السوري في الأيام القادمة احتجاجاً على دعوات تشاووش أوغلو لمصالحة المعارضة مع النظام. في تلك الليلة، خرج المتظاهرون السوريون في مظاهرات مسائية في عدة مدن في الشمال السوري تخلل بعضها هجمات على بعض رموز الدولة التركية. كما عبّر كل قادة الفصائل عن رفضهم للموقف التركي الجديد الذي يفرّط بحقوق السوريين خدمةً للأمن القومي التركي ولتحقيق مصالح انتخابية ضيقة تخص حزب العدالة فقط.
ونشر كثير من الناشطين السوريين تغريدات تذكّر القيادة التركية بما ارتكبته قوات النظام والمليشيات الطائفية الموالية لها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من خلال قتل مئات آلاف السوريين إضافة لاحتجاز عشرات آلاف الأبرياء ورفض الإفراج عنهم أو الكشف عن مصيرهم. هذه الممارسات وسواها كثير تجعل مجرد طرح فكرة التطبيع مع النظام أو المساومة على الثوابت خيانة كبرى بالنسبة للشعب السوري.
وبصرف النظر عن غضب المعارضة السورية، فإن تأثير هذه الخطوة على السياسة الداخلية التركية ليس مضمونًا بأي حال من الأحوال،. فربما تخسر حكومة حزب العدالة جزءً لا بأس به من أصوات الناخبين الأتراك الذين يقفون مع الثورة السورية ويصعب عليهم رؤية حكومتهم تلقي "بالمظلومين" في أحضان "الظالمين". حيث تشكِّل روابط الدين والمذهب والتاريخ المشترك دافعاً قوياً لتعاطف الشعب التركي الواسع مع الشعب السوري الذي يتعرض لحرب إبادة طائفية. وقد رفع وقوف حكومة حزب العدالة إلى جانب الثورة السورية من أسهمها على الصعيدين الشعبي والإسلامي. وهذا يعني أن الحكومة التركية ستخسر مكانتها هذه في حال تخليها عن الشعب السوري لأي سبب كان.
على النقيض من ذلك، فمن غير المرجح أن يغير التواصل مع النظام من رأي الأتراك المعارضين لحكومة حزب العدالة أو يدفعهم للتصويت لها. فهؤلاء يعارضون هذه الحكومة من منطلق أيديولوجي معارض للسياسات المحلية لحزب العدالة والتنمية ومعارضة لأسلمة ممارساتها السياسية. لا بل إن معارضي الرئيس إردوغان سيستخدمون أي انعطاف كبير في علاقته بالنظام السوري كورقة انتخابية ضده من جهة صواب رؤية أحزاب المعارضة التي دأبت على مطالبة الحكومة التركية بفتح حوار مع النظام السوري مقابل رفض الحكومة لهذه المطالب. وبذلك تكون الحكومة قد أقرّت 'بقصر نظرها' في التعاطي مع الأزمة السورية مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من ذهاب أصوات مؤيديها إلى حساب المعارضة 'الأبعد نظراً'.
علاوةً على ذلك، فمن المستبعد أن يسهم التواصل مع النظام السوري في إنهاء أو حتى تقليل حالة التنافس الجيوسياسي التركي-الإيراني أو التركي-الروسي في منطقة الشرق الأوسط. لا بل سيسهم هذا الحوار بتطويق أذرع إيران للحدود الجنوبية لتركيا. وقد دفعت هذه الديناميكية الجيوسياسية أحمد داوود أوغلو عندما كان رئيساً للوزراء بين 2014-2016 للتوصية بالتدخل عسكرياً لمنع سقوط حلب وإبقاء أعداء تركيا على بعد عشرات الكيلومترات من حدودها الجنوبية. ورغم قيادة داوود أوغلو لأحد الأحزاب المنافسة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة، إلا أنه يعارض بشدة فتح قناة حوار مع نظام الأسد لإدراكه أن ذلك يعني تمركز إيران وأذرعها على طول الحدود الجنوبية لتركيا. كما سيعني ذلك إمكانية إعادة تشكيل "الممر الإرهابي" والتفريط بالمكتسبات التي حققتها تركيا بعد عمليات ’ درع الفرات‘، وغصن الزيتون‘، ونبع السلام‘، في الشمال السوري ضد تنظيمي داعش وقسد.
بين حسابات انتخابية ضيقة وحسابات إقليمية ودولية معقدة، تحاول القيادة التركية إحداث توازن يبدو هذه المرة أصعب من أي وقت مضى. وفي حين أن الثورة السورية تبدو الحلقة الأضعف في هذه العلاقات، إلا أن القيم الإنسانية التي تمثلها والتضحيات التي قدمتها تجعل التخلي عنها أو التآمر عليها لعنة تلاحق كل من يحاول النيل منها. كما أن ميزان الربح والخسارة يشير إلى أن تخلي الحكومة التركية عن الثورة سيساهم فقط بتأجيل المواجهة الكبرى مع أعداء تركيا ليصبح ميدانها الداخل التركي بدلاً من امتداده عشرات الكيلومترات داخل الأراضي السورية.