- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تطمينات واشنطن ومخاوف القاهرة
"أريد فقط، أن أُعلم الجميع، أننا نقف بقوة خلف الرئيس السيسي، لقد قام بعمل رائع في وضع شديد الصعوبة، ونحن نقف خلف مصر، وخلف شعب مصر". بهذه الكلمات عبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عن ترحيبه بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي، ترحيب ممزوج بإعلان واضح عن دعم النظام المصري، وهو بالضبط ما كان يبتغيه السيسي.
ومنذ صعود الرجل لسدة الحكم في أعقاب الإطاحة بالرئيس "الإخواني" محمد مرسي؛ وهناك انقسام حوله، فالبعض يراه منقذا للبلاد من الحكم الديني، والبعض الآخر يراه انقلابيا، سفك دماء المئات، وانقض على الحكم بالدبابة. هذا الانقسام لم يكن محليا فحسب، بل كان دوليا أيضا، ولو أن التحفظ الدولي على الرجل لم يدم طويلا؛ إذ سرعان ما اعترفت به الدول العربية، ثم الأوربية، الواحدة تلو الأخرى، فيما ظلت واشنطن عصية على الرجل. أي نعم، هي لم تعلن عداءها له، لكن وفي الوقت نفسه، لم يُخفِ الرئيس السابق باراك أوباما، تضايقه من السيسي، ومن طريقته في الحصول على السلطة. ولذلك لم يكن مستغربا؛ أن يبادر السيسي بالتعبير عن أمنياته بأن يفوز ترامب بالسباق الرئاسي، وعندما تحققت أمنيته، كان أول المهنئين.
لقد بدا جليًّا في كل الصحف والقنوات المصرية، مدى الاهتمام المبالغ من الإعلام المصري بزيارة الرئيس لواشنطن؛ مما يعكس أهمية هذه الزيارة بالنسبة للنظام الحاكم، فالسيسي يراهن على ترامب بقوة، ليس فقط بمنحة التأييد والتأكيد على شرعيته، بل أيضا، بالحصول على دعمه في الملف الاقتصادي الذي يعد اليوم، أكبر مأزق يؤرق الرئيس المصري. وتشير المؤشرات إلى نجاح زيارة السيسي بشكل كبير، فالرجل حصل على الدعم السياسي الأمريكي الذي أراده، والذي قد يعينه في مفاوضاته مع بعض الجهات المانحة، ليس هذا فحسب، بل إن بعض المقربين من الرئيس؛ صرحوا بأنه نجح في الحصول على وعد من ترامب، بعدم تخفيض المعونة الأمريكية العسكرية لمصر، وإن كانت هذه المصادر نفسها؛ تشكك في إمكانية استقطاب استثمارات أمريكية لمصر في الوقت الراهن، وهو المطلب الثالث الذي حمله السيسي في حقيبته.
وإذا كانت هذه الزيارة قد أدت إلى ابتهاج مؤيدي الرئيس، فإنها بالمقابل، خلقت قلقاً بالغاً في صفوف المعارضة، وتخوفا من تداعياتها، خاصة بين المهتمين بالجانب الحقوقي في مصر. فكثير منهم عبر بشكل واضح على صفحات التواصل الاجتماعي، عن قلقه من دعم ترامب للسيسي بهذا الشكل العلني الصريح، والذي قد تكون له انعكاسات سلبية على ملف الحريات في مصر.
إن هذا التخوف المنتشر بين صفوف النشطاء والحقوقيين؛ له ما يبرره، إذ ولعقود طويلة، اعتادت الأنظمة المصرية المتعاقبة، على أن تضع في عين الاعتبار؛ الضغط الأمريكي/ الغربي فيما يخص الجانب الحقوقي، فكانت دوما هناك "مظاهر" ديمقراطية متمثلة في وجود أحزاب معارضة: صحف مستقلة، نواب برلمان مشاكسون، ومراكز حقوقية، ومجتمع مدني ناشط إلى حد معقول... وبالطبع، لم تكن هناك ديمقراطية حقيقة، ولا تداول فعلي للسلطة. لكن النظام المصري كان يعمل دوما، على تحسين صورته أمام الغرب، وذلك عن طريق توفير هامش شكلي من الحرية، يسمح لكثير من الصحفيين والحقوقيين بالحركة والعمل في مصر وخارجها. إلا أن السيسي لما صعد للحكم؛ تبنى رؤية مخالفة لسابقيه فيما يتعلق بالحريات أو بصورته أمام العالم الغربي، حيث استغل الوضع الدولي المعاصر، ليروج لنفسه في صورة من يحارب الإرهاب، وبذلك حُقَّ له ألَّا يترك للإعلام أو للحقوقيين فرصة لعرقلته، أو لنشر الفتن والتحريض ضد الدولة.
