- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تشجيع أمريكي للتعاون العسكري في المنطقة: عملية مستمرة
رغم التزام الولايات المتحدة الأمريكية إلى حدّ كبير بنقل تركيزها شرقًا، بعيدًا عن الشرق الأوسط، إلا أنها بذلت جهودًا واضحة لإيجاد بدائل إقليمية بغية حماية مصالحها
في العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر، أطلقت "القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية" مناورات عسكرية مشتركة في الخليج العربي مع الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والبحرين. وكان الهدف من هذه المناورة التدريبية التي استمرت خمسة أيام تعزيز قابلية التشغيل البيني للقوات البحرية للدول المشاركة. وقد أعقبت تلك المناورات، محاولات نفذتها إيران مؤخرًا لبسط سيطرتها على الممرات المائية. ويمكن للديناميكيات الإقليمية الأشمل التي تدعم هذا المسعى المشترك، والمحفزات السببية التي حددت توقيتها أن تسلّط الضوء على استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في ظل تجدد التركيز على منطقة المحيط الهندي-الهادئ، وتنامي العداء الإيراني. ولقد حملت المناورات البحرية الأخيرة بين الولايات المتحدة والإمارات وإسرائيل والبحرين والتي ركزت بشكل خاص على أساليب الرد على العمليات البحرية الهجينة حمل رسالة واضحة وصريحة.
علاوة على ذلك، وبعد وقت قصير من تلك المناورات، أطلقت كل من قوات الدفاع الأمريكية "سبارتان" والقوات البرية الملكية السعودية، والقوات البرية الكويتية مناورات "رماية الخليج 2021" استغرقت ثمانية أيام. في مجمع العديعة في الكويت. كل ذلك يشير إلى استمرار المشاركة الأمريكية في رفع قدرة شركائها على ردع التهديدات.
ورغم أن الولايات المتحدة التزمت إلى حدّ كبير بنقل تركيزها شرقًا، بعيدًا عن الشرق الأوسط، إلا أنها بذلت جهودًا واضحة لإيجاد بدائل إقليمية بغية حماية مصالحها. علاوةً على ذلك، كان التصرفات العدوانية الإيرانية السبب الأساسي خلف التعاون بين الولايات المتحدة وشركائها، الأمر الذي أصبح أكثر سهولة بفضل "اتفاقات إبراهيم" المبرمة مؤخرًا. ومن المرجح أن تواصل هذه التحالفات الجديدة رسم معالم التعاون الإقليمي في وجه العبء المزدوج المتمثل باستمرار التهديدات الإيرانية وتبديل الولايات المتحدة لمحور تركيزها.
هذا وكان نقل الولايات المتحدة تركيزها نحو آسيا قد انعكس في أجنحتها العسكرية والسياسية والدبلوماسية. مع ذلك، ورغم عدم رغبة الشرق الأوسط وواشنطن بوجود بصمة عسكرية أمريكية كبيرة في المنطقة، لا تزال الأزمات القصيرة الأمد والمصالح الطويلة الأمد المماثلة تجعل من انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط بشكل كلي مستحيلًا. فالهجمات التي شنتها إيران مؤخرًا ضد منشآت الطاقة السعودية، وأزمة غزة في حزيران/يونيو الماضي، واستمرار أزمة المهاجرين في بيلاروسيا خير دليل على أن الأحداث التي تجري في الشرق الأوسط تترك أثرًا عالميًا، وستواصل بالتالي جذب انتباه الولايات المتحدة إلى المنطقة.
علاوةً على ذلك، عندما يتعلق الأمر بالمنافسة الاستراتيجية، يصبح الشرق الأوسط مجددًا ساحة لنزاعات القوى العظمى، كما حصل خلال القرن العشرين. فموقع الشرق الأوسط والخليج العربي الاستراتيجي عند مفترق طرق اقتصادي عالمي يجعل المنطقة مهمة بالنسبة للقوى العالمية. كما أن الاتفاق الذي وقعته الصين مؤخرًا لمدة 25 عامًا بقيمة 400 مليار دولار مع إيران يؤكد وجهة نظر الرئيس بايدن بأن الصين تشكل تحديًا كبيرًا للمصالح الأمريكية، ويثبت أن الولايات المتحدة ستبقى منخرطة في الشرق الأوسط لعدة سنوات قادمة.
