في الرابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير الماضي وخلال كلمته باحتفالات عيد الشرطة المصرية فاجأ الرئيس السيسي الجميع بالحديث عن نسب الطلاق المرتفعة في مصر ومدى خطورتها على امن واستقرار الأسرة، وطالب بتعديل قانون الطلاق ليصبح الطلاق المعتمد فقط هو الموقع أمام المأذون (رجل الدين المختص).
وبعد مطلب السيسي بتعديل قوانين الطلاق بأسبوعين تقريبا أصدر الأزهر - ممثلا في هيئة كبار العلماء- بيانا ممهورا بتوقيع الإمام الأكبر يرفض فيه هذا التعديل المتنافي مع الشرع على حد تعبيره، ولم يكتف البيان برفض مقترح السيسي فقط، بل ختم البيان بفقرة صادمة وموجه على ما يبدوا بشكل غير مباشر للرئيس قائلًا: «على مَن «يتساهلون» في فتاوى الطلاق(…) أن يَصرِفوا جُهودَهم إلى ما ينفعُ الناس ويُسهم في حل مشكلاتهم على أرض الواقع؛ فليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم».
دفع بيان الأزهر شديد اللهجة، ثم غياب شيخ الأزهر عن الندوة التثقيفية التي عقدتها الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، دفع الكثيرون إلى إثارة موضوع ماهية الصدام بين الرئيس والإمام الأكبر، خصوصا أن هذا ثاني خلاف بادي بين السيسي والطيب في فترة وجيزة، حيث يذكر انه حين قررت الدولة توحيد خُطب الجمعة، اعترض الأزهر وأصدر بيان يرفض فيه ذلك القرار قائلا انه سيؤدي إلى تجميد الخطاب الديني وتسطيح فكر أئمة المساجد.
وبشكل عام فكرة "صدام" بين الأزهر والدولة بمعناه الواسع ليست مطروحة، فعلى ارض الواقع الأزهر "كمؤسسة دينية علمية" يستمد قوته من السلطة نفسها التي تستدعى الأزهر للوقوف بجانبها في مواجهة التيارات الدينية المعارضة سواء الجهادية والسلفية ومؤخرا الإخوانية، هو ما يكسب الأزهر قوه فعليه (لا روحية فحسب) ويكسب شيخها وضعا خاصا في المشهد السياسي، وتجاهل السلطة للأزهر أو تحييده سيجعل شيخ الأزهر عملياً لا يفرق كثيرا عن رئيس أي مؤسسة غير دينية.
وبنظرة تحليلية لأبرز محطات الخلاف بين الدولة والأزهر نجدها كانت دوما تنحصر في ما يراه الأزهر تهديدا مباشرا لوجوده والدور الذي يرى نفسه مخولا له، ففي عهد السادات حدث خلاف بين الرئيس والأزهر حول تعديل قانون الأحوال الشخصية الذي عرف وقتها بقانون “جيهان السادات"، وهو ما اعتبره الأزهر تجاوزا له وتعديا على بعض مواد الشريعة ليتراجع الرئيس، ثم يقرر إلغائه بعدها.
وفي عهد مبارك نظمت مصر مؤتمر السكان سبتمبر 1994م، وصدرت مسودة المؤتمر تدعو للانتصار للحريات الشخصية، وهنا خاض الأزهر بقيادة الإمام جاد الحق، صدامه الأول والأخير ضد دولة مبارك، معتبرا المسودة تدعو لحريات تخالف شرع الله مثل الزنى والإجهاض والمثلية الجنسية، فيحتوى مبارك الأزمة ببيان تحدث فيه عن أن مصر المسلمة لن تسمح للمؤتمر بأن يصدر أي قرار يصطدم مع الدين والقيم.
الأزهر اذاً كما يبدو من رصد محطات خلافه مع الدولة لا يتحرك لأسباب عامة (اجتماعيه /سياسية)، هو فقط يتحرك عندما يتعرض الأمر لصلاحياته وسلطاته الشرعية المكتسبة، وهو ما استمر في عهد السيسي. لقد وافق الأزهر أن يكون جزء من تحالف 30 يونيو، وبارك الإطاحة بالرئيس الإخواني، وحين حدثت مذبحة رابعة أصدر بيان شديد الدبلوماسية ترحم فيه على كل الأرواح التي زهقت (من الطرفين) ولم يسميها مذبحة ولم يدين أي طرف بشكل واضح.