ومع مرور الوقت؛ تمكن الرجل من إعادة الأمن المفقود وضبط إيقاع الشارع بدرجة كبيرة، مما خلق حالة استقرار نسبي طمأن المواطنين إلى حد مقبول، لكن في الوقت ذاته، بدأت الأزمات الاقتصادية الخانقة تظهر، ثم استفحل الإحساس بالفقر مع بدء مصر في تطبيق طلبات صندوق النقد الدولي الخاصة بتقليل الدعم، ثم تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار الأمريكي، وهنا بدأت الانتقادات تعلو، ليس فقط تجاه موقفه من الحريات، بل من قراراته الاقتصادية التي يراها البعض كارثية. ثم جاءت أزمة جزيرتي "تيران وصنافير" اللتين قرر النظام تسليمهما للملكة العربية السعودية بشكل مفاجئ، مما أفرز غضبًا شعبيًّا عارما، لم يزِدِ العلاقة بين السيسي والقطاعات الناشطة إلا احتقانا، وترجم ذلك إلى مزيد من العنف من جانب الدولة، والتي وسعت من عمليات الاعتقالات والمحاكمات؛ لتطال كثيرًا من الأصوات المعارضة، ليس فقط في صفوف النشطاء، بل تعدتها إلى الصحفيين والحقوقيين ومراكز المجتمع المدني.
وأتى فوز ترامب؛ ليلقى صدى واسعًا من السعادة بين أنصار السيسي في مصر، في الوقت نفسه الذي ألقى بمخاوف حقيقية لدى معارضي هذا النظام، المطالبين بالديمقراطية. فالمتشابهات بين الرئيسين كثيرة، بدءًا من موقفهما من الإسلام السياسي وانتهاء بطريقة تعاملهما مع الإعلام. وهو ما ينبِئُ بتقارب ملحوظ بين الرجلين، قد يساهم في اكتساب السيسي لمزيد من الثقة. وهذا ما يخيف المعارضين له. إذ قد ترجم تلك الثقة إلى مزيد من " البطش" على حد تعبير احمد فوزي القيادي بالحزب المصري الديمقراطي.
لكن الباحث السياسي محمد نعيم له رأي أخر، فهو يرى انه مبكرا جدا الحكم على انعكاس الزيارة على ملف الحريات المتدني بالفعل حاليا. نعيم لم يكن يغرد خارج السرب بل أن هناك عدد لا بأس به من النشطاء يرون أن الحريات في مصر الأن وصلت لدرجاتها الدنيا وعليه فدعم ترامب للسيسي لن يحدث فارق ملحوظ، هو فقط سيجعل السلطة أكثر ثقة في سحق المعارضين وارتباطا بالموضوع، لم يمض يومان على عودة السيسي من أمريكا، حتى فوجئ الجميع بكارثة تفجير كنيستين، إحداهما في مدينة طنطا والأخرى بمدينة الإسكندرية يوم عيد الشعانين؛ ليلقى ثلاثة وأربعون شخصًا مصرعهم، وليُصابَ مائة وعشرون آخرون في العملية الإرهابية التي سرعان ما أعلن تنظيم ولاية سيناء مسؤوليته عنها. والمؤسف أن هذا الحادث؛ ليس أول حادث يتعرض له أقباط مصر من قبل تنظيم "داعش" الإرهابي، ففي شهر فبراير الماضي، استهدف تنظيم "ولاية سيناء" المناطق التي يسكنها الأقباط بمدينة العريش في سيناء، فقتل سبعة منهم، قبل أن يصدر تحذيرًا يخيرهم بين القتل أو الرحيل من العريش، لينتهي الموقف برضوخ مائة وعشرين أسرة مسيحية لتهديدات "داعش"، حيث تركوا مدينتهم وحياتهم هناك، نازحين صوب مدينة الإسماعيلية في غياب تام للدولة المصرية.
لقد كان رد فعل الدولة على تفجير الكنيستين؛ غاضبا ومرتبكا إلى حد كبير، وظهر ذلك جليا في قرار السيسي بنزول الجيش لتأمين المناطق الحيوية، وفي ظهور الرئيس في مساء يوم الحادث، على شاشات التلفاز معلنا حالة الطوارئ في البلاد، وهو الإعلان الذي كان ممزوجا بانتقادات حادة للإعلام الذي "يكرر بلا داع، مشاهد التفجير دون مراعاة لمشاعر المصريين" على حد وصف الرئيس.
إن قرار السيسي لم يكن إلا ليزيد مخاوف الصحفيين والحقوقيين، فها هي مصر تعود للأحكام العرفية ولقانون الطوارئ الذي تميز به حكم حسني مبارك طوال ثلاثين عاما، تم خلالها تقييد الحريات، وإذا كان البعض يرى في هذا القرار؛ مجرد تغير شكلي ليس أكثر، فإن الواقع يؤكد على أن ملف الحريات؛ قد وصل لأدنى مستوياته، بغض النظر عن دعم ترامب للسيسي من عدمه، وبغض النظر عن فرض حالة الطوارئ، حيث لم يتبق للحقوقيين ما يستحق الدفاع عنه والخوف من خسرانه. ومن جانبها ترى الدولة أن "داعش" وصلت إلى عمق البلاد، وأصبحت تنفذ عمليات إرهابية في المدن الكبرى؛ مما يجبرها على فرض تلك الحالة؛ للحفاظ على استقرار البلاد، وهو الاستقرار الذي ترى أنه تحقق بشكل ملحوظ في العامين الماضيين. إن المضحك المبكي في الأمر كله، هو موقف واشنطن من إشكالية الحريات في مصر، فالبيت الأبيض الذي طالما كان ملاذا للحقوقيين، يستندون إليه للدفاع عن ملف الحريات بمصر، حتى صارت الدولة تتهمهم بالاستقواء بالخارج، بات اليوم بالنسبة لهؤلاء الحقوقيين، أحد أكبر الجهات الداعمة للقمع والتنكيل.