الجدير بالملاحظة أنه، في حين نقلت الولايات المتحدة تركيزها نحو منطقة المحيط الهندي-الهادئ، إلا أنها واصلت في الوقت نفسه أفعالها المعادية لإيران، ولو من خلال وجود محدود. ويعود سبب نجاح هذه الاستراتيجية عمومًا إلى الشراكات الأمريكية مع حلفائها الخليجيين وإسرائيل. وبفضل "اتفاقات إبراهيم"، يصبح الأمر أسهل من خلال زيادة الروابط بين إسرائيل والشركاء الخليجيين أنفسهم.
وخلال السنوات القليلة الماضية، ساهمت الاستراتيجيات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية إلى حدّ كبير في إقامة تحالف وتعاون بين مختلف الأطراف في منطقة الشرق الأوسط والخليج. وكان أحدثها مشروع "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي" (MESA)، الذي لم يلق نجاحًا كبيرًا لجهة استحداث آليات للتعاون الطويل الأمد والمستدام.
ومنذ العام 2017، أحرزت الولايات المتحدة وإسرائيل تقدمًا ملحوظًا إزاء كبح أعمال إيران العدائية. وتمكّن البلدان من شنّ هجمات مباشرة وتوجيه ضربات موجعة لأصول إيرانية حيوية، من أجل ردعها وحرمانها من مزايا الابتزاز الذي تمارسه. فمن خلال العمليات العسكرية والسيبرانية والعمليات السرية والعلنية التي شنتها القوات الأمريكية والإسرائيلية ضد إيران، ووكلائها وميليشياتها داخل إيران، أو سوريا، أو العراق، أو لبنان أو في البحار عمومًا، نجحت الولايات المتحدة وحلفاؤها في منع إيران من إعداد عملية انتقام شاملة. في حين، يمكن وصف رد إيران على هذه الهجمات بأنه رمزي أو حتى ضعيف سواء عندما ردت على مقتل القائدين البارزين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس أو عمليات اغتيال قادة أقل شهرة وأهداف استراتيجية أكثر أهمية.
يُذكر أن التطورات التي شهدها العام الفائت فتحت المجال أمام آفاق جديدة. فقد وفرت "اتفاقات إبراهيم" التاريخية، التي سهلتها الإدارة الأمريكية السابقة بين إسرائيل والبحرين والإمارات ومن ثم المغرب والسودان، فرصًا جديدة للعمل الاستراتيجي المشترك على صعيد الحدّ من المخاطر والإحجام عنها. وبالطبع، يُعتبر كبح قدرات إيران على التهديد عاملًا أساسيًا خلف هذه الجهود.
وتؤكد التصريحات الأمريكية والإسرائيلية الرسمية حول المناورات العسكرية التي جرت في 10 تشرين الثاني/نوفمبر هذا المنحى. ففي مؤتمر صحفي، قال أحد المسؤولين الإسرائيليين في القوات البحرية أن الولايات المتحدة كانت تقود التعاون العسكري كوسيلة لإحباط محاولات إيران مؤخرًا لبسط سيطرة إقليمية على الممرات المائية. واستشهد المسؤول الإسرائيلي بهجوم تموز/يوليو على ناقلة النفط "ميرسر ستريت" التي ترفع العلم الليبيري، والذي أودى بحياة شخصين، مع العلم بأنه عند حدوث الهجوم، أصدر وزير الخارجية أنتوني بلينكن بيانًا أعرب فيه عن ثقته بأن إيران هي التي نفذت الهجوم ووعد برد جماعي.
ورغم اعتمادها محور تركيز استراتيجيًا جديدًا، استفادت الولايات المتحدة من شركائها الإقليميين للحفاظ على نفوذ استراتيجي ملموس في الشرق الأوسط من أجل حماية وضمان مصالحها الحيوية. ونظرًا إلى الوضع الإقليمي الراهن، والاضطرابات العديدة التي تكتنفه، يجب أن نتوقع زيادة الولايات المتحدة لاستثمارها في تدابير تعزيز الثقة والشراكات مع الدول الشريكة. ويبدو أن مقاربة جديدة مماثلة إزاء الأمن والاستقرار في المنطقة تترسخ ولو تدريجيًا.