وقبل التوقف عن طبيعة الصدام بين مؤسسة الرئاسة والأزهر، يجب علينا أن نفهم أيضا بنية الأزهر نفسه حتى يتسنى لنا تأطير جذور الصراع ومعرفة مصدره. ومن ثم، يجب أن ندرك أن اختزال مواقف "الأزهر" في شخص "الإمام الطيب" هو اختزال مخل يؤثر على تقييمنا للموقف، فشيخ الأزهر رغم مكانته إلا أنه ليس الآمر الناهي داخل المؤسسة الدينية العتيقة منفردا، فهناك كيانين يمكن القول انهم مفاصل المؤسسة اللذان دونهما لن يستطيع الإمام الأكبر التحرك، وهما مجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء.
ووفقا للقانون رقم 61، يعتبر مجمع البحوث الإسلامية الذي يرأسه الدكتور محى الدين عفيفي هو الجهة المنوط بها تجديد الخطاب الديني وتنقية الثقافة الإسلامية من شوائب التعصب. يضم مجمع البحوث الإسلامية أعضاء يمثلون المذاهب المختلفة، حيث تم انتقائهم من بلدان شتى لإعطاء المجمع الطابع العالمي (20 عضوا من غير المصريين وثلاثون عضوا مصريا).
أما هيئة كبار العلماء، التي تأسست في مطلع القرن الماضي، فقد تلاشى دورها واندثر عبر السنوات لكن في أعقاب ثورة 25 يناير وبالتحديد أثناء إدارة المجلس العسكري للبلاد تم إحيائها مرة أخرى، وعدل القانون الخاص بيها في 2012 لينص على أن الهيئة هي الجهة المنوط بها البت في الأمور الدينية واختيار شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية. كان الهدف من ذلك القرار هو تحصين الأزهر من هيمنة السلفيين والعمل على ألا يصل سلفي لمقعد الإمام الأكبر أو يصبح المفتي سلفيا، وهو ما دفع المجلس العسكري ورئيس الوزراء حينها كمال الجنزوري بالتنسيق مع الإمام الطيب لتعديل القانون ووضع تلك الصلاحيات في يد "هيئة كبار العلماء". لكن في أعقاب 30 يونيو وبعد الإطاحة بحكم الإخوان، عُدل قانون الهيئة مرة أخرى وسلب منها أن تكون المرجعية الأولى لكل ما يتعلق بالشؤن الإسلامية وان كان بقي لها حق اختيار المفتي وشيخ الأزهر.
تلك الجهتان هما مراكز القوي داخل المؤسسة الدينية العتيقة، واي حديث عن صدام أو حتى خلاف بين "الإمام والرئيس" يجب ألا يتم بمعزل عن تلك المراكز خصوصا هيئة كبار العلماء، حتى البيانات الصادرة والتي تحمل توقيع شيخ الأزهر، فهي لا تعبر عن شيخ الأزهر نفسه لكنها تعكس موقف كبار العلماء، لذا فالطيب شخصيا ليس هو بطل مشهد الصدام المزعوم كما يظن الكثيرون.
ومن ثم، فالعلاقة بين الدولة والأزهر هي علاقة منفعة متبادلة، الدولة تدرك جيدا احتياجها له معنويا في مواجه التيارات الدينية الأخرى، فوجوده في الصورة دوما يضفي صبغة من “الشرعية" على المشهد، وينفي أي اتهام بالعلمانية أو محاربة الدين حال سحقها لقوى الإسلام السياسي المناوئ. تلك العلاقة النفعية قد يعكرها ما قد يراه المشايخ تهديد مباشر لمكانتهم ومصالحهم، كما حدث مؤخرا سواء في قرار "توحيد الأذان"، أو مقترح السيسي تعديل قانون الطلاق الذي ببساطه يتجاوزهم ويؤسس لفكرة أن الحاكم يمكنه أن يتدخل في تعديل قوانين شرعيه دون الرجوع إليهم. لكن هل ذلك سيتحول إلي صدام مفتوح، أو هل سيؤثر بشكل حقيقي على العلاقة بين الرئاسة والأزهر بما ينعكس على البلاد واستقرارها النسبي …. الإجابة قطعا لا.