من جهتها، تواصل إيران زعزعة استقرار المنطقة باستخدام الحرب الهجينة، برًا وبحرًا، في محاولة لنشر أنشطتها من مضيق هرمز إلى باب المندب وحتى أبعد من ذلك نحو البحر الأبيض المتوسط.
تجدر الملاحظة أن منطق جهود إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة يقوم على عدة عناصر، أهمها قدرة طهران على الاستمرار في الإنكار وسط زيادة التوترات وبإطلاق التهديدات باحتمال إشعالها حرب إقليمية شاملة وشيكة. ولطالما قامت الحسابات الإيرانية على مبدأ أن خصومها لن يتخذوا أي إجراء أو ينتقموا، ما سيسمح لإيران بتحقيق أهدافها بشكل أكبر على الأرض.
وفي حين أن إسرائيل والولايات المتحدة تنجحان في ردع إيران على الأرض، أتاحت "اتفاقات إبراهيم" نقلة ثقافية وسياسية واستراتيجية أضعفت قدرات إيران الإيديولوجية ووجهت ضربة صادمة إلى حملتها الدعائية المستمرة ضد إسرائيل. فالظاهرتان مهدتا الطريق أمام الخطوة الأحدث هذه باتجاه تحقيق تعاون ناجح كما تجلى من خلال المناورة البحرية التي دامت خمسة أيام. ويعدّ دخول الولايات المتحدة إلى حقبة ما بعد الحرب الأفغانية نقطة تحول حاسمة في السياسة الخارجية الأمريكية. ففي وقت تسلّط فيه الولايات المتحدة الضوء على ميلها نحو عدم الانخراط في النزاعات الإقليمية من جهة، يجدر بها أن تبقى ملتزمة ببناء تحالفات إقليمية تقوم على أعباء ومصالح مشتركة من جهة أخرى، بهدف الحفاظ على وجود محدود إنما مؤثر ومواصلة السعي إلى تحقيق هدفها الأشمل المتمثل بالتصدي للصين.
ورغم أن إدارة بايدن قامت بتحديث "استراتيجية الأمن القومي" الصادرة خلال عهد ترامب، إلا أن الخصائص الرئيسية لتلك الاستراتيجية لا تزال على حالها عمومًا. ويبقى التركيز منصبًا على التصدي لتهديدات الصين وروسيا، والحدّ من انخراط الولايات المتحدة في حروب صغيرة، كما كانت عليه الحال منذ اعتداء 11 أيلول/سبتمبر.
وبالطبع، لقد تغيرت المصالح الأمريكية، بما فيها اعتماد الولايات المتحدة على طاقة الشرق الأوسط، ما دفع بالبعض إلى الترويج لفكرة أن صعود القوتين المتنافستين، الصين وروسيا، يعني أن تركيز واشنطن الكبير على الشرق الأوسط غير ضروري أو حكيم. لكن سرعان ما سيتبين أن هذه الحجة غير صالحة. فضلًا عن ذلك، لا بدّ من ملاحظة أن أي حدث صغير يجري في المنطقة لا يؤدي إلى تأجيج توترات في المنطقة بكاملها فحسب، بل يثير الاضطرابات في المناخ السياسي العالمي بأسره. نذكر بعضا منها فحسب، هجوم إيران على منشآت الطاقة في السعودية، وآخر أحداث شهدتها غزة، وكذلك الأزمة الجديدة بين بيلاروسيا وبولندا المرتبطة بالمقايضة الروسية مع الجوع القاهر الذي يعانيه اللاجئون السوريون.
ومرة أخرى، يصبح الشرق الأوسط، كما كان خلال القرن العشرين، ميدانًا مفتوحًا للنزاعات ولعبة إعادة إرساء التوازن بين القوى الكبرى. فالتطورات الأخيرة التي سجلتها أسعار النفط أثبتت مركزية اقتصاديات الطاقة ومركزية منطقة الخليج في ضمان توازن الاقتصاد العالمي. وفيما تواصل الولايات المتحدة التركيز على تطوير قدراتها وقوتها البشرية في منطقة المحيط الهندي-الهادئ، يبدو أنها نجحت في توفير رادع مفيد لأنشطة إيران المزعزعة للاستقرار باستخدام قوى محدودة والتعاون مع دول صديقة في المنطقة وتعزيز وجودها بحدّ أدنى ليس إلا، ما أوجد على الأرجح أساسًا يمكن التعويل عليه في المستقبل.